الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجحيم الموعود

صبحي حديدي

2005 / 1 / 25
الادب والفن


الشريط الجديد للسينمائي الإسرائيلي المتميّز عاموس غيتاي يحمل اسم "أرض الميعاد"، والأرجح أنه ــ وهكذا سيظلّ حتى إشعار آخر طويل ربما ــ الوثيقة السينمائية الأقسى ضدّ إسرائيل، "الواحة" التي لم يتوقّف التبشير الصهيوني وبعض استطالاته الغربية عن تقديس أخلاقيات الحياة فيها. انطوت، مرّة وإلى الأبد كما يلوح، روح الكيبوتز التي تقلب الصحراء جنّة وارفة وينابيع من حليب وعسل، والصهيوني الصبّاري اليوم قوّاد مافيوزي يهرّب الرقيق الأبيض، ويتاجر بالمهاجرات الباحثات عن عيش أفضل، ويسومهنّ الذلّ والهوان والعذاب، ويُشبع في أجسادهنّ أحطّ الرغائب الوحشية...
مَن شاهد الشريط، الذي يُعرض الآن في الصالات الفرنسية، لن يجد في السطور السابقة أيّ تهويل أو مبالغة، بل لعلّ البعض سيجد تلطيفاً للصورة السوداء القاتمة التي يرسمها غيتاي عن هذا القطاع في حياة إسرائيل الراهنة، حيث تبدو أرض الميعاد وقد انقلبت إلى أقذر دار عهر لأشدّ ما في العولمة من تجليات وحشية. ولسنا نحن، بل صحيفة "لوموند" الفرنسية، مَن اعتبر أنّ أحد مشاهد الشريط تذكّر بفظائع أوشفتز والهولوكوست، مع فارق أنها هذه المرّة تجري بأيدي اليهود أبناء وأحفاد الضحيّة السابقة. ولسنا نحن، بل غيتاي نفسه هو الذي شاء أن يطلق على دار البغاء في الشريط اسم "أرض الميعاد"!
وفي رائعته السابقة "كادوش"، 1999، تناول غيتاي محنة المرأة في المجتمع الإسرائيلي المتديّن، وهو اليوم ينتقل إلى محنة المرأة في المجتمع ذاته، ولكن عبر النساء المهاجرات ضحايا مافيات الرقيق الأبيض. إنها حكاية نصف دزينة من الصبايا الآتيات من الإتحاد السوفييتي السابق (إستونيا، ليتوانيا، أوكرانيا...)، القادمات إلى إسرائيل بواسطة شبكات تهريب تنظمها مافيات روسية وإسرائيلية وأخرى وسيطة، عبر محطّات تبدأ من القاهرة وبور سعيد وصحراء سيناء ورام الله وإيلات، وتنتهي في حيفا.
والصدمات تتعاقب في الشريط، على هيئة مشاهد متلاحقة ذات إيقاع سريع لاهث، تحت وطأة كاميرا محمولة باليد أو على الكتف، تتعمّد خلق حسّ الريبورتاج والتوثيق أكثر من السرد أو بناء حبكة، بل تبدو أحياناً أشبه بالكاميرا الخفيّة. وأوّل لطمة قاسية تأتي مباشرة في المشهد الأوّل، الليلي الشاعري، حيث تسير قافلة جِمال تحت ضوء القمر، تصحبها موسيقى روحية، فيبدو المشهد بأسره وكأنه منتَزع من إحدى حكايات عيد الميلاد، وتحديداً مجيء ملوك المجوس إلى فلسطين للاحتفاء بميلاد المخلّص.
غير أنّ الجحيم، وليس البتة أرض الميعاد، هو ما ينتظر الفتيات حين يجري (في مشهد ليلي مذهل، لا تنيره سوى المصابيح اليدوية!) مزاد علني على الأجساد، بل على أعضاء بعينها في الأجساد: "إنظروا إلى ردفيها"! "هذه عذراء تامّة"! "هذه تبدو داعرة"! "مَن يدفع أكثر"! تُكدّس الفتيات في شاحنة، ويتمّ تهريبهنّ إلى إسرائيل عبر رام الله (سيراً على الأقدام، مروراً بالحواجز، بعد إجبارهنّ على ارتداء الثياب الفلسطينية!). وفي رام الله تسترقّ إحدى الفتيات النظر عبر غطاء الشاحنة فتقول: "تبدو مدينة مفروضاً عليها حظر التجوّل"؛ وعلى مشارف إيلات تقول أخرى: "نحن الآن في عالم متحضّ" ؛ وهذه مجرّد واحدة من سلسلة المفارقات السوداء التي يتقصدها غيتاي.
المشهد الذي دفع صحيفة "لوموند" إلى استعادة أوشفتز هو الحمّام الجماعي الذي تخضع له الفتيات حال وصولهنّ إلى المنتجع العائم على البحر: ضمن إيقاع سريع، ومشاهد بالغة القسوة ثقيلة الوطأة بالفعل، يتمّ تجريد الفتيات من ثيابهنّ، ويجري رصفهنّ على منصّة معدنية تطلّ على البحر، ثم توجّه إليهنّ خراطيم مياه ضخمة، تماماً كما في غسل الماشية أو تطهير أجسادها بالمبيدات! وفي المشاهد اللاحقة، وهي إجمالاً ليلية قاتمة داكنة إلا في حالات نادرة للغاية، تتوالى فصول إعداد الفتيات للمهنة، وبينها ذلك المشهد الأخاذ الذي تصنعه الألمانية الكبيرة هانا شيغولا، في دور القوّادة الأمّ، حين تقوم بمكياج إحدى الفتيات فتكفكف دمعها وتروي أنها مرّت بظروف مماثلة تقريباً، وأنّ البغاء ليس سبّة بل هو عمل مثل سواه.
ذروة استثنائية في المفارقة يبلغها غيتاي في المشهد الأخير، حين تتحرّر إثنتان من الفتيات وتهربان من دار البغاء في ضواحي حيفا، وسط فوضى عمليات الإنقاذ من الحريق الناجم عن انفجار... سيارة مفخخة! وقبل الحريق كان غيتاي قد رسم مشهداً مزدوجاً ـ تحفة، جلب عليه سخط عشرات المعلّقين الإسرائيليين: في مستوى أوّل يقلّب أفراد المافيا ما بين أيديهم من بضاعة اللحم البشري؛ وفي مستوى ثان، متمازج مع الأوّل، تتداعى ذكريات ديانا الإستونية المسيحية عن صلاة الأحد في موطنها، وذكريات روز الأوروبية اليهودية عن ترتيل المزمور الـ 221 الذي تقول بعض أعداده: "فرحتُ بالقائلين إلى بيت الربّ نذهب. نقف أرجلنا في أبوابك يا أورشليم. (...) ليسترحْ محبّوكِ. ليكنْ سلامٌ في أبراجك راحةٌ في قصورك. من أجل إخوتي وأصحابي لأقولنّ سلامٌ بك. من أجل بيت الربّ إلهنا ألتمس لك خيراً".
... وأيّ خير!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟


.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و




.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا


.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف




.. فرحة الفنانة أمل رزق بخطوبة ابنتها هايا كتكت وأدم العربي داخ