الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى ينتهي يا حبيبيَ، شهرُ العسل؟

فايز صلاح أبو شمالة

2005 / 1 / 25
الادب والفن


يستشعر رعشة الفراق فيمتلئ قشعريرة، يداهمه حزن الفقد، فيتلاطم موج الدمع على خد روحه، يرفرف قلبه وتحتبس أنفاسه عندما تهاوي طائر المصيبة على عتبة بيتها، وتقصّف ريش الفراق على أسطح الشجر، يتخيل الشاعر محمود درويش ما تخيل أن الآخرين قد يتخيلونه، فكتب شعراً مكتوياً بنار ألم الأم التي اكتوت بنار موت ابنها، فحملت حزنها في سلة فوق رأسها، وراحت تلتقط على طول رصيف الذاكرة وجعاً، وتملأ بمذاق المرمية والنعناع ما اتسع من مسافة بين الدمعة والشهقة، وبين الانتظار والاحتضار.
لقد اقتحم الشاعر كثافة الحزن الفاصلة بين زغرودة الأم فرحاً، وهي تزف ابنها على الأرض، وتعرف له عروساً من الإنس معلومة الأبعاد، وحقيقة زغرودة الأم وهي تزف ابنها شهيداً، ولا تعرف من الحوريات غير ما جاء به الوصف، وقدّر الشاعر أن الحشرجة بين الزغرودتين لا ينتفض لها قلب الساهرين في (العزاء الفرح)، ولا يعبر تلال الحزن فيها أولئك المنفضّون عن الأم عند انفضاض الموسم، ولا يتوه في صحاري الوجوم والصبر من حولها أولئك الذين جاءوا واكتفوا بقراءة البيانات الحماسية، ولم تتحرق عيونهم فوق رمال التحسر المتحركة، وهم يعلقون شعاراتهم، ويمضون في اليوم الثالث على عجل.
تحتضن الأم صورة ابنها وتبكي، وحيدة، وتتساءل بينها وبين نفسها؛ أين هو الفرح الذي تتحدثون عنه في مكبرات الصوت؟ أين هو الزفاف؟ وزفاف مَنْ على مَنْ؟ لقد تطاير جبل الحنان كالعهن المنفوش قبل أن يحطًّ على صدرها منتفضاً، أين البشرى في الموت؟ ومَنْ يبشر مَنْ بفقد مَنْ؟ وما زالت مكبرات الصوت تدوي في أذنيها، وتنادي وتردد من بعيد: نزف إليكم بشرى استشهاد، وقبل أن تكتمل الحروف يتساقط صدى الصوت جمراً ملتهباً، إنها وحيدة تراجع ذاكرة الأيام، لم تكن تعلم أن البشارة التي ترددها مكبرات الصوت، وأن الاسم الذي يكررونه هو اسم ابنها، عن ذلك يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش:
قالتْ الأمُّ: في بادئ الأمرِ لمْ
أفهمُ الأمرَ، قالوا: تزوج منذ
قليلٍ، فزغردتُ، ثم رقصتُ وغنيّتُ
حتى الهزيعِ الأخيرِ من الليلِ، حيثُ
مضى الساهرون ولم تبقْ إلا سلالُ
البنفسجِ حولي. تساءلتُ: أين العروسانِ؟
قيلَ: هنالك فوقَ السماءِ ملاكانِ
يستكملان طقوسَ الزواجِ، فزغْردْتُ،
ثمَ رقصتُ، وغنيتُ حتى أُصِبتُ
بداءِ الشَّللْ.
فمتى ينتهي، يا حبيبيَ، شهرُ العَسَلْ؟
قد يجد الشاعر من يختلف معه حول الفكرة، ويقول: أن الشهداء لا يموتون، لقوله تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون"، ويجد الشاعر من يقول: إذا كان من يُزفُّ إلى امرأة واحدة على الأرض الفانية يقام له حفل زفاف، فكيف بمن يزف إلى اثنتين وسبعين حورية من حواري الجنة، أليس أحق بذلك، يجب أن يكون الزفاف لائقاً بالمزفوف وبالمزفوف إليه؟
ولكن الشاعر لم يخطر في باله هذا البعد الديني، والنقاش الفكري، وهو يفيض بوجدان الأم، ويجد من يتفق معه في التصوير العاطفي للمشهد، ويقول: أن كل النساء في فلسطين يتقبلن نبأ موت أولادهن بالصبر والزغرودة، ولكن لم يقتحم أحد مكنون فؤاد أم الشهيد، ولم يقدر أحد كيف عبرت الليالي على الأم والأب بعد تشييع جثمان ابنهم، فهل يستطيع أحدُ أن يطبب جرحاً ينزف شوقاً؟ وما كل نساء فلسطين بذات قدر الصلابة ورباطة جأش أم الشهيد محمد فتحي، التي ودعت ابنها إلى الشهادة، وانتظرته، وعاد، عاد مستشهداً، فبكت دمعتين ووردا، ولم تنزوي في ثياب الحداد، وليس كلهن مثل الشهيدة ريم الرياشي، وأن هنالك من الأمهات من لا يحتملن، وينخلع قلبهن من موضعه، ولا يعود إليه، فهل ما زال ضرورياً أن يُدهم قلبَ الأم بموت ابنها من خلال مكبرات الصوت، قبل أن تستوعب فاجعة الموت رويداً رويداً، كي ترقص على مهلٍ، وهو يزف أمامها كما العريس في يوم العزاء الفرح، لقد عظم الله ساعة الفراق، وهو الذي قدّر علينا الموت.؟
لكن مشوار الفلسطينيين مع التحرر طويل، ووسائل الضغط ستزداد قسوة بين المتحاربين المتباغضين، ومن لم يحترق بنار المحتلين سيكتوي بجمرهم، وسينتصر في النهاية من لا يضجرُ، ومن لا يملُّ هذا الحال، لأن هذا الحصار القائم سيمتد إلى أن يصفع دم القتيل وجه القاتل، وتطارد الأنفاسُ البريئة الأنفاسَ الحاقدة، عندما ينفجر انتظار موت الضحية تمرداً على شفرة سكين الجزار، يكمل محمود درويش:
سيمتد هذا الحصارُ إلى أن
يحسَّ المُحَاصِرُ، مثل المُحَاصَرِ
أن الضَجرْ
صفةٌ من صفاتِ البشرْ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو