الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمكنة ناطقة : وَلْحُرّي

محمد بقوح

2012 / 5 / 7
سيرة ذاتية


كان ( وَلْحُرّي ).. بمثابة مكان يتكلم.. ليس كباقي أمكنة الدنيا. كل شيء فيه، كانت له رائحة.. نكاد نفتقدها اليوم. هذا أمر طبيعي ناتج عن تطور الحياة، بشكل أظهرت عيوب الذين، كانوا يفكرون نيابة عن المواطنين. نقصد طرح السؤال الجوهري: هل كان هؤلاء يفكرون في أمر مصلحة الوطن و المواطن، كما كان مفترضا، أم تراهم كانوا منقادين، و يفكرون فقط في مصالحهم الضيقة؟ هذا سؤال نطرحه اليوم للتذكير فقط، من أجل تدارك الأخطاء، لأن الذين مروا من ( وَلْحُرّي ) ذات يوم.. كمسيرين للشأن العام، و مسؤولين على تهيئة مجاله البيئي.. و العمراني.. و الجمالي.. رحلوا إلى الزمن الأبدي.
و إذا استخدمنا تقنية التدقيق و التصغير، وجدنا منطقة ( وَلْحُرّي )، في إحدى زوايا مدينة الدشيرة العريقة، في الجنوب السوسي المغربي، التي صارت اليوم أصيلة جهادية، بقدرة قادر، بالقرب من السور الأسمنتي القصير، الذي يفصل منطقة السكان عن المطار.. المطار المدني الوحيد، في جهة أكادير الكبرى أنذاك.. في ذلك التاريخ القديم، و الذي بات اليوم مطارا عسكريا مهملا. رغم أنه كان يزعجنا بصوت طائراته الضخمة، أثناء الهبوط و الصعود، إلا أننا كأطفال، كنا نحب هذا المطار الجميل. لأننا، كنا نعتبره امتدادا طبيعيا لهويتنا الطفولية. بحيث نتخذه كجزء أساسي من ألعابنا اليومية و الموسمية.. خاصة في فصل الشتاء، الذي كان أحسن الفصول السنوية بالنسبة إلينا، عندما تصبح حفرة المطار الكبيرة و الواسعة جدا ( الكاريان ) ملآى بمياه الأمطار الغزيرة حتى الثمالة. فتتحول الحفرة الغارقة بالماء من ملكية المطار إلى ملكيتنا نحن. هي حفرة عميقة - كنت دوما أسأل لماذا حفروها..؟ فلا أعثر على الإجابة. المهم أننا، كالأكاديريين، في أقصى الساحل، نملك بحرا مصغرا، ( نتبرد ) فيه، حتى و إن كان الموسم باردا. أصبح لنا مسبح في جهتنا الوحيدة، و القريب من بيوتنا - أقل من خمسمائة متر مشيا - لممارسة السباحة، بمختلف أنواعها و أشكالها. بل كنا ننتظر بشوق ملتهب كبير، حلول موسم الأمطار، الذي يعني لنا الشيء الكثير.. التحرر من روتين كرة القدم.. و الجامع.. و المدرسة.. و لعب لبيْ.. و الباراشيت.. و الحابا.. و صيادة الطيور في تغْزوت.. و صامبو.. و طقوس العيد..إلخ، و كثيرا من الألعاب الأخرى، التي نمارسها يوميا.. فكان سقوط المطر.. يعني لنا الحياة الأخرى، و اللعب داخل المياه، حتى و إن كانت عكرة.. إنها متعة لا تضاهيها أية متعة أخرى. تلك التي ربما نحقق، من خلالها، فعل الالتحام البهي و الأزلي، الأكثر قدسية في تاريخ الشعوب، بين الأرض و السماء..

لكن، بعد الإنتهاء من اللعب و السباحة حتى درجة الإشباع و التعب.. بدل أن نغادر المكان - المسبح الطبيعي الضخم - نتجه جماعة صوب الفضاء المعاكس، خلف المسبح المطري، فيشدنا شعور الاكتشاف الطفولي، إلى الاتجاه المضاد، ناحية السور الأسمنتي القصير، الذي قفزنا عليه، و أوصلنا إلى المسبح الكاريان الطبيعي. فكنا نتطلع مشرئبين و غير مبالين، بما يمكن أن يقع، و نحن نتقدم خطوة خطوة إلى الأمام..، إلى الطريق المزفّتة الأنيقة.. شريط سير الطائرة الذي تصورناه كما لو كان مرآة.. ناصعة السواد. أول ما نقوم به، و نحن في وسط الطريق المزفّت، ننام على ظهورنا الهزيلة، و عيوننا مفتوحة إلى السماء، على شكل نجمة كبيرة. و هي النجمة التي تتوسط علمنا المغربي في تصورنا. كان أحد رفاقي أنذاك يقول لي، لن تجد هذه الطرق الأنيقة، إلا في قصور الأغنياء و الأمراء.. أما مدينتنا المحفرة.. و المغبرة، فلو جلت و صلت، عن آخر دروبها الضيقة و طرقها المفتوحة على نبات الصبار، لن تجد فيها زفتا و لا طرقا معبدة تذكر. لم تكن في كل أرجاء قريتنا الصغيرة، و منطقتنا ( وَلْحُرّي ) كانت جزءا منها، طريقا مزفّتة واحدة. بل لا نرى مادة الزفت السوداء، إلا حين نخرج من ناحيتنا ( وَلْحُرّي )، قاصدين أسركال.. على الطريق الرئيسية. هذه الطريق الوحيدة المعبدة بالمادة السوداء، لحسن حظها، كانت من أهم مخلفات المستعمر الفرنسي للجنوب المغربي. و قبل الوصول إلى أسركال، لابد أن تمر من مجموعة من الدواوير الأمازيغية، المعروفة كإكي فرضن.. أو إمزيلن.. إذا اخترت أن تمر عبر جهة إكي واكي.. أو إكرأماعي..، و هذه الأسماء جميعها لأمكنة، تفوح منها اليوم، روائحها القديمة، كبرنا نحن أطفال المنطقة، في أحضانها البعيدة.. في زوايا الذاكرة الصافية.

كانت مباريات كرة القدم، الكرة هنا تعني كرة من النوع البلاستيكي، المصقول بالمربعات الصغيرة، و كنا نشتريها بدرهم مغربي واحد. هذا الدرهم لا نجمعه من المارين، إلا بمشقة الأنفس.. ريال تلو الريال - ليس ريال مدريد - كما يقال. في الغالب نجرى هذه المباريات المهمة بالنسبة إلينا، في أوقات العطل المدرسية، سواء القصيرة أو الطويلة، بحيث كانت هذه اللقاءات الكروية، من أهم و أفضل الطرق الاجتماعية، التي نجتمع و نتواصل، و ندعم من خلالها، نحن الصغار، تواجدنا الحر، و حضورنا البشري، كأبناء منطقة الدشيرة ككل، مدافعين و متنافسين و مريدين للقوة.. القوة التي لا تقهر. من سيحقق الفوز و الانتصار. لأن ذلك النصر ، في نهاية المطاف، هو بلا شك انتصار لدوارك و حيك، و ل( قبيلتك ) التي تنتمي إليها. لكن كثيرا ما تنتهي تلك المباريات، بسبب روح المنافسة المرتفعة، و الغيرة القوة لدينا، بأحداث الشغب، إن لم أقل بما يشبه معارك الأفلام السينمائية.. فكنت دوما أصل إلى بيتنا، مع رفاقي الآخرين طبعا، سواء قادمين من ملعبنا.. أو من ملعب الفريق المنافس.. فريق إكري أماعي مثلا ، بجروح خفيفة، أو بانتفاخ بحجم معين، في الوجه أو الرأس، نتيجة الضرب و اللكم .. نتيجة الخصام العنيف بين الفريقين. و بعد أسبوع يكون مصيرهم نفس المصير الذي وجدناه عندهم في ديارهم. غير أن هذا الوضع المتوتر المرافق للعبة كرة القدم.. الجميل فيه لا يؤثر على علاقتنا الاجتماعية و المدرسية. لأننا ندرس جميعا في مدرسة واحدة هي مدرسة السعديين الموجودة على الطريق الرئيسي قرب المقاطعة.
كنا نلتقي تقريبا كل جمعة.. عند صلاة الجمعة. و أيضا في صلوات العيدين: الفطر و الأضحى. بل تزيدنا معارك تلك المباريات الكروية احتراما و شهرة و معرفة حقيقية و شهامة، من طرف أبناء المنطقة الكبرى ككل.. نعني الدشيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام