الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث النخلات...

هشام عابد

2012 / 4 / 22
الادب والفن


وأنا مار اليوم بساحة التحرير مالت علي إحدى النخلات وهمست في أذني: الله ينعل اللي ما يحشم المخزن وجهو صحيح ومازال غادي فأساليب الستينات السواقية..!
قلت مستغربا: كيف ذلك؟
قالت النخلة وكانت أصغرهن وأكثرهن فتوة: واش كدير راسك ما عارفش أسي الحنجقلو
قلت لها: الحنجقلي من فضلك..!
قالت ضاحكة: هادي رادلها البال! والعرايش وشنو واقع فيها تتظاهر بجهل الأمور؟
قلت: بلى! أرى أناسا وصياحا وقوما كثر، وأسمع طبلا وغيطة ومزمارا كل يوم، ورايات متشابهة من نفس الشركة! ووجوها علاها الفقر والغبار وأقدام حافية...
قالت: أما أنت فترى الأمر بضعا من الوقت وترحل. أما أنا فجدوعي مشنوقة بحبال تشد إليها لافتات تزيف إرادة الشعب وتقوله عنوة ما لم يقل...
قلت بمكر: الناس يقولون نعم بإرادتهم.. ما العيب؟
قالت: الأوراق التي بين أيديهم تقول نعم، لكن وجوههم الكالحة تقول لا!
قلت: وماذا يقول هؤلاء الحفاة العراة؟
جاء صوت من بعيد لنخلة أخرى كانت تتابع الحديث باهتمام: وا الحنجقلي! وسير تقضي شي شغل إلى عندك ما تقضي..! واللي فينا يكفينا..!
فقلت لها: مالك عاوتاني حتى انتي هازا الهم..؟
فقالت في حسرة: واش ما فخباركش قبيل الدستور بأيام قليلة مر من هنا أسطول شاحنات نهب مقالع الرمال بالعرائش مصحوبين بأقوام يشبهون كومبارس أفلام الويسترن..!
وردت أخرى بجانبها مقهقهة: شفتي دوك النسا والدراري مساكن جايبنهم المخير فيهم كيقول "الضسطور" عاد غادي يكون شي واحد فيهم عارف فيه شي حرف منو... ههههه
قلت: واش ناقص النخلات الغزالات ديال العرايش مادام ماتقاسوش.. وما جاش أمر الاقتلاع من البلدية والعمالة؟
قالت النخلة الفتية: والله يهديك..! تاريخ النخلات من تاريخ ساحة التحرير، وهل تستطيع فصل التاريخ والحضارة عن الناس وعن الوطن؟ إنه كالعنوان إن ضاع، ضاع الكيان والوجود والهوية... ما ينفع وجود نخلات في أرض جرداء براح مبلطة تبليط عقول المسيرين الفارغة من أي خصب فكري أو نبات إبداع... وأين كرامتي وكبريائي كنخلة سامقة الرأس من ساحة تندسها كل يوم حشود قبائل بني "وي وي"، المعروفون بمواقفهم "النعمية" على الدوام بسبب من جهلهم وسذاجتهم واستعدادهم لبيع الوطن ب 100 درهم أو أقل..!
قالت النخلة الأخرى: ها الباشا معاه الغشاشة، والمقدم ديما بالبهايم مقدم، والقايد اللي ديما للفساد حامي وزايد... سير بحالك ألحنجقلي هاهوما غادي يلصقولك تهمة التآمر على أمن الدولة، واحتلال الملك العام والتجمهر بدون رخصة والتحريض على المعقول! وحب الوطن واللائحة طويلة...
قلت لها: ألالة النخلة واش هذه إهانة ليا ولناس العرايش كاملين.. صحيح الفساد هو اللي غالب دابا... لكن دوام الحال من المحال... ليك نهار يا الظالم..!
فقالت بخبث: وبقاو تغنيو وتردو على راسكم، بقاو تبكيو على الأطلال، بقاو تما ناعسين بحال أهل الكهف... ألم تسمع أبو القاسم الشابي لما قال "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر"... راه قال الشعب وماقالش إذا الحكومة يوما اتاقات الله أو إذا المسؤولون يوما هداهم الله... راه هادوك الفاسدين هوما كيموتوا وهوما شادين بسنانهم على الكراسي ولا ماشفتيش زين الهاربين بن علي ومبارك إسرائيل والقذافي القتيل ماتقلعو غير بالزز وعلى جثث الآلاف من المواطنين الأحرار...
قلت: الله يخليك ألالة النخلة صحيح أنت رمز للنخوة والأناقة والجمال والكرامة والحرية والعروبة والإسلام والحضارة... لكن نحن بشر نعيش بين الشر والخير، جولة للشر وجولة للخير... فللننتظر قليلا.. النصر قادم والخير لا محالة منتصر...
قالت في يأس: "الانتظار"..! ما أبشع هذه الكلمة... هل تعرف يا حنجقلي شيئا عن الانتظار؟ أنا أحكي لك قصة النخلات الإثنى عشر مع الانتظار على ساحة التحرير التي لم تتحرر بعد من يد الفساد والمفسدين؛ وباختصار شديد عانينا من التهميش والإهمال، وكل يوم ومع مطلع كل فجر جديد كانت قلوب النخلات ترتجف كلما مرت شاحنة أو رأينا معولا أو فأسا فنقول ها قد وصل دورنا لنتذوق لغة الهدم والخراب والاجتثاث... كل يوم! تصور... وعلى مر السنين ومنذ الاستقلال شهدنا تشويه معالم الساحة كل يوم، تبشيع وعربنة وتشويه مستمر، اقتلعوا النافورة، واقتلعوا معها قصة "دون كيشوت دي لا مانشا" المخلدة على الفسيفساء الرائعة الجمال، واقتلعوا الكراسي الرائعة كأسنان لازالت سليمة من فم شاب يافع، واقتلعوا فيما بعد حدائق الساحة، وبعدها بلطوا الساحة، لتصبح مطبا مليئا بالحفر يسقط فيه الأطفال والشيوخ والنساء تكريما لساكنة المدينة! كل هذا ونحن نعاين كل يوم، كل دقيقة، كل ثانية هذا الانحدار إلى أدنى درجات الانحطاط الثقافي والمعماري والجمالي... وتأتي أنت يا حنجقلي وتقول لي "الانتظار"! ماذا تعرف أنت عن الانتظار؟ حتى أن عمرنا هنا أكبر من عمرك في هذه المدينة...
قالت النخلة الفتية: إنصرف..! إلى مقهاك فقد حان وقت مزاجك وبكائك على الأطلال وحصة رثائك للمدينة... أراك كل يوم مارا من ساحة التحرير قاصدا مقهاك ملهاك مثواك الأثير ونتمنى أن لا يكون الأخير...
قلت: كم أنتم قاسون، لقد وبختم بما فيه الكفاية، لكن اعذر لكم حسرتكم فالمعاول وأقدام "التتر الجدد" تزعج كرامتكم وكبريائكم كل يوم...
قالت النخلة الفتية: القاسي هو الزمن، القاسي هو البشر، القاسي هو هذا الوضع المشين الذي تعيشه المدينة على مرأى ومسمع الجميع... والأقسى من ذلك هو أن كل أهل المدينة الموزعين على مقاهي ساحة التحرير ونحن محاصرين يوميا ومنذ زمن بعيد بوشوشاتهم ودردشتاتهم عن المدينة، وماضي المدينة، وكانت المدينة ، وأصبحت المدينة... عذاب يومي... أتدري لماذا هو عذاب يا حنجقلي؟
قلت: لما؟
قالت: لأن للفساد يد تدمر، وللساكنة العرائشية فم يثرثر..! وشتان مابين اليد والفم في ميزان الحضارة... ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفم (العرب) وأصحاب اليد (إسرائيل) كل يوم يزداد فيه شبر من أرض الصهاينة، يزداد مقال أو تنديد أو بيان في صفحات العرب... فلتعتبروا يا أولي الألباب...
قلت: لله ذركم يا معشر النخلات، لم أكن أعلم أن لكم فم يعبر وعقل يتأمل، وقلبا يحس، وذاكرة تحفظ، ومنطقا يحلل، وأذنا تسمع... احترامي لكن جميعا... ولا أملك الآن سوى الوعد والقول بأنكم العرق الأخير الحي في جسد هذه الساحة: ساحة التحرير أو ساحة التغيير، أو ساحة المستقبل، أو ساحة العرائش...
الوداع أيتها النخلات الجليلات وعذرا لنا على جفاءنا وتقصيرنا.. وشرعت في الخطو بعيدا في خجل من معشر النخلات ومن حوارهن الرائع وحكمتهن الجميلة...
وفي صوت جماعي آت من أعماق أعماق ساحة التحرير ومن القلب تحديدا سمعت: بل قل إلى لقاء قريب يسترد كرامة الساحة وكرامة العرائشي وكرامة الوطن...
فهل كانت كلمة الوطن صدفة آخر كلمة ينتهي بها الحوار..؟
ذاك ما سيجيب عنه المستقبل...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ندوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة ا


.. ندوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة ا




.. دوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة ال


.. أرملة جورج سيدهم تتبرع بقميصه في مسرحية المتزوجون بمزاد خيري




.. ندوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة