الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حالة إبداع

عادل بن زين

2012 / 4 / 24
الادب والفن


في ركن منزوي في مقهى نيفرتيتي، خلعنا أضلعنا كي نستريح من الحر. المكيف يرسل هواءه المنعش بسخاء ليتكسر على العظام، والكراسي. يتوغل الهواء إلى أقصى الأماكن المضروب عليها الطوق في جسدينا. والإسفلت ثعبان أسود تطأ جسده ألوف الأقدام.
جاء النادل فطلبت فنجان قهوة سوداء كأيامي السوداء، بينما طلبت سميرة عصير البرتقال. رميت قطع السكر، ورحت بملعقتي أحركها، وأحركها، ثم أحركها.
- قالت: لماذا تحرك بهذه الطريقة العنيفة؟ أراك لا تنفك عن تحريك القعر. لقد ذاب السكر، فماذا تحرك؟
- قلت: أنا لا أحرك قطع السكر، إني أحرك جنا تسكن القعر.
- قالت: جنونا؟ أين هي؟ أنا لا أرى إلا زبدا، وملعقة لا تنفك عن الدوران. يبدو أن الخرف أخذ يغزو مخيلتك.
قالت ذلك ثم بدأت مشروع ضحكة غير مكتملة. تتعمد فتح فمها كي تتبدى أسنانها الناصعة البياض، والمصطفة بشكل بديع كأوراق الأقحوان. تتعمد ذلك، لأنها تعلم أني مفتون بأسنانها، وكي تزيد النار اشتعالا، تتعمد وضع قليل من الأحمر على الشفتين، فتزداد فتنة وغواية.
أما أنا فلا أنفك عن تحريك قطع السكر كي تذوب، وأطارد جنا تتحصن في القعر، غير مبال بتعليقاتها التي تبدو في بعض الأحيان معقولة، وأحيان أخرى، مجرد أفكار ملساء. أحيانا حين أجلس وأطلب شيئا ما، أشرد وتذهب بي أفكاري إلى عوالم بعيدة، ولا أعيش مع سميرة إلا بهيكلي؛ فالإنسان لا يملك إلا أن يكون منزوعا من أصله، معلقا مثل طحلب رمته موجة على الصخر، خاضعا للأقدار، وإن تمرد سواء على ذاته أم على العالم أم القدر، فإنه، في نهاية المطاف، خاضع بشكل أعمى لكائنات ميتافيزيقية.
هبط الليل على المدينة من السقف، وتألقت الأضواء فارتادت الفتنة والإغواء. تبدو لي ذاكرتي رائقة، وأنفاس الليل الرطبة تنعشني، وتدعوني لوليمة الكتابة. ولكن عن أي شيء أكتب؟ هل عن شيء اسمه الحب؟ أم عن شيء اسمه الموت؟ أم شيء اسمه الغربة في مدينة بني ملال؟ أم عن كائن اسمه سميرة؟
عدت إلى الغرفة، أفردت جسدا أبيض فوق مكتبي، خاليا من التجاعيد، فأنا أكره الأجساد المتجعدة. ثم قلما أزرق، وفنجان قهوة سوداء، ثم كتبت: "في يوم ما، لم أعد أذكره، تعرفت على سميرة في مدرج الكلية، دعوتها إلى مقهى نيفرتيتي، لم تكن جميلة بالشكل الذي يغري حتى الموت. كانت سمراء (وكما تقول سمرة ماروخا). الجميل فيها نصاعة أسنانها، وترتيبها البديع، و..و..و... كتبت هذا لامرأة مفترضة تسكن وادي عبقر". مزقت الورقة، ورحت أذرع الغرفة ذهابا وإيابا، مسكونا بالمعلقة، والكأس، والسيجارة.
كنت كلما جلست إلى مكتبي، وأحدثها عن تفاصيل المرأة، وعلاقاتي السيئة مع القدر، والصدفة، وسوء الحظ، تصغي إلي باهتمام نادر، وعندما لا أتوفق في إيجاد العبارات الملائمة تساعدني. وعندما أشعر بالملل أو التعب قد هبط من السقف على كتفي وأنهض، تلح علي أن أواصل الكتابة حتى لا تتصرم الأفكار من الذاكرة، فأرضخ لإغرائها وفتنتها.
