الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتحذلقون ونظرية المؤامرة التاريخية

مهدي بندق

2012 / 4 / 23
مواضيع وابحاث سياسية



تعرفهم بسيماهم.. يحرص الواحد منهم على التلفظ بكلمات يحسبها " أبـّهة" مثل قوله " نريد استعادة الزَخَـَم..." يقصد الدفع الشديد، لكن تحريك الخاء في الكلمة الصحيحة والتي هي "الزخـْم" بتسكين الخاء يجعل قوله هكذا: نريد استعادة "الرائحة النتنة"! وثمة صنف ثان من "المثقفين" يبدأ واحدهم حديثه التليفزيوني بكلمة أولاً، فإذا قاطعه المذيع بسؤال غير هام، يتنحنح قائلا: أولاً ...ناسيا أنه لم يأت حتى الآن بكلمة " ثانيا" وما أنساه إياها إلا شيطان الحذلقة ! والنوع الثالث هو صاحب اللازمة الببغاوية "بشكل أو بآخر" يكررها مبتهجا ! وفيم الابتهاج؟! الله أعلم.
على أن الحذلقة (على أصلها) إنما تتبدى في الجملة الاعتراضية الشهيرة "أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة" التي يردفها المتحذلقُ بقول يؤكد أنه يؤمن بها تماما ً من حيث أن الغرب "الباغي" (وربما الشرق أيضا ً )يتآمر علينا . وبذلك يبرهن المتحذلق على تناقضه الذاتي، ولما كانت نظرية المؤامرة مرتبطة بالتاريخ ، فإن صاحبنا إضافة لتناقضه " الاصطلاحي ّ ) يبرهن على جهله بالتاريخ ونظرياته التي لا غناء عنها لفهم الحاضر.
فما هو التاريخ؟ وما نظرياته؟
التاريخ هو الوعي بالتراث الذي هو حي ماثل في الحاضر ، ويتحقق هذا الوعي من خلال الرصد المنظم لوقائع الأحداث الكبرى ومحاولة الكشف عن أسبابها والوقوف على نتائجها ، ثم إظهار ما بينها من ترابط وتداخل بحيث تشكل معا ً ما يشبه القصة ذات المعنى والمغزى .
أما عملية كتابة الأحداث الكبرى في مظهرها البياني ، وترتيب هذه البيانات في شكل يقصد به بناء الفترة موضوع الدراسة فهي ما تسمى بـ " التأريخ " Historiography وصاحبها يسمى " المؤرخ " وقد يتسلح المؤرخ بفلسفة معينة تساعده على تفسير الأحداث ، وفي هذه الحالة تتحول عملية "التأريخ " من رصد الأحداث بوصفها دراسة لفترة انتهت وماتت إلى جزء حي من نسيج الحاضر يشير إلى مستقبل متوقع . وتلك هي التاريخانية Historicism التي تفترض أن التاريخ لا يعمل إلا في الشئون الإنسانية المتغيرة ، وبما أن التاريخاني لا يهتم بالفرد بل بالجماعة ُمخرجا ً من نطاقه عالم الأشياء ( الطبيعة ) المتسم بقدر كبير من الثبات فمن الضروري التفرقة بينه وبين المؤرخ العام الذي ُيعني فحسب بالتسجيل والرواية .
كان المؤرخون القدماء يعتمدون آلية النقل [ = المرويات عن ذوي الثقة ] في كتابة الأحداث السابقة على وجودهم ، وأمثلة ذلك هيرودوت اليوناني و تيتيوليفيوس الروماني والطبري وابن كثير والواقدي وعبد الرحمن بن خلدون من مؤرخي الإسلام . وفي الأحداث التي يعاصرونها كانوا يعتمدون على مشاهداتهم ، ومثال ذلك تقي الدين المقريزي خاصة في كتابه " إغاثة الأمة بتفريج الغمة " الذي رصد فيه حوادث المجاعة في عهد الخليفة المستنصر الفاطمي ، وكذلك المؤرخ البدر العيني صاحب كتاب "السيف المهند في سيرة الملك المؤيد " وأيضا ابن إياس الحنفي وعبد الرحمن الجبرتي .
أما مؤرخو العصر الحديث فلا يستغنون عن الوثائق والشواهد المنطقية في تسجيل الأحداث سواء كانت معاصرة أو قديمة . ويقف في مقدمة هؤلاء برستيد وجيبون ووول ديورانت وهـ. ج. ويلز وبول كنيدي .
على أن الحد الفاصل في مسألة الرؤية التاريخية فقد تبلور في منتصف القرن الثامن عشر مع فيلسوف التاريخ هردر الألماني الذي شرح فكرة " الوحدة العضوية للتاريخ " ومعناها أن جميع الأحداث من البداية إلى النهاية مرتبطة ارتباط أعضاء الجسد بعضها بالبعض .
التاريخ إذن هو جمـّاع الأحداث البشرية من تعمير وتخريب، زراعة وتجويع، تجارة واستغفال، تصنيع ونهب، حروب ومهادنات...الخ ولا سبيل لفهم أسباب تلك الأحداث وكيفيات وقوعها إلا بالرجوع لأطر عامة تضمها وتعيـّن الفاعلين الأساسيين فيها. وهذه الأطر هي "النظرية".. قد تكون "لاهوتية" تنسب كل شئ لكائن علويّ، وقد تكون "مثالية" تعتبر الحوادثَ تجلياتِ للفكر Idea وقد تكون النظرية ُ "مادية" تربط التغيرات السياسة والتشكلات الاجتماعية بالواقع الاقتصادي بحسبانه المحرك الأساسي لنشاط الناس. أما أغبى النظريات فتربط مصير الشعوب بمؤامرة كبرى يحيكها الأعداء ! ومن هم هؤلاء الأعداء ؟ إنهم كل من ليس نحن ! وتلك وسوسة لا دليل على جديتها، مصدرها الحذلقة.
تفنيد هذه الحذلقة الفكرية ميسور لو تدبرنا تاريخنا : أكان أجدادنا في عصر الحضارة الإسلامية العظمى يشغلون أنفسهم بالتآمر على الغرب لإبقائه متخلفاً ؟ أم كانوا قائمين على تحصيل العلم وتحقيق الثراء والازدهار العمراني لأنفسهم أولا ثم تصدير العلم والمعرفة إلى سائر الأمم والشعوب ؟
فهل نقارن بين ما كنا عليه في عصور الازدهار الإسلامي وبين ما صرنا إليه اليوم باستفحال الأزمة الحضارية الراهنة في عصر ما بعد الكولينيالية ، حيث يحضرنا في هذا الصدد ما ذكره الشيخ سيد قطب في كتابه " معالم على الطريق " من أن أعداءنا هم الأمريكان والإنجليز والفرنسيون والصينيون والفلبينيون والأفارقة و.... باقي الأجناس الذين لا يريدون أن يعتنقوا عقيدتنا ! فينتج عن ذلك أنهم لا بد سيحاربوننا والأولى بنا أن نبدأهم نحن بالحرب على طريقة الهجوم خير وسيلة للدفاع . وتلك هي خلاصة حذلقة نظرية المؤامرة التاريخية .
حقا ً لقد آن أوان مراجعة هذه النظرية على ضوء الوعي العلمي بمسيرة الحضارة الإنسانية وليس بالشقشقة اللفظية التي تناقض نفسها في نفس لحظة النطق بها من أفواه المتحذلقين .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شيرو وشهد مع فراس وراند.. مين بيحب التاني أكتر؟ | خلينا نحكي


.. الصين تستضيف محادثات بين فتح وحماس...لماذا؟ • فرانس 24 / FRA




.. تكثيف الضغوط على حماس وإسرائيل للتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النا


.. اجتماع تشاوري في الرياض لبحث جهود وقف إطلاق النار في قطاع غز




.. هل يقترب إعلان نهاية الحرب في غزة مع عودة المفاوضات في القاه