الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواطرٌ إيطالية.

طارق حجي
(Tarek Heggy)

2012 / 4 / 24
مواضيع وابحاث سياسية



رغم أَن السفَر كان دائماً من أهم معالم حياتي ، وهو ماأخذني لأكثر من مائة دولةٍ على سطحِ الكرةِ الأرضيةِ ، فإن أسفاري إلى إيطاليا حتى سنة 2008 لم تتجاوز أسبابها سبباً واحداً هو "السياحة" . ولكن حدثين وقعا خلال سنة 2008 غيرا من هذه الحال ، فأصبحت الخيوطُ التي تربطني بإيطاليا عديدةً ووثيقةً وعميقةً . أما السببُ الأول فكان صدور طبعة إيطالية من كتابي عن العقل العربي . وأما السبب الثاني فكان حصولي على أهم الجوائز الثقافية الإيطالية وهي جائزة كافور غرينزان. منذئذ ، توالت سفراتي لهذا البلد شديد التمَّيز إما بدعواتٍ من عددٍ من جامعاتِ إيطاليا أخذتني لمعظم ربوعها ، وإما للحديث في تجمعاتٍ ومحافلٍ أعدها ناشرُ كتبي بالإيطالية للحديثِ عن تلك الكتب. ومنذ أيام كنت في إيطاليا (مجدداً) بدعوةٍ من عددٍ من جامعاتِ أقصى الجنوب الإيطالي حيث المناخ الثقافي الأقل تأثراً بأوروبا والأشد تأثراً بالبحرِ المتوسط.



بدأت الرحلةُ بتجربةٍ تستحق أَن يُكَتب عنها . في الدقائق الأولى للرحلة الجوية من القاهرة إلى روما ، أنغمستُ في حوارٍ محتدٍ بين رئيس طاقم الضيافة الإيطالي من جهة وبين مصريين كانا يرتديان الزي الأزهري. ونظراً لعدم وجود لغة مشتركة بين الإيطالي والمصريين ، فقد وجدتُ نفسي منغمساً بينهما. كان رئيسُ طاقم الضيافة الإيطالي متمسكاً بضرورة جلوس الأَزهريين على المقعدين المخصصين لهما ، بينما كان الإزهريان متمسكين بالجلوس على مقعدين في درجةِ رجال الأعمال . وضحت للأزهريين ضرورة شغلهما للمقعدين المحددين في بطاقة الرحلة ، فأبديا شديد الإستياء من تكبر وتعنت الأوروبيين !! فلما بائت محاولاتي لإقناعهما بضرورة إحترام النظام بالفشل ، لم يبق أمامي إلا أن أَذكر ماكنت لا أريد ذكره وهو أنهما إشتريا بطاقتي سفر على الدرجة الإقتصادية ، وهو ما يحول بينهما وبين الجلوس في قمرة رجال الأعمال. زاد توضيحي هذا إستياء الشيخين من تفكير ومعاملة الأوروبيين !! وبعد حوارٍ لم تكن هناك شواهد على أنه سيصل إلى نهايةٍ ، جاء قائدُ الطائرة وأعطي الشيخيين خيارين لا ثالث لهما : اما الجلوس على المقعدين المخصصين لهما أو مغادرة الطائرة . إمتثل الشيخان على الفور وتوجها إلى المقعدين المخصصين . وما إن جلست أنا على مقعدي حتى إنشغل عقلي بالتفكيرِ في شيخٍ أزهري آخر توجه إلى أوروبا في سنة 1826 لمرافقةِ ونصحِ مجموعة الشباب المصريين الذين أرسلهم محمدُ علي في تلك السنة للدراسة بعددٍ من معاهد فرنسا العليا . أحاط بي طيفُ هذا الشيخ الإزهري الرائع ( رفاعة رافع الطهطاوي :1801/ 1873) الذي أقام في فرنسا لخمس سنوات حتى 1831. وبعد عودته لمصرَ أخذ يسطر للمصريين روائع تجربته وفكره في عدة كتب من أهمها "تخليص الابريز في تلخيص باريز" و "المرشد الأمين في تربية البنات والبنين" و"مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" ... وغيرها ، بالاضافة للكتب التي قام بترجمتها من اللغة الفرنسية للغة العربية والتي زادت عن خمسة وعشرين كتاباً. ومن عاداتي في القراءة معاودة مطالعة بعض ما قرأتُ أكثر من مرةٍ . ومن بين ما أُعاود مطالعته منذ أربعين سنة ، المؤلفات الرائعة لهذا الشيخ الفذ "رفاعة الطهطاوي" العظيم الذى لم يذهب إلى فرنسا للتعليم وإنما ليكون إمام البعثة الدراسية المشرف على الجانب الديني والأخلاقي لإعضائها . ومع ذلك فقد دله عقلُه الراجح وطبيعتُه السوية على الإعجابِ بمنجزاتِ الحضارة الغربية ؛ ليس فقط في جانب تطور العلوم التطبيقية ، وإنما(أيضا) في مجالات أخرى ثقافية وفكرية وسلوكية . فقد أعجب الطهطاوي بالإهتمام بالتعليمِ العصري في أوروبا وبإحترام الرجال للنساء وبتخطيطِ ونظافةِ المدن وبصدق الإنسان الأوروبي وإتقانه لعمله . وبينما دلتني تجربةُ الطائرة ( من روما للقاهرة) منذ أيام على عيبٍ جسيمٍ في ثقافة الشيخين الإزهريين الذين أخبراني بإنهما يقيمان في روما منذ خمس سنوات ومع ذلك لا يتكلم أيهما أية لغة غير العربية ، ولا يشعر أيهما بفيض مزايا الحضارة الغربية ، فقد كان الطهطاوي على تفيض ذلك يتقن الفرنسية إتقان كاملاً رغم أنه لم يكن يعرف حرفاً منها قبل سفره لها سنة 1826 (فى الحقيقة أنه بدأ يتعلم الأبجدية الفرنسية على ظهر السفينة التى أقلته من الإسكندرية لمارسليا). ولاشك عندي (كقارىءٍ كان ولايزال مولعاً بالطهطاوي) أَن أَكثر ما أعجب به الطهطاوي في فرنسا هو الديمقراطية وإحترام الإنسان وإحترام المرأة وتقديس التعليم والمعرفة . ذكرني الشيخان الإزهريان الرافضان لنظام السفر على المقاعدِ المخصصةِ لكل مسافرٍ بشيخٍ من أجل شيوخ الأزهر كان النورُ ( وليس الظلام ) هو ما سكن عقلَه وصدرَه ، فلم يمنعه مانعٌ من أن يرى ويرصد ويوقر مزايا أعظم الحضارات الإنسانية على سطح الكرة الأرضية منذ وجدت أول حضارة إما على ضفاف نهر النيل أو على ضفاف دجلة والفرات فيما يعرف الآن بالعراق او بلاد ما بين النهرين.



في أقصى الجنوب الإيطالي وفي مدينة تطل على البحر الأَدرياتيكي إسمها برينديزي ( والاسم يعني باللاتينية "قرون الغزال" ) وجدت نفسي وجهاً لوجهٍ أمام صورة زيتية لعالم إيطاليا الشهير غاليليوغاليلي ، فشعرت بغصة في قلبي إذ تمثل أمامي على الفور واقع إننا نعيش اليوم في مصرَ مناخاً ثقافياً رديئاً كالمناخِ الذي أحاط بهذا العالم الجليل الذى عاش ما بين 1564 و 1642 والذى يعرف عند الشعوب المتحضرة بأبي العلوم الحديثة . فالعالمُ الأشهر عاش تجربةَ محاولة الثقافة الدينية المظلمة أَن تتسيّد على المجتمع بل وان تتسيد أيضاً على الحقائقِ العلميِة وأن تخضعها لما كانت تظن أنها حقائقٌ دينيةٌ.



في فرنسا ، هام الطهطاوي حباً بالحرية ، وبالتقدم ، وبتقدير المرأة . وهناك تأصل اقتناعه بأن إختلاط النساء بالرجال وحريتهن ومظهرهن العصري ليسوا مما يؤدي بالضرورة إلى الفساد والإنحلال. وأعجب الشيخ المستنير برقص رجل مع إمرأة . ووصف هذا الرقص بأنه فنٌ من الفنون وأنه لا يتضمن ( بالضرورة ) أي عهرٍ ( هذه كلمات الطهطاوي ذاتها ) . ومن أروع ما جاء ( بقلم الطهطاوي ) في "تخليص الإبريز" قوله عن الأوروبيين بأن عقولَهم ( وليس نصاً دينياً ) "هي التي حكمت بأن العدل والإنصافَ من أسبابِ تعميرِ الممالك وراحة العباد" . ولا شك ان الطهطاوي كان ثمرةَ مشروعِ التحديث العبقري الذي قاده محمدُ عليِّ . أما الشيخان الازهريان اللذان قابلتهما منذ أيام على متن طائرة إيطالية فلا شَكَ انهما من ثمارِ حقبةِ العطبِ العقلي والضحالة المعرفية والعطاة الفكرية و الردة الثقافية لذهنية كثبان الرمال وما قبل العصور الوسطى حالكة الظلام ، وهى ذهنية تتسم بالعديد من المثالب لعل أهمها (وأخطرها) : أن فكر أفرادها لا يعكس إيمانا حقيقيا بالتعددية ولا يقوم على قبول الآخر ولا تتسم آراء ووجهات نظر أفراده ب "النسبية" (فهم ملاك الحقيقة المطلقة) ، وهى ذهنية تتصف بموقف رجعي من المرأة ولا نصيب يذكر لها من السماحة الدينية والثقافية ، كما أنها ذهنية طاعة وإتباع وليست ذهنية نقد وإبداع ... وهي ذهنية لا تحتفي (بل تقهر) "العقل النقدي" ولا تؤمن فى أعماقها ب "الإنسانية" ، فالناس عندهم إما "نحن" (دار الإسلام) وإما "هم" (دار الحرب) ... وهى قسمة لا تدع مجالا لمفهوم الإنسانية ، ودع جانبا الآن مفهوم السلام العالمي (لصاحبه الفيلسوف الأعظم إيمانويل كانط) ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق.. رقصة تحيل أربعة عسكريين إلى التحقيق • فرانس 24


.. -افعل ما يحلو لك أيام الجمعة-.. لماذا حولت هذه الشركة أسبوع




.. طفلة صمّاء تتمكن من السمع بعد علاج جيني يجرّب لأول مرة


.. القسام: استهداف ناقلة جند ومبنى تحصن فيه جنود عند مسجد الدعو




.. حزب الله: مقاتلونا استهدفوا آليات إسرائيلية لدى وصولها لموقع