الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هذا ما قاله محمود خليل في لحظة غفلة

ابراهيم زهوري

2012 / 4 / 15
الادب والفن



اختار لعودتنا نحن الاثنين طريق البساتين , تركنا وراءنا قبر أمي أبيضا وشجرة الورد والدالية في عناق غريب يستقبلون مهابة بشائر مطر هذه السنة , هذه المرة كان ينتشي بحضرة فيض الله الواحد الأحد , يتكلم عن تعب آخر المشوار وعن هوام الأرواح الغائبة وحضورها الاستثنائي للذين يترقبونها بلهفة عادتهم , تتهادى قدميه الطريق الترابي المرصوص كأنها تعد الخطوات خطوة خطوة , يرمي كلماته بحسن التعبير ويهمس علنا لي على غير عادته : - يصلح لمرور السيارات أليس كذلك !! وهو الذي عمل طوال عمره سائقا لسيارة أجرة , يجمع أنفاسة المتوثبة بين كتفية , يدس يديه بجيبي بنطاله المخمل المعتم ويرنو بنظره الى شمس خجولة تحتجب رويدا رويدا بين غيمتين ونصف صقيع ريح .
- نحن أيضا يا ابراهيم كان لنا بساتين , أنا نفسي زرعت قبل خروجنا في شهر كامل ما يزيد عن مئة شجرة زيتون صغيرة , يشرد قليلا ليبتسم في هدوء المتسائل ويردف قائلا :- ياترى ماذا حل بهم بعد كل هذي السنين !؟ بفطنة يتأمل برهة المزروعات في حقول الاخرين على طول الجانبين وهي تحتضن خيوطا رفيعة من صقيع جاف , تدمع عينيه من قسوة نسمة غير متوقعة ويضيف :- ما جدوى الأرض ان هي عرضت للبيع ويشير بإبهامه المطوي واستقامة سبابته نحو العمارات والمستودعات العشوائية التي بقعت سهول ملاعب طفولتي في هذا المنفى اليتيم , نعم خربت عين الناظر وشوهت من طيشها سلالة الروح الخضراء , يدفع بجسده السبعيني ما توفر له من نشاط واضح وقوة التصميم في استمرار نعمة الوقوف منتصبا مثل عود ريحان , يصمت لدقائق وكأنه يريد بوحا من بعد تحفظ :- جدتك لطفية الترشحاني يا ولدي ماتت وهي في ريعان شبابها عمرها لم يتجاوز الخمسة والثلاثين!!! خوفها المريع من اضافة توأم بنات لها الى أخواتهن الأربعة قتلها دونما رحمة , وصفة شعبية بدائية من جهل احداهن للأجهاض كانت الضربة القاضية فأجهزت على ثلاثتهن , عانت المسكينة الأمرين مرضا من تبعات تلك الحادثة المشؤومة لكنها في نهاية الأمر ركنت الى صمت المعذبين واستراحت في أبديتها .
- كبرت وترعرعت في كنف خالي فبقيت أنا وحدي أعمل في الأرض مع جدك أما عمك الذي يكبرني بعام واحد ذهب الى حيفا يحدوه البحث هناك عن عمل , تحملت ظلم القهر بعدما تزوج أبي ابنة خالتي التي أنجبت له ما تيسر من صبيان وبنات . كبرت وبدأ وعيي للظلم الذي يشتد يتفتح أكثر وأكثر حتى أني في أحد الأيام الضيقة الصعبة ومن شدة عزوفي عن مواجهة جور أهلي راكمت صبار صبري وحملته كنير ثقيل وكان قراري في فراري , تركت خلفي مكرها المعول وسقاية الأرض وحديث الأشجار للثمر وخرير النبع لمسك الحجر وشرعت قدماي في سباق عنيد باتجاه حيفا أيضا هربا من عبث معركة اللاجدوى , وبعد عدة أعمال هنا وهناك وعلى اثر مشاجرة عرضية مع عامل درزي سامحه الله هجرت عملي الأخير