الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل أبي.. قصة قصيرة

مريم الوادي

2012 / 5 / 4
الادب والفن


ظل أبي..
لا أتذكر ملامحه جيدا، فقد رأيته مرات معدودة..
كان يخرج باكرا للقنص.. فلا نرى منه، سوى ظله البعيد.. ونظل نرقب الظل، حتى يختفي عن أنظارنا..
كانت الدنيا فضاء، و"يافا" تمتد شاسعة أمام عيوننا..
كانت المنازل ما تزال تبتسم، وحقول القمح، تمتد على مد البصر..
و كان الزيتون، أخضر، أخضر..
- لقد وصلوا.. لقد وصلوا..
- هكذا تردد على ألسنة الصغار، والكبار..
لم يعد أبي يخرج للقنص بالنهار، فبتنا نراه أكثر.. رأيته لأول مرة، كيف يأكل، وسمعته كيف يتكلم..
كان يردد : "أولاد الكلب.."! كثيرا في حديثه..
وحين يلوح الظلام يحزن وجه أمي، فتقف لتودعه..
و نتساءل نحن: -
هل تخرج الأرانب ليلا؟؟ وهل تطير الحمامات؟؟
فتقول أمي: إنه ذاهب لقنص طيور الخوذة..
نتكوّم تحت البطانيات، نتخيل طيور الخوذات، وهي تحلق، يتربص بها أبي، ويسقطها، تباعا..
تتمرغ طيور الخوذات، يرقص أبي.. وتقهقه البندقية..
- هذه الطيور تقنص للمتعة فقط، صيدها حلال، وأكلها حرام.. يقول أبي.
لذا، كان لا يحملها لنا..و يتركها تغرق، في دمها الأسود..
وفي الغد تفوح رائحتها..
وتطوف طيور أخرى، تبحث عن الفاعل، تكسر أبواب المنازل، وزجاج النوافذ..
تفتش العلّية، ومخازن المؤونة، تحت السرير، وبين رفوف الملابس..
تغضب الطيور، ويزداد قبح وجوهها، يتطاير رذاذ نجس من أفواهها، تضرب بأجنحتها عرض الحائط.. وتهدد بالعودة لاحقا..
يخيم الصمت، نحبس أنفاسنا، وترتفع دقات قلوبنا..
أبي لم يرقص، وقهقهات البندقية، لم نسمعها..
غاب أبي في ليلة باردة.. وتلاشى الظل البعيد، الذي كنا نرقبه..
كنا أطفالا، لا نتقن لعبة الحزن، والبكاء، على الموتى..
لكن أتقنا باكرا، لعبة مطاردة، طيور الخوذة..
تلبس هدى المقلاة الحديدية، في رأسها، وتصعد العلية..
يلبس أحمد "الحَلة" النحاسية، في رأسه، ويتسلق العريشة ..
و أحمل أنا البندقية ، وأتربص بهما..
- اِنزل من برتقالتي، أيها الكلب.
-- إنها برتقالتي.. والتاريخ يشهد.
- وكيف يشهد لك التاريخ، أيها الخنزير؟؟
- جدي الكبير مدفون تحتها..
- حتى برتقالتي.. تحتها جدكم..
- نعم.. نعم، لنا جد تحت كل بيت، من بيوتكم، وتحت كل شجرة من أشجاركم..
طاق.. طاق.. يعلو صوت الرصاص.. وأُسقِطُ طائر الخوذة..
أرقص كما كان يفعل أبي، وتقهقه البندقية..
-تطل هدى، من نافذة العلية، وترفع رشاشها في وجهي:
- ارم بندقيتك..وسلم نفسك، أيها الهمجي.
هي فوق، وأنا تحت..
طائر الخوذة المؤنث، سينسفني..لا بد لي من حيلة..
لقد عادوا..
-البندقية.. البندقية.. خبؤوا البندقية..
فتشوا العلية، ومخزن المؤونة، تحت السرير، وبين رفوف الملابس..
-أين هي؟؟
- ما هي؟
- البندقية؟
- اختفت حين قتلتم أبي، لم تعد موجودة..
يعلو صراخهم.. تحمر عيونهم، تزداد وجوههم قبحا.. يتكلمون لغة أقبح..
و يهددون بالرجوع..
يعمّ الصمت، نحبس أنفاسنا، وترتفع دقات قلوبنا..
-لقد خرجوا..
نبحث عن البندقية.. فلا نجدها..
في كل مكان نبحث، لا أثر لها..
بكينا على ضياع البندقية، كما لم نبك على موت أبي..
كيف نطارد طائر الخوذة بلا بندقية؟؟
و فجأة نسمع قهقهاتها، لقد عادت، كانت تختبئ في مكان لا نعرفه..
نعاود اللعبة، مرات ومرات.. يغالبنا النعاس.. ننام بين الدم، والرصاص، و الجثت.
و نستفيق على طَرَقاتهم، وهي تكسر باب المنزل..
الباب الذي سقط أكثر من مرة..
-في بيتكم بندقية.. رأيناها تخرج من هنا.. وتسرح في المدينة..
لقد اغتالت طيورا كثيرة..
ننظر إلى بعضنا بعضاً.. يغمرنا الخوف..
-كيف تقنص البندقية من دون قناص؟؟
فتشوا في كل مكان..
أخرجونا من المنزل.. وأضرموا النار ..
احترقت البرتقالة..
والعلّية..
ومخزن المؤونة..
احترقت ألعابنا، وتفحمت كراريسنا المدرسية..
المنازل جريحة.. وعيون يافا تدمع..
حقول القمح دكتها الدبابات..
وشجر الزيتون، ذبحته الخناجر..
وحين انتصف الليل، سمعنا قهقهاتها..
رأيناها تخرج.. تنفض الرماد عن وجهها..
يحملها رجل كالظل..
رجل يشبه من بعيد ظل أبي..
مريم الوادي5/5/2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب