الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هجرة الريف الى المدينه .. وما آلت اليه من خراب

حامد حمودي عباس

2012 / 4 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


الفلاحون ، هم الطبقة الحليفة للعمال خلال نضالهم من اجل تحقيق التحول الى الاشتراكية بمضامينها العلمية ، وكانوا كذلك عند أهم حدث ثوري اشتراكي عام 1917 ابان ثورة اكتوبر العظيمه ، حيث أبدت طبقة الفلاحين وفائها منقطع النظير لمباديء الثورة وقادتها ممن شحذت الهمم فيهم آلات الورش ومطارق العمل .. لقد كان الفلاح الروسي صافي النوايا ، تؤطر مسيرته وحركته اليومية أخلاق الريف النظيفة والنزيهة من كل شوائب المدينه ، انه المارد ذو الشوارب الطويله ، وقبعة الرأس المصنوعة من الفرو ، وبساطته المتناهية الى الحد الذي جعلته يهاجم وبيدين اعزلتين من السلاح دبابة الالمان ، لا لأنهم غزو بلاده فحسب ، وانما لكونهم بعثروا أشجار العنب في مزرعة لا تعود له اصلا ..
الفلاح الروسي ذاك ، عزف عن الانتقال الى الحضر ، رغم ما في الحضر من مغريات .. ولم يحدث ان تعرض الفلاحين الروس ، ومن بعدهم السوفييت ، الى أية هجرة جماعية تاركين زراعتهم وقراهم وطبيعتهم الخلابه ، ساعدهم على ذلك نظام حفظ لهم حقوقهم وهم في محيطهم بين اقرانهم وذويهم .
ولذا فان التركيبة الاجتماعية للشعب السوفييتي ، شأنه شأن الشعوب المتمدنة الاخرى ، لم يحدث لها أي شرخ منظور ، وبقيت هذه التركيبة مؤسسة على مباديء ثابته ، تحكمها قناعات راسخة ، لم تدع لمعوقات البناء المجتمعي ان يتزحزح أو يصاب بالعفن .. وحيث ان الفلاح يبقى فلاحا وابن المدينة يبقى كذلك ، كل في حيزه واعرافه واخلاقه وقوانين حياته ، فان الحصيلة النهائية لابد وان تكون ، استقرارا وأمنا وتقدما وعلى كل الصعد .
وتحضرني بهذا الصدد ، قصة صديق بلغاري ، كنا ولفترة طويلة زملاء عمل مشترك ، كان يشكو من مشكلة وصفها بانها كبيرة ، وقد عجز عن وضع حل لها .. المشكلة تتعلق بابيه القروي البالغ من العمر ثمانين عام ، فقد شكى له سكان القرية من المجاورين بان أباه كثيرا ما ينسى صنبور الماء مفتوحا بعد ان يغسل وجهه في الصباح ، او يترك عبوة غاز الطبخ تعمل بعد ان يعد الفطور ، فهو وحيد توفيت زوجته ولم يبقى معه أحد سوى داجاجاته وأرانبه وكلبه المسن .. وكان كلما يقنعه ابنه بالعيش معه في شقته بالعاصمه ، يجده بعد يومين او ثلاثه فارا يحمل كيس ملابسه ليعود الى منزله في القريه ..
انه التشبث بالارض ، والالتصاق بنواميس الريف ، وعدم القابلية على امتهان غير الزراعة وتربية الحيوان .. فبدت الارض وعلى امتدادها ناصعة الخضرة ، تخترقها قطارات الخير وحافلات النقل البري لشحن اطنان من حبات البطاطا والفواكه وقناني النبيذ الاحمر ، مرسلة الى اسواق المدن المتباعدة من الريف العامر بالعطاء .
حتى جاء الغول الامريكي ، ليقلب كل شيء على عقبيه ، ويحول الاخلاق النقية الى مافيات وتجار مخدرات وعملة ، ويبعثر المرأة السوفيتية المكافحة بين غرف الدعارة المسكونة من قبل امعات الخليج ، لتختلط الموازين ، ويضيع كل شيء في لحظات من انكسار ، غير ان القرية لم تستجيب لسوط الكاوبوي ، وضلت أمينة لواقعها السرمدي بكل نقائه واعتباراته ، تصدر للمدينة الموبوءة غذائها وكسائها وما تطلبه من الضروريات الأولية للحياة .
أما في العراق ، فقد ماتت طبقة الفلاحين تحت مطارق الحصار وعبث الحروب ، بعد ان كانت ولادة سخية لخيرة مناضلي البلاد والمضحين من أجل تحقيق مكاسب الفقراء ، وانزوى الفلاح العراقي في صومعته لحين من الزمن ، يقاوم ويأنف من احتمالات النكوص ، وهو يرى ارضه يغلفها السبخ بفعل الخاصية الشعرية للمياه الجوفيه ، وتفقد صلاحيتها لتربية الزرع ، وتبتعد عنها الحكومات المتعاقبة وكأنها لا تريد للشعب ان يأكل من خيرات وطنه وعطاء ريفه .. وبدأت الكارثه .. كارثة عظمى سوف لن يغفرها التاريخ لاولئك الذين أسسوا لأول منزل من طين سكنه فلاح مهاجر .