في مصنع السجاد والتحقت بقسم البوليس البريطاني وخلال التدريب ودورة الاعداد في الرملة زرت اكثر من مدينة في فلسطين وذلك كان من أهم الأسباب التي جعلتني احب الحياة العسكرية وتحديدا عندما استلمت البارودة وزين جسدي اليافع البذلة الكاكية وقدماي الحذاء الجلدي الأسود , فكنت مثالا للعسكري المثابر المطيع للأوامر والتعليمات حتى أن الضابط الانكليزي يندهش مرارا ويرطن بالانكليزية كأنه جنرال عصره ويبدي اعجابه الشديد من قوة التناسق في تأديتي للتحية العسكرية .
لم يمنحنا الوقت رحابته حتى وقعت الحرب , فورا رجعت بعتادي الى صفد والتحقت بكتيبة المجاهدين تعرفنا على شخصيات شجاعة كثيرة وخصوصا ياابراهيم من سورية منهم من جاء متطوعا ومنهم من كان عسكريا نظاميا في جيش الانقاذ . توقف هنيهة لايريد الاستفاضة في الحديث عن معارك صفد ويوم سقوطها وكأن غصة شديدة أيقظت ذكريات لا تسر السامع فكان لابد من الانتقال الى موضوعنا الرئيسي حسب ظنه .
- أمك لها فضل كبيرعلينا كلنا , استفقدها في كهف وحشتي وحيدا انتظر وقوف طيفها المتكرر عند العتبة , لا تريد الدخول لا أعرف لماذا , ألا تأتيك في منامك يسأل متوجعا هذه المرة ؟! أترك الاجابة لي دون أن يشعر وأستسلم بيني وبين نفسي اعزيها بقولي نعم ياأبي تأتيني في ليلي وفي صحوي ,
- نعم يا ابني فضلها أكثر من عظيم رغم كثرة خلافاتنا انا وهي في الآونة الأخيرة كلانا اختار رغم اجتماعنا طريقا مختلفا هي اختارت طوعا أولادها ودرب تربيتهم وأنا رغما عني مال اهتمامي كثيرا صوب ابناء اخي الراحل وأخواتي البنات حتى بعد زواجهن هكذا كنت في البداية مسؤولا عنهم وهكذا انتهيت .
- أمك رحمها الله بغفرانه , فريدة من نوعها مدبرة من الطراز الأول , عاقلة وفهمانة كيف لا وهي بنت عمي أساسا , أحببتها من أيام فلسطين يعني رفيقة العمر الطويل وصانعة كل شيء حسن , صنعت لنا من مرأيامها زبيب عمرنا الذي نحيا , ومن لوعة العتمة كانت تسرج قناديل صباحها وردا لروحنا الثكلى , دون مبالغة هي أضافت لنا فوق حياتنا حيوات كثيرة وهذا هو النعيم الحقيقي .
توقف أبي عن الكلام وزاغت عينيه في حيرة مستترة وكأني به يريد تحية الوداع عندما وصلنا الى رصيف شارع المخيم من ناحية الجنوب حيث انتقلت حديثا انا وزوجتي وولدي الصغيرين الى بيت أجرة جديد وكأن اللجوء وحده لايكفينا , التفت كلانا بشوق عارم الى صغيري يفلت من يد أمه ويركض الينا نحن الاثنين وينادي :
-" جدو جدو أريد صوصا لي من الدجاجات التي تربيها في بيت ستو أم عصام الله يرحمها" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان درويش صيرفي: أعطيت محمد عبده 200 دانة حتى تنتشر


.. بأنامله الذهبية وصوته العذب.. الفنان درويش صيرفي يقدم موال -




.. د. مدحت العدل: فيلم -أمريكا شيكا بيكا- كان فكرتي.. وساعتها ا


.. مين هو أعظم مطرب قام بالتمثيل في السينما المصرية من وجهة نظر




.. عوام في بحر الكلام - مدحت العدل: من حسن الحظ أنك تقابل فنان