في الليل لما أفرد عظامي على مقصلة السرير، تخلع عني البطانية، وتشرع في تأنيبي. قالت ذات يوم ممطر وبارد:
- لن تصبح كاتبا أبدا إن بقيت على هذا الحال، بل لن تكمل قصتك أبدا. إن الكاتب هو من يغالب السهر، ويقتل الملل. الكتابة شفاء من مرض العجز، ومواجهة جبن الموت. يا لك من كائن مشلول. الكاتب لا يوجد إلا في ذاكرتك المثقوبة.
قلت لها في غضب:
- ومن قال لك إني أريد أن أكون كاتبا؟ أنا لا أكتب لك، ولا لغيرك، إني أكتب لكي أفضح عري ذاتي فقط، وشيئا اسمه الغربة، والضياع، والفشل في مدينة مقصوفة بالنار والكبريت. إني فقط أتطفل على مهنة الكتابة.
عندما أطردها مني وأستعيد أقوالها، أجد فيها نصيبا مهما من المعقولية، وأجد كذلك في هذه المدينة، نصيبا معقولا من العهر، ورائحة فساد مستشرية؛ تقصف المقهى، والحانة، والحديقة العمومية، والشارع العام؛ نميمة ونفاق اجتماعي.
رن الهاتف بشكل عنيف. استيقظت مذعورا أبحث عنه، فلا يأتيني إلا رنين منهك من تحت ملابسي قرب حافة السرير. فتحت الخط فجاءني الصوت من الضفة الأخرى:
- يوسف أين أنت؟ لماذا لم تأت إلى الفصل؟ لقد كانت حصة السيميائيات شيقة. أما زلت نائما؟ استيقظ أيها الكسول، الشمس معلقة في كبد السماء.
- نعم ما زلت نائما. أنا قادم.
رميت البطانية جانبا، غسلت وجهي وارتديت ملابسي بسرعة. وأمام باب الكلية، كانت سميرة تحمل في اليد اليمنى كتابا، وفي اليسرى حقيبتها اليدوية. كانت مشتبكة مع عتيقة وليلى، وأكيد أنهن لا يتكلمن عن السيميائيات، بل ولا شك لدي، أنهن يتقاسمن لحم منتوف ما بالتقسيط. لما وصلت سلمت عليهن ثم أخذتها من ذراعيها بعيدا. قالت:
- هذه الأيام لا تبدو لي على ما يرام، صرت تتأخر عن الدراسة كثيرا، وأحيانا لا تأتي، وهذه ليست من عاداتك، ماذا يحدث؟
- لا شيء مهم. فقط خذلني النوم. أراك تحملين كتابا؟
- نعم؟؟؟؟؟؟؟؟ هذه رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، وجدتها في بيت عفاف فأخذتها لك. أعرف أنك تفضل مجالسة رواية على امرأة مقرفة.
- امرأة مقرفة ممكن، ولكن سمراء لا أظن ذلك. على كل أنا ممتن لك فلطالما تمنيت أن أقرأها. منذ منعني أستاذ التربية الإسلامية من قراءتها في الثانوي، نفرت منها.
ثم انسللنا إلى شجرة وارفة الظلال، في آخر ساحة الكلية، ورحت أحدثها عن القلق الذي يسكنني، وعن الزمن الموبوء، وزمن الرداءة الذي يقصفني بعنف.
عدت إلى قصتي التي لم أنهها بعد. وجدت صديقتي تطل ببسمتها من وراء السطور. ولما أخذت القلم بين أصابعي، قالت في غنج ماكر:
- أين كنت أيها العاشق الفاشل؟ لماذا سجنتني وغبت كل هذا الوقت؟ إنني أتنفس الحرية، فلا تتركني وحيدة أتهجى طلاسم الليل، وأتدثر العتمة. إن الحبر يغرقني حتى المآقي.
- أنا آسف يا ... ما اسمك؟
- لا أدري، مازلت أنتظر أن تمنحني اسما. أنا ابنة مخيلتك، وعقيقتي لم تحن بعد.
- سأسميك ملهمتي... لا ...فاحمة الشعر...لا. من الأحسن أن تختاري اسما يناسبك، فأنا لست بارعا في إطلاق الأسماء.