ابتداء من عام 1959ظهرت اولى بواكير الهجرة السوداء للفلاحين العراقيين ، مخلفين ورائهم اخلاق القرية ليركبوا عنوة اخلاق المدينة .. وازاحوا عن ايديهم واجسادهم معاول الحرث ليمسكوا بعربات بيع عبوات غاز الطبخ وجمع العلب الفارغة بهدف بيعها في اسواق الخرده .. وبنوا لانفسهم عششا تجاوزوا بها على أموال الدولة ، معطلين البرامج المعدة للتخطيط العمراني ، واثقلوا كاهل دوائر البلدية والكهرباء عندما عجزت تلك الدوائر عن توفير الخدمات الضرورية لسكان المدن ، فاثقلوا بذلك كاهل الميزانيات العامه ، وانقلبوا مع مرور الزمن الى سائقي تاكسي أجراء ، وباعة يعتدون على الارصفة بلا رادع ، وانطلقوا ضمن جموع هوجاء لنصرة أي نظام تعاقب على حكم العراق ، وشكلوا مادة دسمة لسد حاجة الجيوش واجهزة الشرطة ورجال الامن العام ، واصبحوا ركيزة اساسية لنجاح المرتشين والسراق داخل صناديق الاقتراع .. ناهيكم عن ممارستهم لطقوس الشعوذة والركون الى شرائع متخلفة لا شأن لها بنصوص أي دين من الأديان .
وبذلك فقد تعرض الريف الى اسوء عملية اخلاء من السكان ، لتظهر وبمرور السنوات المتعاقبة ، هيكلية اجتماعية هجينه ، تختفي عندها ملامح المدينة والريف معا ، واختفت بالضرورة معالم الزراعة المحلية ، لتزحف بدلا عنها زراعة من خارج الحدود ، تطرح منتجاتها كيف ما اتفق ، وبحرية ضريبية لم يشهد لها بلد ما حتى في الوسط العربي القريب .
لقد سيطر الوافدون الجدد على كل المهن والورش ، و اصبحوا متنفذين في هيكل الدولة بشكل عام ، فضاعت مراسم التخطيط العلمي ، وتعرض كل شيء للتغيير السلبي ليشمل حتى اسماء المدن والشوارع ، وكأن عداء مستفحلا قد حل بين الحاضر والماضي ، طالت نتائجه الحجر والشجر وما بينهما من معالم .. وكنتيجة حتمية لهذا الشرخ المتين ، فقد زحفت الجموع الوافدة من العربان ، لتزيح من امامها طبقة العمال الحقيقيين ، محتلة معاقلها لتحيلها الى صوامع تنشر التخلف وتشجع على الاستهلاك غير المنظم بين السكان .. وكثرت تبعا لذلك ظواهر الطلاق ، وتفشت الجريمة وبوتيرة عالية جدا ، وانتشرت مظاهر الرشوة والمحسوبية بين المكلفين بادارة الشأن العام ..
سيواجهني حتما من يضن بان الأمر يعنيه ، بشتيمة او حوار غير مهذب ، غير ان ذلك لا يلغي بتاتا حقيقة ما أصاب مجتمعنا من ضرر فادح جراء الهجرة القسرية للفلاحين وابنائهم الى المدن ، ومن يتطلع اليوم الى الحياة العامة في أية مدينة عراقية ، سيرى وبوضوح كيف قام الفلاح بنقل عاداته واعرافه دون تغيير الى المدينة التي حل بها مهاجرا ، فاحال البيئة الى خراب مدمر حينما مارس رعي ماشيته في الشوارع والازقة ، وحينما التزم بعادات تربية الدجاج في البيوت ، وحينما أحال الجو المحيط الى حيز تعمه الاتربة وتنتشر فيه أكوام القمامه ..
ان الحليف الطبقي للعمال أضحى الان عدوا لهم بامتياز .. وسيطول أمر الاصلاح على ما اعتقد ردحا من الزمن قد لا نراه نحن الجيل الحالي ولا الاجيال الثلاثة القادمه على اقل تقدير .. والى ان يحين الفرج ، سوف تبقى بلادنا مرهونة لمقدرات الاضطراب والعبثية واللانظام ، وستبقى بلاد الرافدين ، أهم مستورد ، دون تصدير ، في المنطقة برمتها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - متى ستلتزمون العدالة في تقييم المقالات ؟
الحكيم البابلي ( 2012 / 4 / 23 - 10:27 )
صديقي العزيز حامد حمودي
كم كنتُ أتمنى لو يقرأ كل عراقي هذا المقال ، بدل لهاثهم خلف مقالات تُدغدغ الجلد الخارجي للدماغ والمعرفة ، وأقصد بها المقالات السهلة الكتابة بحيث لا تؤدي لجهد القارئ الكسلان الذي لم يعد يبحث عن اللباب ، بل عن مقالات تشبه الوصلة الراقصة التي تُريحهُ وتُمتعهُ
كذلك أُعاتب وللمرة الأف هيئة -لا أعرف ماذا- الحوار المتمدن في نشرها لمقالات تعافها ذائقة المثقف الأصيل على صفحتها الأولى (سيئة الصيت) وتترك مقالاً مهماً تحليلياً كهذا للأعمدة الإعتيادية
بئس التقييم هو والذي لا يختلف في سياسته عن سياسة أي حكومة (رشيدة) هي نفسها بحاجة لتقييم كما هم المسؤولين عن تقييم مقالات الموقع قبل نشرها في الصفحة المختارة أو المحتارة ، هذا إذا كان هناك فرد أو لجنة أو شيئ من هذا القبيل ، وأشك في ذلك لحد اليأس والحزن والأسف الحقيقي على هكذا عشوائيات
أعتقد أن هناك قائمة شبه ثابتة تقول للموظف المسكين أين يضع كل مقال وبحسب أهمية إسم الكاتب في ذهن مسؤول أو مسؤولي الموقع
وبسكوت كل القطيع عن هكذا ممارسات نعلم تماماً لماذا ترزح شعوبنا تحت نير حكامنا ، فطبقة الخراف تخلق الحاكم المتفرد المتجبر
تحياتي


2 - الاستجداء في الثقافة حرام
حامد حمودي عباس ( 2012 / 4 / 23 - 13:33 )
صديقي العزيز الحكيم
كانت دعوتك للاسترسال في موضوع كهذا هي المحفز لي في كتابته ، رغم ان النية كانت معقودة لهول ما اراه من تردي يسببه العربان في البلاد .. اشكر لك مشاعرك السخية دوما بالعطاء الثر ، واهمس في اذنك بان الاستجداء في الثقافة حرام .. دعها تأتي لوحدها ياصديقي تلك التي تتمناها واتمناها انا كذلك ، كي تفوح منها ريحا طيبه تطرد عنك وعني وعن الكثيرين سواها من ريح .. اكرر شكري وتقديري


3 - الأستاذ حامد حمودي عباس المحترم
ليندا كبرييل ( 2012 / 4 / 23 - 15:01 )
ليس العراق فحسب ، بل كل بلد عربي تقريباً خرج من فترة الاستعمار وقد هيأه لدخول الدولة المدنية بالمؤسسات والنظم الإدارية والبرلمانات .. .. كل هذا تم تدميره
ريّفوا المدينة
ولا بأس أن ينتقل ابن الريف إلى المدينة سعياً وراء لقمة عيشه ، لكننا نقول الله لا يعطيهم العافية وهم يستدعون ابن الريف الجاهل البائس المرتشي اللاضمير له ليكون السوط المنهال على جسد الشعب ، إنهم هم أنفسهم الطبقة التي ترهب الشعب الآن
وهم أنفسهم من ينادي بالأبدية للأنظمة الفاشية
وهم أنفسهم من أثروا على حساب الناس ومصوا دماءهم
وهم هم أنفسهم منْ سيقارع الاستعمار
طرفة جميلة والله
هؤلاء ستأتي الحرية على أيديهم
ليس العراق فحسب
بل أنت عنيت كل دولة عربية
مقالك ( قول في الماء العربي ) رائع وقد سجلت إعجابي عليه
أهنئك على بعد نظرتك
مع أسمى التقدير والاحترام لشخصك العزيز
والتحية موصولة لصديقنا الحكيم البابلي
وشكراً 


4 - شكرا ليندا
حامد حمودي عباس ( 2012 / 4 / 23 - 17:02 )
شكرا سيدتي .. حديثك يجلب الى الروح نسمات عذبه .. البلاد العربية جميعها معنية بمقالي ، وهذا على ما يبدو قدرنا جميعا بلا استثناء .. تقبلي امنياتي لك بالسعادة


5 - كان موضوع دراستى
فاتن واصل ( 2012 / 4 / 24 - 19:38 )
فتحياتى أستاذ حامد .. أعتذر انى لم انتبه لهذا الموضوع فى حين نشره وبعد ان قراته وجدتنى أستدعى موضوع بحث الماجيستير الذى قدمته فى العام 87 وقد كان بعنوان التعديلات التى يجريها السكان على مبانيهم فى الاسكان مستوى اقتصادى وهى العمارات السكنية التى بنتها الحكومة للعمال والفقراء ، وقد كانت من اهم الملاحظات أن تلك العمارات التى بنيت بجوار مصانع او رورش انتاجية على سبيل المثال مصنع الحديد والصلب بحلوان او مساكن عمال ورش ومطابع الاميرية .. كان كانوا يشكلون فيما بينعم اتحادا وحين يقومون بالتعديل كان يتم دهان الواجهات الخارجية حتى ولو بلون ونقوش فاقعة وذات ألوان كثيرة لكن يغلب عليها التوحيد والانتظام ويقوم الكل بالالتزام بها أما المساكن التى كان يسكنها عمال اليومية والارزقية كباعة الفجل أو الباعة الجائلين بالاتوبيسات يبيعون الاساتك والدبابيس وينشلون الركاب ، واصحاب الحرف الهامشية( جزمجى ، فران ، الخ ) فقد كانوا يقومون بتعديلات كارثية كأن يقرر أحدهم وهو فى الطابق الرابع مثلا بإضافة غرفة لمسكنه فيقوم بصب أعمدة تصدعد فى الفراغ لأربعة أدوار لتحمل الغرفة الزائدة يزوج فيها ابنته .. يتبع


6 - كان موضوع دراستى
فاتن واصل ( 2012 / 4 / 24 - 19:40 )
أو تاجر المواشى النازح من الريف حاملا معه كل نظام حياته لا يريد ان يتنازل عن شئ فيقطن فى الطابق الارضى ويقوم بعمل حفرة فى الأرض ليخلق بدروما يضع فيه مواشيه مع مصدر للمياه فتشرب وتبول وتأكل وتملأ البدروم بما يهدد أساسات العمارة وبغض النظر عن كل هذا غير عابئا بما قد يسببه من مصائب .. دون استشارة أحد .. فأخرج بنتيجة ان عمال المصانع الذين تضمهم مصلحة واحدة وعمل مشترك يهتمون دائما بان يتحركوا معا وينتظمون فى كيان حتى لو كان هذا الكيان هو اتحاد سكان وهم غير النازحين من الريف حاملين تقاليدهم وطباعهم من تربية دواجن من طيور وخلافه وتعليق حزم الثوم والبصل بالشرفات والتحرك بعشوائية وخرق لكل ما يطلق عليه إحترام الملكيات العامة وبالطبع بعد فترة يسود السلوك العشوائى ويصبح هو القانون وما عداه هو الاستثناء .
بؤرة لبث التلوث الفكرى والسلوكى والهمجى والعشوائى .. ليتهم يعودون لحياتهم فى الريف بشرط أن يتم إمدادهم بكافة الخدمات ، فعذرهم الحقيقى هو تلمس حياة آدمية بدلا من تلك التى يعيشونها فى القرية معزولين عن كافة الخدمات بما فى ذلك صرف صحى ومياه نظيفة حتى يومنا هذا ، أيضا أن ي


7 - التخلف والمدنيه
أياد أبو أمين ( 2012 / 4 / 24 - 20:14 )
لقد فشلت كل سياسات الثورجيه الذين وزعوا الاراضي على الفلاحين بعد اغتصابها من الاقطاعيين بل وساعدواعلى استوطان الفلاح للمدينه ليشتغل على هامش اقتصادها وبعد يدمر بيئتها وهذا حدث في مدينه بغداد بعد ان سمح الخائن عبد الكريم قاسم بتوطين الفلاحين واهل الصرايف النازحين الى بغداد واصدار قانون الاصلاح الزراعي الذي اثبت فشله الاقتصادي والزراعي كما ساهم في تدمير الثقافه البغداديه الاصليه وفرض عليها لهجات متعدده عدا ظاهره العشائريه وكافه اوجه التخلف القروي الغير مدني وهذه المناطق اصبحت وبالا على اهل الحاضره بغداد بكل اطيافها بل واثرت حتى على سياساتها ومانراه اليوم في العراق الا افرازات هذا الخلط الكارثي

اخر الافلام

.. مكافآت خيالية للمنتخب العراقي بعد التأهل للأولمبياد... | هاش


.. تحدي القوة والتحمل: مصعب الكيومي Vs. عيسى المعلمي - نقطة الن




.. ألعاب باريس 2024: وصول الشعلة الأولمبية إلى ميناء مرسيليا قا


.. تحقيق استقصائي من موريتانيا يكشف كيف يتم حرمان أطفال نساء ضح




.. كيف يشق رواد الأعمال طريقهم نحو النجاح؟ #بزنس_مع_لبنى