الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين الليبرالية الجديدة والدولة الأمنية

قاسيون

2005 / 1 / 27
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


ينطلق الفكر الليبرالي الجديد في مراكز أبحاثه من حقيقة علمية يكاد لا يختلف عليها أحد، وهي كون العلم في حقيقته ما هو إلا إدراك القوانين التي تحكم حركة المادة بأشكالها المتعددة بهدف التحكم بهذه القوانين للسيطرة على حركة موضوعها.

فلما كان موضوع مراكز الأبحاث تلك هو الحركة الاجتماعية؛ نتج من هذا إدراك أن ما يحدد الحركة الاجتماعية للبشر هو محصلة رؤاهم وتصوراتهم ومفاهيمهم عن العالم، الأمر الذي أدى بداهة إلى أن يستنتج منظرو مراكز الأبحاث تلك أن مهمتهم الأساسية تكمن في معرفة كيفية السيطرة على الوعي الجمعي للبشر موضوع البحث بما يكفل توجيههم الوجهة التي يرتضيها الأسياد ممول مراكز الأبحاث.
وقد لزم لهذه المهمة خلق وتصنيع ترسانة كاملة من المصطلحات والمفاهيم القادرة على اختراق الوعي الجمعي، وتسويقها في المجتمعات المعنية بشكل يكفل غدوها بداهات يبني عليها تفكيره من يريد التفكير. مع ملاحظة أنها غالباً ما تكون منحرفة عن سياقاتها الأصلية.
ولا يعدم المرء في تعاطيه مع أي وسيلة إعلام أن يلاحظ دون أدنى عناء تكرار مصطلحات من مثل: الليبرالية الجديدة، اقتصاد السوق، حقوق الإنسان، الخصخصة، الشرعية الدولية، نشر الديمقراطية، المجتمع الدولي . . . . .
وسنكتفي في هذا المقام بتناول تلك الضبابية التي لفت مؤخراً مفهوم الدولة.
يقترح، أو يملي – إن شئنا الدقة - منظرو الليبرالية الجديدة مفهوماً جديداً للدولة يقوم على النظر إلى المجتمع على أنه شركة مساهمة مؤلفة من مدراء من جهة وملاك أسهم في هذا الشركة من جهة أخرى، حيث يمارس فقط ملاك الأسهم دور الرقابة والتوجيه على نشاط هؤلاء المدراء ضمن عقد عمل يحفظ حق ملاّك الشركة في صرف المدراء من أعمالهم متى يشاءون، واقترحوا لهذه الآلية مصطلحاً جديداً هو الكوفيرنانس « governance ».
وعليه، فإن دور الدولة «المدراء» يجب أن يتقلص إلى الحد الذي تقتصر فيه مهمتها على تسيير أمور الملاك ولكن تحت إشرافهم وتوجيههم. وللقيام بتأسيس نظري لهذا الدور تحيلنا الليبرالية الجديدة إلى نظرية العقد الاجتماعي المنتجة قبل قرون باعتبارها أعلى ما توصل إليه العقل البشري في مفهوم الدولة!!!. ولا تكتفي بالإحالة فقط بل تبدع فتزيد عليها عندما تسقطها على الواقع الحالي، فبدلاً من أن يُكَوَّن طرفا التعاقد من الحاكم والشعب عند جان جاك روسو يصبح طرفا التعاقد عندها المدراء (الدولة) والملاك، لتختزل الشعب بطبقة الملاك.
ولكي لا يتنطع أحد فيظن السوء، يجب على الدولة أو الشعب أن يتخلى عما تبقى من أملاكه ببيعها للملاك الجدد ضمن إملاءات محافل الرأسمال الإجرامي عبر خصخصة ما تبقى من هذه الأملاك.
ومن الواضح »لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد* « أن هذه الوصفة النيوليبرالية لشكل الدولة هي وصفة حصرية لدول العالم الثالث تهدف أولاً وأخيراً إلى تفكيك بنى الدول بما يوصلها إلى أدنى مستوى ممكن من إمكانيات المقاومة المفترضة للاجتياح المحتمل.
ففي الوقت الذي تروج فيه الليبرالية الجديدة لنظرية دول الكوفيرنانس في العالم الثالث وضرورة إلغاء دور الدولة في الاقتصادات المحلية تطالعنا تقارير البنك الدولي بدراسات تؤكد الازدياد المضطرد لدور الدولة الاقتصادي في الدول الرأسمالية المتطورة: ففي السويد ارتفع حجم مساهمة الدولة في الاقتصاد من 5% إلى 44% عام 1997، وفي فرنسا من 39% عام 1980 إلى 47% عام 1997، بل والأنكى من ذلك نجد في انكلترا البلد الذي يعتبر الأب الروحي لليبرالية الجديدة قد ارتفعت فيها نسبة مساهمة الدولة من 31% عام 1970 إلى 39% عام 1997 وهي الفترة التي شهدت النهوض العارم للفكر النيوليبرالي في انكلترا وتصديره إلى الدول الرأسمالية الأخرى.
ويعتمد منظرو الليبرالية الجديدة في ترويج دولة الكوفيرنانس على معادلة وهمية تضع فيها دولة الكوفيرنانس على التضاد من الدولة الأمنية مستفيدين من حالة الاستياء الشعبي من الأخيرة، فتبدو دولة الكوفيرنانس وكأنها الخلاص المؤمَل من الدول الأمنية المحلية الوصية على كل شيء في الحياة الاجتماعية والسياسية والوطنية.
هكذا نجد أنفسنا أمام خارطة سياسية جديدة للعالم، تتضح معالمها بدول قوية متماسكة في العالم الغربي أمام دول ضعيفة لا تملك أدنى مقومات السيادة الوطنية هي دول الإصلاح الكوفيرنانسي في العالم الثالث؛ ليتحقق حينها حلم الرأسمال الإجرامي العالمي بقيام الحكومة العالمية شديدة البأس، والتي لن تشكل فيها دول الكوفيرنانس أكثر من حكومات »تسيير أعمال« أو »إدارة محلية« تأتمر بأمر صاحب الجلالة: الرأسمال الإجرامي العالمي.
ولعل من أولى مهام حكومة رأس المال الإجرامي العالمي إعداد المسامير التي تثبت الخارطة السياسية الجديدة للعالم والتي تتجلى في المفاهيم الجديدة المنتجة من مثل: المجتمع الدولي، الامتثال لإرادة المجتمع الدولي، الحرب الاستباقية، الحرب على الإرهاب، الحرب من أجل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان !!!.
إذن، ما الأمر في حقيقته سوى استبدال الحكومات الأمنية المحلية والتي استنفدت دورها بحكومة أمنية عالمية، أشد رعونة وبطشاً من كل أشكال الدولة في التاريخ الحديث، وإذا ما تجاوزنا –إجرائياً- ما يشهده العالم من حالة تسلط على رقاب الشعوب؛ يجد المتتبع للوضع حتى في الولايات المتحدة التراجع المضطرد للحريات السياسية والمدنية والشخصية إلى الحد الذي يطالب فيه منظرو النيوليبرالية الكبار من أمثال بريجنسكي بتحضير أجهزة القمع الداخلية الأمريكية للانتقال بشكل سريع إلى نظام حكم فاشي حال انكفاء المشروع النيوليبرالي.
وعليه، فإن مقاربة سريعة لما يمثله المشروع النيوليبرالي على سورية والمنطقة ترينا بوضوح ناصع أي ضرر يمكن أن يلحق بالمصالح الوطنية العليا فيما لو تحقق لهذا المشروع ما يريد، عندها لن تبقى قضية فلسطين فحسب من ذكريات الأيام الغابرة، بل ستصبح كل مشاريع النهضة والتحرر بل ومعنى الوجود الإنساني لشعبنا من الأطلال الدارسة.
بكل حزم نجزم أن الخيارات الحقيقية الموضوعة أمام شعبنا هي أوسع بكثير من المعادلة التضليلية لليبرالية الجديدة: إما الحكومة الأمنية المحلية وإما الحكومة الأمنية العالمية . . إن خيارات الشعوب لا يمكن أن تكون إلا في النهضة والتحرر. . . في كرامة الوطن والمواطن. . .
* سورة ق، الآية 37 .
■ ماهر حجار – حلب
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كير ستارمر -الرجل الممل- الذي سيقود بريطانيا


.. تحليق صيادي الأعاصير داخل عين إعصار بيريل الخطير




.. ما أهمية الانتخابات الرئاسية في إيران لخلافة رئيسي؟


.. قصف إسرائيلي يستهدف مواقع لحزب الله جنوبي لبنان | #رادار




.. سلاح -التبرعات- يهدد مسيرة بايدن في السباق الرئاسي! #منصات