الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصريون بين الفسيخ والتفسخ

أحمد سوكارنو عبد الحافظ

2012 / 4 / 18
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


لا شك أن الفسيخ يعتبر أحد الأكلات الموسمية التى يعشقها المصريون في عيد شم النسيم. من المعروف أن الفراعنة هم أول من قاموا بتصنيع الفسيخ عن طريق تجفيف السمك في الشمس ثم وضعه في الملح. الجدير بالذكر أن كلمة الفسيخ فى قاموس المعانى ذات صلة بالفعل فسخ أى بطل ونقض وفسد وتغير طعمه وتفسخ الجسد معناه تحلل. ومن سخرية القدر أن المصريين الثوار الذين حاربوا وناضلوا واستشهدوا من أجل إيقاف تفسخ الدولة والمجتمع ينكبون الآن لالتهام كميات هائلة من الفسيخ. ولم تمنعهم عن ذلك الفتاوى المختلفة حول أكل الفسيخ. فالشيخ يوسف البدرى اتفق مع الشيخ رمضان أبو نخلة عضو لجنة الفتوى فى تحريم تناول الفسيخ على اعتبار أنه يندرج تحت حكم الميتة المحرمة المتعفنة وعلى اعتبار أنه طعام "نتن" يخرج منه القبح. أما المفكر جمال البنا فيتفق على وصفها بالأكلة القذرة لكنه فضل الاكتفاء بالنهى كعادة بدائية. لعل المواطن الذى يحرص على أكل الفسيخ فى شم النسيم قد تعرض للتفسخ الأخلاقى بفضل ممارسات النظام البائد المتفسخ. والسؤال الذى يسنح فى الذهن هو: ما هى علامات التفسخ فى المجتمع.

لقد فقد المواطن المصرى ثقته فى نفسه وتراجعت أخلاقياته. فالمصرى فى الكثير من الأحيان يخدع ويزور ويكذب وينافق ويتلقى الرشوة ويمارس الأنانية والبلطجة وعدم احترام القوانين. فالموظف يخدع رئيسه بكلمات منمقة لا تعبر عن حقيقة مشاعره. وهو قد يعارض ويتحدث طويلا مدافعا عن وجهة نظر محددة لتكتشف أن له مصلحة شخصية تدفعه لتبنى وجهة النظر هذه. على سبيل المثال فإن النوبيين المصريين المشهود لهم بالصدق والأمانة قد تغيرت أخلاقياتهم. لقد ظلوا يطالبون بمنازل المغتربين وعددها أكثر من خمسة آلاف منزل وظلت الحكومات تسوف وتتلكأ وجاءت الحكومة الأخيرة لمبارك وقامت ببناء حوالى ألفى منزل فى منطقة كركر، وهى منطقة غير زراعية وفى حاجة إلى تنمية فى المجالات المختلفة. خشى نائب النوبة أن يتم حشر النوبيين فى هذه المنطقة النائية فيضطروا لهجرتها، لذلك طالب بتنميتها أولا من خلال إقامة مشاريع أو مصانع وتوفير أراضى زراعية بموجب 3 أو 4 أفدنة لكل أسرة غير أن بعض أهالى النوبة ظلوا يهاجمون هذا التوجه وينادون بسرعة توزيع المنازل. لقد تبين فيما بعد أن بعض هؤلاء المعارضين كانوا قد تقدموا بأوراق وهمية مزورة للاستيلاء على منازل فى منطقة كركر. لذلك هم حريصون على سرعة الانتهاء من الأمر حتى يستطيعوا بيعها قبل أن ينكشف الأمر.

ولا نبالغ إذا قلنا إن الرشوة و الأنانية أصبحت مقننة ومتفشية في جميع المعاملات الحكومية حيث صار الموظف لا يخجل عن طلبها كلما أدى عملا من أعمال وظيفته. الجدير بالذكر أن نسبة قضايا الرشوة قد زادت بمعدل بلغ 59,6 ٪. لقد أوضح مؤشر الفساد فى عام 2008م أن مصر حصلت على 2.8 درجة، وهى درجة متدنية حيث تحتل رقم 115 من إجمالى 180 دولة. أما الأنانية وحب الذات فقد تتجلى فى المواقع التى تتطلب الوقوف فى طابور للحصول على الخبز والبوتاجاز والسولار والبنزين. وكان هذا السلوك هو سيد الموقف خلال فترة النظام البائد. فكل مواطن كان يسعى للاستحواذ على اكبر قدر من الامتيازات فى مجال عمله وكان يستخدم كل الوسائل من وشاية وتملق لرؤسائه.

لقد انتشرت البلطجة وعدم احترام القوانين فى شوارعنا حيث يسعى كل شخص للحصول على حقوقه بيديه. لعل تجولك فى شوارع المحروسة يضعك وجها لوجه مع البلطجة أو مع ظاهرة عدم احترام القوانين التى باتت من السمات المميزة للمصرين. فظاهرة البلطجة تتعلق بلجوء المواطن إلى استخدام العنف للحصول على حقه أو للسطو على حقوق الآخرين. فأقل خطأ مرورى يتحول إلى مشاجرة. لقد شاهدنا كيف كان المواطنون يهاجمون هيئة المحكمة التى تصدر حكما لا يحقق مصالحهم أو تحكم بالسجن على أحد أفراد أسرهم حتى لو كان مسجلا خطرا. والأسئلة التى تدور فى أذهاننا هى: من أين اكتسب المصريون هذه السلوكيات المشينة التى يهدد سلامة المجتمع؟ وما السبب فى هذا التفسخ الاخلاقى فى مجتمعاتنا؟

من الواضح أن النظام ساهم فى تفسخ أخلاقيات المواطن المصرى. لقد نجح النظام فى تحويل البلاد إلى دولة رخوة حسب تعريف المفكر السويدى جونار ميردال فى كتابه "الدراما الأسيوية" حيث أشار إلى أن الدولة الرخوة هى الدولة التى تفتقد إلى التشريعات وبها قصور فى احترام وتنفيذ القوانين وحيث يسعى المسئولون فيها إلى استغلال موارد الدولة للحصول على مكاسب شخصية على حساب المصلحة القومية للبلاد. لعل انتخابات مجلس شعب 2010م تعتبر مثالا صارخا لعدم احترام النظام السابق للقوانين ورفضه تنفيذ الأحكام القضائية. لقد أصدر القضاء الإدارى أكثر من ألف حكم قضائى خاص بإدراج مرشحين فى الكشوف وتغيير صفة مرشحين من عمال إلى فئات وأحكام بوقف الانتخابات في 11 دائرة فى الإسكندرية وفي 9 دوائر بمحافظة كفر الشيخ وعدد من دوائر المنيا وأسيوط وسوهاج والوادي الجديد و11 دائرة بمحافظة الدقهلية. كما أصدرت محكمة القضاء الإداري حكما بوقف الانتخابات فى دائرة بندر شبين الكوم بالمنوفية وفي دائرة إيتاي البارود بالبحيرة وبالدائرتين الأولى والثانية بمحافظة الإسماعيلية، أما في محافظات الشرقية والمنيا وبني سويف وكفر الشيخ والقليوبية والمنصورة فقد أصدرت محكمة القضاء الإدارى بها 176 حكما يؤكد تزوير وبطلان الانتخابات، هذا بالإضافة إلى أحكام ببطلان إعلان نتيجة الانتخابات فى عشر دوائر بمحافظات القاهرة والجيزة و6 أكتوبر. لقد أثبتت هذه الانتخابات أن النظام كان يحتقر القوانين مما ساهم فى نقل هذه العدوى للمواطنين. أما استغلال النفوذ واستغلال موارد الدولة لتحقيق مصالح شخصية فتتجلى فى صفقات بيع الغاز وبيع أصول الشركات القومية. لعل الجميع رأى كيف تم بيع الغاز لإسرائيل بسعر زهيد مقابل حصول المسئولين على مبالغ كبيرة كعمولات وكيف تم التصرف بالبيع فى أصول شركات كبرى (شركة عمر أفندى) مقابل مبالغ تقل كثيرا عن قيمتها الحقيقية.

ولم يتردد النظام فى استخدام التزوير والرشوة وسيلة للبقاء والاستمرار فى السلطة. من المفيد أن نعترف أن النظام كان يعتمد على التزوير فى الانتخابات حيث كان مأمورو الأقسام يلتقون بالموظفين المشاركين فى الانتخابات وذلك لإعطائهم تعليمات تتعلق بكيفية تزوير إرادة الناخبين. كما ساهم النظام فى تشويه سمعة القضاة من خلال الاعتماد على رجال قانون مزورين. والغريب أن التزوير لم ينحصر فى الممارسات الانتخابية بل امتد ليصل إلى الممارسات الإعلامية فى المؤسسات العريقة. كلنا يتذكر الصورة التى نشرتها جريدة الأهرام الصادرة فى 14/9/2010م بعد إدخال تعديلات على الصورة التى بثتها وكالة اسوشيتدبرس حيث يتقدم صاحب البيت "الأبيض" ضيوفه من الزعماء العرب، الرئيس مبارك والعاهل الأردنى والرئيس الفلسطينى ورئيس الوزراء الإسرائيلى. لقد قام محرر الأهرام بوضع صورة الرئيس مبارك محل صورة الرئيس أوباما. من المؤكد أن صمت القائمين على الدولة وعدم إدانة هذا السلوك كان بمثابة موافقة رسمية لاستخدام أساليب التزوير والغش. كما شاهدنا كيف كان أقطاب النظام السابق يقدمون الرشاوى للحصول على أصوات الناخبين فى الانتخابات البرلمانية وشاهدنا كيف كانوا يلجأون للبلطجة لمنع الناخبين من الوصول إلى لجان الانتخابات أو للتصدى لشباب 6 ابريل وكفاية. لعل هذا النظام استطاع أن يحول الرشوة والبلطجة إلى سلوك مقبول.

وخلاصة القول فإن النظام البائد الذى ظل جاثما على صدورنا لمدة ثلاثين عاما ساهم فى إفساد أخلاقيات المصريين وقدم لهم دروسا مجانية فى التزوير والرشوة والبلطجة والنفاق والأنانية وعدم احترام القوانين. وهذه السلوكيات سوف تبقى ملازمة لنا لفترة من الوقت ولن يمحوها الزمن إلا إذا قررنا إعادة تأهيل أنفسنا بحيث نتطهر من كل الشوائب التى تتعلق بنا. عندئذ سوف نجنى استحقاقات الثورة التى ضحى من أجلها مئات الشباب فى عمر الزهور وعندئذ سوف ننقذ بلادنا من حالة التفسخ التى تعانى منها.













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمات أحمد الزفزافي و محمد الساسي وسميرة بوحية في المهرجان ا


.. محمد القوليجة عضو المكتب المحلي لحزب النهج الديمقراطي العمال




.. تصريحات عمالية خلال مسيرة الاتحاد الإقليمي للاتحاد المغربي ل


.. موجة سخرية واسعة من عرض حوثي للطلاب المتظاهرين في أميركا وأو




.. فرنسا: تزايد أعداد الطلاب المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطي