الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السرد والاعتراف والهوية

سعد محمد رحيم

2012 / 4 / 23
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


السيرة والمنفى والأوطان المتخيلة:
ما يمنح كتاب ( السرد والاعتراف والهوية/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2011 ) فرادته هو أن مؤلفه الدكتور عبد الله إبراهيم ينطلق في تناوله لموضوعاته من موقفين، الأول هو موقف الناقد الأدبي الذي يعرف أسرار الصنعة السردية الأدبية، لذا يحلل كتب السيرة الذاتية العربية، ويقوِّمها ويحاكمها، من غير أن يغيب عن باله أساليب كتابتها وأنساقها وبناها الفنية. والثاني هو موقف المفكر المطّلع على طروحات الفكر المعاصر ومناهجه، لذا يستخدم، في قراءاته، طقماً من المفاهيم المستلة من حقول علوم إنسانية مختلفة، بالاعتماد على اشتغالات المفكرين المحدثين، مجترحاً منهجاً مركّباً ينهل من المعطيات المعرفية لتلكم الحقول.
انبثق فن السيرة الذاتية، مع حضور الذات الإنسانية، فاعلاً اجتماعياً وتاريخياً. وتميّزها بعدِّها عقلاً، وحرية، وفعلاً مسؤولاً. وذلك مع خروج الإنسان من كهوف القرون المظلمة، واستشرافه لمنعطف تاريخي جديد نُعت بعصر التنوير. وفي خضم المتغيرات الكبرى التي عصفت بالمجتمعات الغربية، ازدهرت فنون الرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية. وإذا كانت هذه الفنون السردية قد عرفت انتعاشاً في الفضاء الثقافي الغربي، وصارت لها تقاليدها، ورموزها، ونتاجاتها المتقدمة، فإنها، في فضائنا الثقافي العربي، ما تزال تواجه معضلات شائكة.
بقي نوع السيرة الذاتية، عندنا، ولوقت طويل، هامشياً، يعاني من الشبهة، ويُنظر إليه بحذر وشك وعدم رضا لأنه يتجرأ على عبور الحدود المسموح بها، وتعريض المخفي والمختل والمشوّه للضوء والهواء الطلق. فهذا النوع يضع المرآة أمام مجتمع يخشى من النظر، ولو إلى جزء من صورته الحقيقية، لأنها تطيح بالصورة الموهومة التي احتفظ بها عن نفسه. هذا ما يشير إليه المؤلف في مقدمة كتابه وهو يعدنا بقراءة أهم كتب السيرة الذاتية، لاسيما تلك التي نُشرت خلال العقدين الأخيرين حيث اتسع انتشار أدب الاعتراف نسبياً. والافتراض الأول الذي يتبناه هو أن كاتب السيرة الذاتية لا يقدر على انتزاع نفسه من حاضنته الجغرافية والاجتماعية، وينبثق من "سياق ثقافي، وتجد الإشكاليات المثارة كافة في مجتمعه درجة من الحضور في مدوِّنته السردية".
يعالج المؤلف، في البدء، إشكالية أن يجد الكاتب المنفي نفسه مقتلعاً من أرضه، وواقفاً على تخوم ثقافات متعددة، وعليه، عبر التدوين السيري، أن يصوغ مدونته لتمثيل هويته.. يعيش مثل هذا الكاتب غربته الخاصة، يكون في حالة اشتياق دائمة للأرض التي غادرها وربما إلى الأبد. وطالما أنه لن يستطيع أن يُرجع عقرب الزمن إلى الوراء، وتعسر عليه العودة إلى دياره، فما عليه، إذن، إلاّ أن يلوذ بالمخيّلة.. إن ما سيخلقه في النهاية ليس سوى وطن متخيل لا يوجد إلا في ذهنه، لكنه يجعله البؤرة المركزية في نسيج نص السيرة.. تكون الكتابة، عندئذٍ، مفعماً بالحنين؛ بالنوستالجيا.. أُجبرت إيزابيل اللندي، على المغادرة، مرات عديدة، تاركة أشياءها الحميمة وراءها، مضطرة للبدء من جديد.. تقول؛ "فلقد جبت متغربة طرقاً أكثر مما أستطيع تذكّره، ومن كثرة ما ودّعتُ جفّت جذوري، واضطررت إلى أن أستنبت أخرى، استوطنت الذاكرة لعدم وجود مكان جغرافي تستوطنه". وهكذا "لا يستطيع المنفي الانخراط الكامل في المجتمع الجديد، ولا يتمكن من قطع الصلة بالمجتمع القديم الذي ولد فيه، فيتوهم صلة مضطربة وانتماءً مهجّناً، ويختلق بلاداً لاحقته أطيافها في المنفى".
يُحيل الكلام عن المنفى والهجنة والهوية والكتابة إلى استدعاء أمثلة حية، لعلّ حالة إدوارد سعيد مثقفاً منفياً، هي الأقرب إلينا، بهذا الصدد. والمنفى بحسب سعيد هو "الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشريّ ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي: فلا يمكن أبداً التغلب على ما يولِّده من شجن أساسيّ". ويلاحظ المؤلف إن مشكلة كتابة المنفى في السيرة الذاتية تتجلى في "العلاقة مع المكان من وجهة نظر المنفي، وكيفية تشكيل الهوية الشخصية المنزاحة لرجل يقيم علاقة هشّة معه". ومثاله، ها هنا، هو كتاب سعيد؛ ( خارج المكان ). ففيه ينشئ عالمه البديل بعد غيابه النهائي عن عالمه الحقيقي، متصلاً بأمكنة ولغات متعددة، ومنفصلاً عنها في الوقت عينه.. يعي سعيد، بألم، ذلك الانفصام بين لغته الأم العربية ولغة ثقافته الإنجليزية. المفارقة بين مقطعي اسمه. "أثر التعليم الاستعماري في صوغ تجربته الثقافية وشخصيته القلقة". ليكون "في هذا الموقع المنزلق دائماً خارج أي مكان".
السيرة الذاتية والمدن المستعادة:
يعلق التاريخ، في متن نص السيرة، بشبكة السرد.. يفرض السرد، بقواعد كتابته، أشكاله ومنطقه على الحدث التاريخي الذي يجري تمثيله. وإذ يتأسس ( الاعتراف ) الذي هو، أولاً، ذو طبيعة ذاتية، بوساطة اللغة باستخدام ألاعيب البلاغة ويتلون في ضوء شروطها ومقتضياتها، لتأكيد ( هوية/ شخصية أو جماعية )، فإن هذه الهوية ستتأرجح، حينئذِ، عند الحدود القلقة للغة/ البلاغة، وقوانين السرد، وضباب التاريخ. وما يزيد الأمر التباساً هو هذه الإقامة في مكانين.. المكان المنفى حيث يوجد المرء فيزيقياً، الآن. والمكان الأصلي الذي غادره؛ مكان زمن انقضى واستحال إلى صورة، أو أطياف في الذاكرة. والمكان الثاني هو الذي يسعى الكاتب إلى استعادته، وهذه المرة بمعونة المخيلة. لهذا لن تكون مدينة السرد هي مدينة التاريخ نفسها مثلما يقول د.عبد الله إبراهيم في كتاب ( السرد والاعترف والهوية ).
يحاول حليم بركات إعادة بناء مدينة بيروت بعد نصف قرن من رحيله عنها، وهي التي عاش فيها شطراً من شبابه، وكانت لها التأثير الأكبر على وعيه ومزاجه وعلاقاته، وذلك في كتابه ( المدينة الملوّنة ) بعدما أصاب الهرم الاثنين معاً.. يقول د.إبراهيم؛ "بدت العلاقة شائكة بين بركات، والخلفية الزمانية والمكانية للمدينة، فهو يريد إعادة ربط نفسه بمكان وزمان متلاشيين ومتباعدين، افتتن بهما في شبابه ولم يبق منها إلاّ وقائع متناثرة لا سبيل إلى شبكها في ضفيرة متجانسة ومتماسكة، والبحث عن ذلك بعد عقود خمسة لا يتأتى عنه غير مزيد من الإحساس بالفقدان والخسارة واليأس".
تبددت الوعود الملونة للمدينة التي أحبها بركات.. المدينة التي كانت يوماً ما مرتع أحلام كبيرة مزقتها الحرب الأهلية حتى بدت وكأنها تتنكر لذاتها، ولصورتها التي في أذهان عشاقها، فتتخرب "مفهوم الدولة الوطنية الجامعة" وتغدو لبنان برمتها "دولة طوائف وجماعات". هكذا أحب بركات مدينته، وهكذا نفر منها، وامتلأت روحه، بسبب ما آل إليه وضعها السياسي والاجتماعي، بالخيبة والخذلان.
بالمقابل، يسترجع عبد الرحمن منيف في ( سيرة مدينة ) فضاء مدينة عمّان بوازعٍ ومقصد مختلفين.. فهو أولاً "لم تتح له الفرصة لبناء تجربة أصيلة في المكان باعتباره وطناً؛ لأنه ترحّل إلى نهاية حياته بين أمكنة طارئة، وربما طاردة"، بين الجزيرة العربية والأردن والعراق وأوربا وسوريا. فبقيت علاقته بالأمكنة قلقة وهشة، لينعكس هذا على نتاجه السردي. وفي كتابه الآنف الذكر يلوذ بالذاكرة لإعادة بناء مدينة عمّان التي عاش فيها طفلاً وفتى غضاً في أربعينيات القرن المنصرم. "فعمّان تنبثق بوصفها ذكرى مستعادة، تجتذب فتاها الصغير بنشوة بالغة، بعد أن أصبح شيخاً".
تقف الذات على مبعدة من زمانها ومكانها القديمين "فيكون الكتاب خلاصة مزج بين تاريخ مدينة وحياة شخص في مقتبل عمره". فنرى المدينة من خلال عيني الكاتب واعتماداً على ذاكرته ومخيلته، إذ يقترح قراءة "تتيح إمكانية جديدة للكشف والاكتشاف".
أما الروائي التركي أورهان باموك في كتابه ( إسطنبول ) فيتخذ من مدينته موقفاً ثقافياً كما يرى د.إبراهيم.. تلك المدينة التي كانت يوماً ما حاضرة متروبولية، لإمبراطورية قوية، ممتدة الأذرع، حكمت أجزاء من آسيا وأفريقيا وأوربا لقرون قبل أن تندثر وتفقد بريقها لتخيّم عليها بعد ذلك "الذبول والسوداوية ومشاعر الإخفاق العميقة الملازمة لنهاية الإمبراطوريات الكبرى، فلا عجب أن يمضي باموك حياته يحارب تلك السوداوية أو يتقمصها كما كان يفعل جلّ أهل إسطنبول".
هنا تبرز إشكالية الهوية، في الفاصلة المتوترة بين قطبين جاذبين؛ قطب الماضي العظيم لإمبراطورية سادت ثم بادت، وقطب الغرب الذي هزم الإمبراطورية ويقدِّم، اليوم، بديلاً حضارياً، براقاً، عنها. هنا، ستتعرض الثقافة، بعدِّها منظومة قيم وتقاليد ورؤية إلى العالم، إلى الاهتزاز والتصدع لتحل محلها منظومة أخرى مستعارة، وعسيرة على التمثل. ويشكل هذا الصراع خلفية لصراع آخر، يجري في دائرة أصغر هي دائرة أسرة باموك حيث يطرأ تغيّر واضح على سطح الحياة، تجسِّده المقتنيات المادية، من غير أن يمس بشكل مؤثر البنية العميقة لتلك الحياة؛ "فالتصميم الحديث للبيت ( في سبيل المثال ) لم يحل دون العلاقات التقليدية بين أفراده". إن التصدع الحادث في حقل الثقافة، سيكافئه، بطبيعة الحال، تصدع مماثل في بناء الهوية/ الشخصية والاجتماعية، والشعور بها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصام في حرم جامعة أوكسفورد البريطانية العريقة للمطالبة بإن


.. القوات الإسرائيلية تقتحم معبر رفح البري وتوقف حركة المسافرين




.. جرافة لجيش الاحتلال تجري عمليات تجريف قرب مخيم طولكرم في الض


.. مشاهد متداولة تظهر اقتحام دبابة للجيش الإسرائيلي معبر رفح من




.. مشاهد جوية ترصد حجم الدمار الذي خلفته الفيضانات جنوب البرازي