- نادني سميرة. أحب هذا الاسم.
- اسم جميل، أنا أيضا أحب هذا الاسم، يذكرني بالسمرة.
واتفقنا منذ ذلك الحين، أن ننادي بعضنا هكذا، تنادني "يوسف" أو "الكاتب الفاشل"، وأناديها أنا "فاحمة الشعر" أو "سميرة".
أذكر، كانت حصة اللسانيات التوليدية، في المدرج رقم 4، وكانت الحرارة متجبرة في السقف، ولم تكن لي القدرة على متابعة محاضرة الأستاذ. ملت على كتف سميرة وهمست: "ليتك تدركين ما أعانيه، أشعر أحيانا أني منفصل عن عقال التاريخ مثل طحلب قذفه الموج بعيدا، وأنا لا قدرة لي على السباحة مثل شرغوف انفصل عن قطيع الشراغيف، في بركة عميقة القاع، فسيحة الأطراف". ردت بابتسامة ساخرة أبانت عن نصاعة أسنانها: "لست الوحيد الذي يعيش منفصلا في هذا الزمن الموحش، فجيل بأكمله يتجرع مرارة البؤس، وتواطؤ القدر، وفصيلة العرب في طور الانقراض، إن لم يتداركها الله".
وفي تطور مفاجئ، قلب كل تصوراتي، اجتاحتني هذه الأيام سميرة من حيث أدري أولا أدري، فتركتني مشدوها مثل جرح جميل في جسد اللحظات. وجدتها حين فتحت أوراقي، عارية إلا من الحبر المتدفق من مقلتيها. وكي تنزع عني ثوب الوجوم، بادرتني قائلة:
- ألا تريد أن تنهي قصتك؟
- بلى، ولكن ذاكرتي كسيحة، ولا تسكنها إلا فاتورة الخبز. بالمناسبة أريد أن أحدثك عن موضوع مهم. قلت ذلك بلساني فقط، وأما عيناي فقد كانتا تتلصصان على فتحة الصدر. وبين فخدي نغل يكاد يفضحني.
- موضوع مهم؟ لا أعرف أنه في قاموسك كلمة مهم. لكن لا بأس، أحب أن تطلعني على آخر مستجداتك.
- أظن أن هذا المكان غير ملائم، ما رأيك بمقهى نيفرتيتي، إنه مكان هادئ ومريح؟
ثم دلفنا المقهى. المكيف يرسل هواءه المنعش بسخاء. وفي ركن منزوي، أفردنا عظامنا بشكل متهالك. جاءني النادل بفنجان قهوة سوداء، أما هي فقد أخذت عصير برتقال. ألقيت قطع السكر، ورحت أحركها بعنف. قالت، وهي لا ترفع عينيها عن أصابعي، التي لا تكف تحرث قاع الكأس:
- يكفي، لقد ذاب السكر، فماذا تحرك؟
- إني لا أحرك قطع السكر، بل أطارد جنا تستوطن قاع الكأس.أريد أن أبيدها خوفا من أن تتسرب إلى ذاكرتي، فتصيبني بالعدوى.
- ها... جنا؟ أنا لا أرى أي شيء، يبدو أنك فقدت عقلك، أو أن الخرف والحمق بدآ يغزوان مخيلتك.
- لا إن هذا الزمن الموبوء هو الذي أفقدني آخر حبة عقل من دون عفاريت.
- دعنا من عالم الجن، والعفاريت، والخيول الخشبية. حدثني عن الموضوع المهم؟
- لقد قطعت علاقتي بالمرأة التي حدثك عنها. قلت ذلك وأصخت السمع لردة فعلها.
- كيف؟ لقد قلت لي إنك لا تستطيع عنها فكاكا.
- اكتشفت أن جيبي ليس وسيما، وأني مسكون فقط بعالم بعبد الرحمان منيف، وأحلام مستغانمي. أنهينا كل شيء بالتراضي.
وضعت كفها على خدها، وتركت سبابتها تداعب خالها. أبرقت عيناها بسرور وحشي. سددت الفاتورة. التصقت بذراعي، ثم ضعنا في زحام ساحة الحرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال