الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصير التاريخي للغلو السلفي السياسي في العالم العربي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 4 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


إذا كانت الطبيعة لا تحب الفراغ، فان الفراغ الذي صنعته تقاليد السلفية المتشددة على امتداد قرون عديدة يشير إلى طبيعة الخلل الهائل في بنية الفكرة الإسلامية السلفية وتقاليدها ككل. وهي تقاليد برزت بكامل قوتها التخريبية في العقود الأخيرة، بعد أن تمازجت مختلف تياراتها الراديكالية في سبيكة يصعب تحديدها بشكل دقيق، إلا أنها تتميز بصعود متنام لنفسية الإرهاب والعداء الشامل لكل ما لا يستجيب لتصوراتها وأحكامها، أي لعقائدها الخاصة.
فالعناصر الجزئية للعقلانية والليبرالية التي تراكمت في مجرى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في الحركات الإسلامية قد أخذت بالاندثار شبه الشامل والتام مع صعود الأصوليات السياسية المتشددة. ولعل من أهم مفارقات هذه «الأصولية» هو فقدانها للأصول بالمعنى الفلسفي والفقهي والسياسي. الأمر الذي جعل من تصوراتها في الأغلب نسيجا خشنا من العقائد والأحكام الفقهية المرتبطة بعقائد الإيمان الرتيب وقواعد السلوك الميتة.
لقد كانت هذه الأصوليات المتشددة ردا مباشرا على هزيمة الأصوليات الدنيوية (التوتاليتارية) واستكمالا لها. وفي هذا الواقع نستطيع العثور على استعادة حية للفكرة التي بلورها ابن خلدون قبل ألف عام عن خصوصية الانتقال من البداوة إلى التمدن. إلا أن هذه الخصوصية تكشف لنا في الوقت نفسه عن بعد آخر لم يتطرق إليه، ألا وهو طبيعة الارتباط العضوي بين البداوة والتشدد السلفي الذي عادة ما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفسية الاستبداد وفكرته السياسية في «الدولة». وهي حقيقة يمكن تأملها على أمثلة التاريخ الإسلامي ككل. فقد كانت جميع مراحل انحطاطه الثقافي مرتبطة بصعود التيار السلفي بشكل عام والحنبلي بشكل خاص. وليس اعتباطا ألا ينتج هذا التيار السلفي أية منظومات فكرية فلسفية. كما انه ليس اعتباطا أن يناهض الفلسفة العقلانية والتصوف ومختلف المدارس الإنسانية الإسلامية الكبرى من خوارج ومعتزلة وغيرهم. بمعنى سلوكه التاريخي المتأصل في العداء لإبداع العقل الرفيع والروح المتسامي والوجدان الخالص. وليس اعتباطا ألا تتعدى التصورات والأحكام العقائدية المميزة للأصوليات السلفية المتشددة القديمة والمعاصرة أكثر من اجترار جزئي لمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث الموضوعة (الكاذبة). إضافة إلى أن اغلبها لا علاقة له بالحياة ومتطلباتها. إذ لا يتعدى أقصى اهتمامها متطلبات الجسد والماورائيات الغارقة بزبد التمنيات والعجائب. وهي صفات يمكن فهمها على أنها النتاج الملازم لنفسية البداوة والاستبداد.
ويشكل تاريخ السلطة في العالم العربي الحديث نموذجا ناصعا لهذه النفسية كما نراه في تمثلها وتمثيلها لاندماج زمن البداوة وبنيتها التقليدية بالسلطة. وليس اعتباطا أن تعارض هذه النفسية وترفض رفضا قاطعا فكرة ومبدأ الانتخاب والاختيار تحت حجج وذرائع شتى. أما في الواقع فإنها الصيغة الماكرة لنفسية البداوة والاستبداد، التي تعتقد بأن الشيخ يولد ليسود.
وفي ظل هذا الزمن الخاص لنفسية البداوة والاستبداد، أصبحت السلفية المتشددة في العالم العربي المعاصر أحد المصادر الكبرى للاستبداد وتبرير الإرهاب. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحكم بزواله السريع مقارنة بأمثاله لأنه يجمع بين قوى متناقضة لا يوحدها سوى العداء العلني والمستتر لفكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، أي ضد التيار الكاسح للتقدم والحرية. والقضية هنا ليست فقط في أن الالتفاف برداء «المقدس» لا يقدس المرء، مع ما فيه من ضرورة الارتقاء إلى مصاف البدائل الأجمل، بل ولأنه لا توجد في كل حيثيات الأصوليات المتشددة للغلاة الجدد ما يوحي باقترابها من ابسط مقومات ومبادئ الاعتدال المميزة لتقاليد الإسلام العقلانية وتاريخ الحركات السياسية المعتدلة والإنسانية القديمة والحديثة.
إننا نعثر في هذه الحالة على ما يمكن دعوته بانتهاء "المرحلة الدينية" المتشددة في الوعي السياسي، بما في ذلك في الحركات الإسلامية السياسية. لكنه انتهاء يحتوي على احتمالين متكافئين من حيث النتيجة، بمعنى إنهما يصبان في نفس المجرى العام المشار إليه أعلاه، أي في مجرى انتهاء المرحلة الدينية المتشددة في الوعي السياسي. وهي حالة تتسم بقدر كثير من التوتر الداخلي. وذلك لأنها تشكل مضمون عملية تاريخية أكثر مما هي عملية فكرية. فالحديث هنا لا يجري عن انقلاب أو تحول تاريخي أو فكري في التشدد الديني، وذلك لأنه كان على الدوام جزء جوهريا من تقاليد الوعي الديني بشكل عام المذهبي بشكل خاص، بل عن انتهاء مرحلة التشدد الديني في الوعي السياسي.
لقد كان هذا المخاض الصعب نتاج الحالة البنيوية الخربة للنظام الاجتماعي والسياسي العربي في مجرى النصف الثاني للقرن العشرين، وبالأخص منذ ستينيات القرن العشرين. بحيث أصبح الصعود الراديكالي للتشدد الإسلامي الوجه الآخر لهبوط الراديكالية الدنيوية (العلمانية) وتدميرها لمشروع النهضة والحداثة. الأمر الذي جعل ويجعل من اندثارهما في ظل العولمة المعاصرة وصراع الوجود الثقافي والقومي للأمم أمرا حتميا.
وإذا كان موت الراديكالية الدنيوية واقعا جليا بعد مرور نصف قرن من الزمن الضائع، فان الراديكالية الدينية المتشددة (الأصوليات) ولدت ميتة منذ البدء. وذلك لأنها ليست قادرة على مواجهة العولمة بمعاييرها، كما أنها عاجزة عن تمثل المصالح القومية بمعايير الحداثة الفعلية. كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بان التشدد العنيف المتماهي مع همجية "القنابل البشرية" و"الأحزمة الناسفة" وتدمير "الكفار" و"المارقين" من أبناء القوم سوى الصيغة الفعلية لتدمير النفس أولا وقبل كل شيء، أي الصيغة الواقعية والرمزية للانتحار الذاتي. وشأن كل انتحار قد لا يخلو من فروسية، لكنه لا قيمة لامتطاء حصان منهك للسباق في عالم يشعر بالضيق والتبرم من تباطؤ ثوان لحركة المعلومات أمام شاشة الحاسوب (الكومبيوتر) والشبكة العنكبوتية (الانترنيت).
إضافة لذلك، أن التجربة التاريخية للأمم الحديثة تبرهن على استحالة توسيع المدى العقلاني للمسار الفعلي في ارتقاء الأمم دون مخاض التجارب الخشنة والمريرة. فهو الأسلوب الوحيد لإرساء أسس العقلانية والرؤية الواقعية والنزعة الإنسانية، أي المكونات الضرورية لبناء منظومة الدولة والأمة الحديثة.
فالتاريخ لا يعرف معجزة إحياء الموتى. أنها مقبولة ضمن سياق ومذاق الأوهام والأساطير الدينية والدنيوية، أي ضمن سياق ومذاق الأوهام فقط. بينما التاريخ الفعلي للأمم هو تاريخ المستقبل، أي تاريخ الأمم القادرة على حل إشكاليات وجودها المعاصر بمعايير المعاصرة، والمستقبل بمعايير الاحتمال العقلاني المستقبلي. ذلك يعني أنها حلول لا مكان فيها للأصوليات أيا كان شكلها ومحتواها. وذلك لأن الأصوليات منظومات مغلقة من حيث المبدأ والغاية. وبالتالي عاجزة عن إدراك قيمة ومعنى واثر فكرة الاحتمال والبدائل الحرة. أما "اجتهادها" فيبقى في أفضل الأحوال مجرد تأويل متحزب ومحكوم بأفكار جاهزة منذ البدء. الأمر الذي يجعل من الأصوليات كيانات ميتة منذ الولادة!

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن