الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حبي لها كان كاذبا

حسين سليمان- هيوستن

2005 / 1 / 25
الادب والفن


حين انهينا الحياة ورحنا لمواجهة ربنا وجدنا أن الأمر ليس بهذه السهولة. ليست مواجهة ربنا بقدر ما هي مواجهة وجوهنا. فواجهنا وجوهنا- الوجه من دون ملامح. مثل صفحة بيضاء لا خطوط فيها. فمن أين نبدأ القراءة. لقد قالوا لنا أن لا نقلق بشأن القراءة. لا أحد يقرأ. كانوا يريدون منا أن ننظر فقط. فقعدنا في وسط غرفة ننظر الى الصفحة البيضاء. لعلها تنطق مثلا وتقول لنا عن مصيرنا الذي انتظرناه بصبر. كل حياتنا فوق الأرض كان انتظارا لهذه اللحظة. ننظر الى الصفحة الفارغة ببله وهناك صمت.
قام أحدنا واقترب يلمس الصفحة البيضاء. وضع يده عليها. وقف هناك يفكر بالذي يجب فعله. راح يداعب لحيته البيضاء. ثم التفت نحونا يقول يجب عمل شيء مفيد. ليس البله في الورقة البيضاء إنما في نفوسنا التي لا ترى.
انا أحبها. أقصد كنت أحبها. أين هي. لم تكن بيننا.
لم أتذكر سواها. لم أتذكر أمي ولا زوجتي ولا أولادي. إلا هي. تحضر بداخلي وتخلق ذكريات لا يتسع لها عقلي الصغير.
اقتربت من الرجل الشيخ ذي اللحية البيضاء. ولمست وجه الورقة البيضاء. لقد أحسست بما كان يفكر به. فالورقة ليست ورقة. حين ألمسها. يحدث هياج خلق.
يا ربي ماهذا. فلكزني الرجل يقول لا أحد بهذا الاسم في هذه الغرفة. على حين غرة خرج مني الذين عرفتهم في زماني الماضي. أمي وأبي وأولادي والأقارب ثم كل الموضوع. لقد كان الأمر تنزيل شبكة الزمان من رأسي. فنزلت. كان عندي إحساس بالبياض. لا احد بهذا الاسم!
لكن الحقيقة التي جرت في قلبي وغرزت رأسها هناك كانت هي. أين هي إذن؟ لقد تفحصت الورقة. أريد فقط أن أتذكر طيفها او وجهها. ضحكتها التي تنزل في تلافيفي مثل صدى يذهب ويجئ فيكون بالتالي ارتداد كوني بمعنى أن الفراغ قد ملئ بالطاقة. لقد قلت للرجل يا رجلي الأبيض أنظر هل ترى الذي أراه. فرد علي بسأم بأنه لا يوجد أحد. إن ما تراه هو الفراغ بعينه.
وضعت يدي في جيبه أبحث عن سكين. وجدته. في جيبه العميقة. لقد أدخلت يدي إلى مكان بين ساقيه وأخرجت منه سكينه. ورفعتها عاليا في وجه الورقة. قلت للورقة سأكتبك. إن في رأسي فورة وجهها الذي لم يغيبه الموت. الذي لم يغيبه غياب الزمان. الذي لم يغيبه الانتقال إلى لاء الخلق- ماهو لاء الخلق؟ لا أعرف. لم يغيبه شيء البتة. وجهها أن يتحضر للطلعة وهي تلمسه بيدها في المرآة ومعها عناقيد زينة وأزهار لشم النسيم ونهر كبير وعريض مياهه صافية مستوردة ترى فيها تكوين الأرض. وهناك من النافذة زمامير سيارات الطريق. تطويت. تطوت السيارات في العصر في الشارع. وهي لا تكف عن تزجيج حاجبها الثخينة. لا تكف عن تلوين قزحية العين. لا تكف عن تغيير صبغة الشعر. لا تكف عن رش عطور غابة على شعرها كي تخرج علينا ونحن حين ننظر إليها فإننا...يا عيني... لن ننساها أبدا.
