الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدي.. رحل أحمد بن بله آخر رجالك الثائرين!!

شوقية عروق منصور

2012 / 4 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


" قبل أيام توفي الرئيس الجزائري السابق احمد بن بيلا فخرجت هذه الصور من سرداب الذاكرة. "
جدي..! كان موتك في عز موسم الهزائم- هزيمة 5 حزيران 1967- لم تنتظر النتائج، لأن الأطباء قالوا أن السكتة القلبية اغتالت الشرايين التي كانت معدة للفرح. لم تتحمل كلمات الرجل الذي دخل كهف الحزن ونصب فوق سطحه راية استسلامه، يوم قرر الرئيس جمال عبد الناصر التنحي عن الحكم. غمرك اليتم ووجدت نفسك في فراغ يصطدم بهشاشة الغد، ولم تكن تدري أن أمواج الأثير التي تتسلل من جهاز الراديو الكبير, الذي كنت تحرص على شحن بطاريته دائماً، خوفاً من أن يفوتك خطاب لجمال عبد الناصر أو بعض الرؤساء العرب الجدد الذين انتصروا على الاستعمار الفرنسي والبريطاني, كانت تتناقل هذا الخبر المفجع. وكانت مدينة القاهرة آنذاك تطحن التفاؤل وتقدمه خبزاً وفخراً وعزيمة للشعوب العربية, التي وجدت في احتضان جمال عبد الناصر بوصلة ترشد الينابيع إلى محيط القوة. لم تكن تعلم أن بطارية حياتك ستجف, ولن يعاد تعبئة أحلامها.
حين كان يشعر جدي بأن البطارية على وشك التوقف يجبر جدتي على حمل البطارية على رأسها, والذهاب إلى المحل الذي تخصص بشحن البطاريات. تقف بالدور وما أن يأتي دورها حتى تبدأ بشتم الراديو والذي اخترع الراديو...! وما أجمل جدتي حين كانت تصل البيت وتجد جدي منتظراً البطارية الجاهزة للسماع ولا يهمه تعبها وساعات الانتظار. عندها يسمع سكان الحارة صوتها الذي تتسع ذبذباته لكل دفاتر الشتائم، ويتصرف جدي عندها حسب قاعدة "احن رأسك حتى تمر العاصفة بسلام. فكيف إذن يواجه عاصفة جدتي التي قد تصل إلى تمزيق الصور المعلقة على الحائط؟! فعشقه للرئيس جمال عبد الناصر يدفعه لقص كل صورة له من جريدة أو مجلة, وإلصاقها على الجدار الذي يئن من الصور التي تكاثرت وأصبحت تشكل إزعاجا لجدتي. ومن اجل عبد الناصر- الذي كان يحلو لجدي أن يذكره بكنيته "أبو خالد"- أحب أيضاً الرؤساء العرب الذين قارعوا وقاوموا الاستعمار آنذاك, وقد احتضنهم "أبو خالد" وبذل الجهد والمال والسلاح والرجال حتى انتصروا وطردوا الاستعمار، وأصبحت بلادهم حرة ومستقلة، واستقلالهم هو البريد المضمون للثقة بحكمته ومبادئه ومناصرته.
في الضلوع ملامح صور محددة، يهطل مطر الوجوه الثائرة، تسير الملامح على رؤوس أصابعها. ها هي ملامح احمد بن بيلا, الثائر الجزائري وأول رئيس للجزائر بعد الاستقلال وأحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني, التي حاربت الاستعمار الفرنسي ودفعته للهروب من جحيم المقاومة الجزائرية. صورة بن بيلا تقتحم غرفة إنعاش الذاكرة، عندما زار القاهرة ووقف إلى جانب عبد الناصر. كان يشعر عبد الناصر نحوه بشعور الأب الذي منحته الأقدار الأبوة السياسية لمناصرة المقهورين والمتعبين في العالم العربي, وبقي بن بيلا، حتى آخر يوم من حياته, يذكر فضل جماعة "الضباط الأحرار" وعبد الناصر بالذات على نجاح الثورة الجزائرية، ويعتبره المثل الأعلى.
كانت جدتي حين تغضب تمسك طرف الصور وتقسم بتمزيقها، وتتراجع حين يهجم جدي ويقسم بالطلاق إذا مزقتها. تتردد وترتخي يدها لأن جدي لا يحب المزاح. ونهرب نحن الصغار من الغرفة خوفاً من غضب جدي. كان جدي يحرص على اقتناء الجريدة رغم فقره، ويحتفظ بالأعداد جميعها, وحين تعجبه صورة فيها لقاء الرؤساء أو الثوار الجدد الذين طهروا دولهم من دنس الاستعمار يقصها ويعلقها. وكان أيضاً يكتب على الحائط, بقلم رصاص, تواريخ الأحداث السياسية الهامة التي يمر بها العالم العربي. اذكر في احد أيام شهر رمضان, وكان من المقرر أن نتناول وجبة الإفطار في بيت جدي، فما أن وصلنا حتى وجدنا جدي في حالة حزن ويرفض تناول وجبة الإفطار وبقي صائماً. سألت أمي جدي عن حزنه فقال وهو يكاد يبكي: "الرئيس العراقي عبد السلام عارف مات.. سقطت الطيارة اللي كان فيها". لم أعرف عبد السلام عارف، لكن عندما تجمعنا حول المائدة كنا نأكل بصمت, وبقي جدي لوحده في الغرفة، يلف الدخان العربي ويتنهد. وعندما طلب غلاية قهوة مرة ركضت أمي وجدتي وخالتي لعمل غلاية القهوة. هذا الطوفان من الخوف رأيته وهم يحاولون إشعال البابور، وستي تردد: "عبد السلام عارف من بقايا أهله، والله لو مات أبوه ما حزن هيك عليه". حزن جدي امتد إلى العيد ومنع جدتي وأمي من صنع الكعك, وشراء ثياب جديدة لنا: "الشعب العراقي حزين وانتو تحتفلوا بالعيد"..!
صورة شكري القوتلي الرئيس السوري, الذي تنازل عن الحكم لأجل جمال عبد الناصر من اجل إنجاح مشروع الوحدة بين مصر وسوريا, كانت حاضرة هي الأخرى هذا المواطن العربي الأول- كان يردد أمامنا دائماً- "ولا رئيس يتنازل من خاطره عن الكرسي من اجل رئيس آخر، علشان هيك هو الأول"..! لم يعش جدي ليرى الرؤساء العرب كيف يلتصقون بالكرسي حتى النفس الأخير. عندما أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا رقص واجبر جدتي على صنع الهريسة. لم تجد أمي دربكة، قلبت الطنجرة وأخذت تطبل عليها, وجدي يرقص ونحن نضحك حين يتعثر جدي بقمبازه..! وعندما انقلبت الأمور وانفكت الوحدة شعرت أن هناك هماً يئن به فوق ظهره, وازداد لف الدخان والتدخين وتخلى عن قعدة الأصحاب، وجدتي تشتم وهي تقول "كأنه قاعد في طابون، دخان، دخان"..! بعد وفاة جدي خبأت جدتي الراديو على "السدة", لا تريد سماع الأخبار والخطابات التي لا تطعم "ولا تودي ولا تجيب".
وبقيت أسماء هؤلاء الرؤساء في ذاكرتي, وصورهم تثير في داخلي الحنين لأيام كانت مضيئة. كنت أرى الأمل في كل مكان، يتجول في الأزقة والحارات والشوارع والبيوت. كان أصدقاء جدي يحللون القضايا السياسية ويخرجون بنتيجة أن المستقبل مشرق، وهناك من سيغير ويمسح الدموع ويرجع فلسطين. بعد وفاة جدتي ذهبت كي احصل على جهاز الراديو القديم فقالوا لي أنهم رموه في الزبالة. من يومها لا أطيق سماع خطاب لرئيس عربي, رغم أنني املك جهاز راديو بحجم الكف وليس بحاجة إلى شحن، فشحن بطاريات الشعوب يأتي من الرؤساء الذين اقسموا أن يغيروا شعوبهم, لا أن يطعنوها..!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدبلوماسية الأمريكية: أي أمل لغزة ولبنان؟ • فرانس 24


.. هاريس - ترامب: أيهما أفضل للعالم العربي والمنطقة؟




.. تونس: ماذا وراء حبس -صنّاع محتوى- بتهم أخلاقية؟ • فرانس 24 /


.. ما أسباب توقيف طالب فرنسي في تونس بقرار من القضاء العسكري؟




.. تونس: السجن أربع سنوات ونصفا لناشطة تونسية على إنستغرام بتهم