هي لحظة فقط. حين تمر فوق الرصيف. نحن قاعدون نرمق مرورها المشي أمامنا ونسمع طق الكعب العالي وميلان الجسد عن قصد ومزاج. كأنها تؤلف أغنية. ميلان شيطاني يبزغ فيه على حين غره إله.
الآن الورقة البيضاء والسكين ولا شيء سوى وجهها الذي يعرفه القلب. لكن الرجل الشيخ نبهني بأننا، بأنني من دون قلب أيضا. لقد نزل مع تنزيل شبكة الزمان من رأسي. أنا والورقة البيضاء ورحت بالتالي أشك بمسألة وجهها. من أين حضر يا ربي. لكزني الرجل أيضا يقول: لا أحد في هذه الغرفة بهذا الاسم.
إذن أنا والورقة البيضاء والسكين وحالة...حالة وجهها.
غرزت السكين بعد تردد وخوف فيها وسحبتها على طول إلى حد القطع. الورقة التي لم يمزقها حد ولا سحب. لم تمزق. لا آثر فيها. ظلت بيضاء. فقال الرجل لأن الذاكرة غائبة والزمان متروك. فأجبته: لكنها حاضرة يا عمي. أنظر في رأسي قليلا يمكن تراها هناك. هي بالفعل قاعدة. كل مرة تتزين أمام المرآة ثم تطلع فسحة العصر تمشي على الرصيف، أنظر فقط! لكن الرجل لم ير شيئا. لم ير تلافيفها. قال لي بأنها ورقة بيضاء وحد السكين الذي تغرزه فيها ولا يفعل لن يعيدها إليك.
تقريبا، شعرت بالضياع.
ماذا لو كان كلام الرجل صحيحا، لا شيء في رأسي سوى الورقة البيضاء؟!
أشعر بأنني كنت أحبها. أذكر وجهها وعينيها الواسعتين مثل عيون العجم أو الأتراك- باشاوات تركية يهبطون علينا في القرن السابع عشر عصر عبد الرحمن وعبد الحميد- من هو عبد الرحمن؟
يهبطون علينا في العصر. عصر دمشق مثلا. عصر القاهرة وعصر بغداد. لم يستطيعوا أن يدخلوا عصر اليمن لأن بلادهم محجوبة وممنوعة بالحجر. يهبطون علينا مثل النمل ومعهم عيونهم الواسعة مع أغاني طورها عمر البطش وطورها معه – كان يدا بيد. سيد درويش. لم تكن عيونهم واسعة فقط بل كان شعرهم الأسود النازل مثل شلالات براكين توها انطفأت..فيها عوالج حب. الأتراك من استنطبول يهزون فراغاتهم على دائرة بحرية كانت تتحضر للغرق. غرق الحب. الذي إن غرق فأنه لن ينسى.
لكن كل هذا لن يفيد. فلن أعرف من هي. إنما أعرف بأنها في قلبي. قلبي الذي رميته منذ زمان. وظلت مختبئة. لا أعرف أين. حين كانت مضخة النهر توّلد بالقوة صعودا عموديا لهدير لا تحمله مدينة كاملة. تضخ المياه بسعة ملايين الكالونات في الثانية. كانت بين فراغات الماء. نهر. على وجهها ابتسامة. في محياها إمارة. وأسنانها من التدخين الدائم- تغلق فمها وقت التصوير. وعلى الطاولة الكسلى ثلاث علب دخان وطني ثقيل. بعض الأحيان يهدونها الأصدقاء علبة سكائر كنت خفيف كي يخففوا عليها العذاب.
أسال نفسي المعذبة البيضاء من هي. متى أقامت؟ أسئلة تعجيز، لأنها لم تكن يوما إلا انا ولم أكن يوما إلا هي. وحبي لها كان حبا لي- حبي لها كان كاذبا.

23 كانون الثاني- يناير 05








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح