الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرأس

بديع الآلوسي

2012 / 5 / 8
الادب والفن


كانا يتحدثان عنها بانفعال لا ينم عن قدر كاف ِ من الحنان أو المحبة ، أمها قالت لم أعد أحتمل جنونها ، إلا أن الأب لم يتفق مع الجدة التي أضافت في نهاية المطاف : حدسي يؤكد أنها ملاك .
في خريف عامها الثامن طردت ( ماغيان ) من بيتها ، لحظتئذ أصابها الفزع ،استجمعت قواها كي لا تصرخ ، احمر وجهها غيظا ً ، وأخذت اقصر الطرق نحو بيت جدتها ، هكذا انفصلت عن حياتها المشوبة بالقلق والاكتآب ، وهي تردد : مستحيل ، انهم ....
بعد ذلك بثلاثة وثلاثين عاما ً كانت أينما تتجول تتفحص التربة ، هذا الولع توارثته عن جدتها منذ الطفولة ، حينما كانت متعلقة بمضغ طين النهر الأحمر . اليوم توقفت مطولا ً أمام كتل الطين التي تشبه الحجارة ، متيقنة ان الجمال لا يكشف عن نفسه بسهوله .
قالت قبل ان يغلبها النعاس : آه يا إلهي ، الرأس يطاردني يجب اللحاق به . ؟ .
التمثال الجديد يحاصر وعيها ومزاجها ، أرادت له كمالا ً يشفي غليلها .
عند تلك التلة يقبع بيت جدتها ،هنالك قد زفت ، كان فألا ً سيئا ً ، حيث لم يدم الزواج إلا ثلاثة أشهر ، طبيعتها العنود مع نفسها ومع الآخرين وهوسها بالطين جعل زوجها ان يهجر البيت ولم يعد .
ما أن تتذكر شظف العيش التي هي به الآن ، حتى تحس كان مخالب تنهشها ، لكنها لم تشعر بالندم أبدا ً، حيث تعتقد إن روح جدتها ستطرد عنها الحيف والشر .
في سنين مراهقتها كانت الجدة تقاسمها نداءات طموحها ، هي التي علمتها ان تنظر إلى الأشياء بحس ذهني يقظ يبتعد عن كل ما هو روتيني ورتيب ، وكانت تقول لها دائما ً : يا ملاكي إن لك جرسا ً داخليا ًيهبك القدرة على ترويض الطين .
حينها كانت ماغيان لم تفهم لماذا جدتها تصلي مع ولادة إي منحوته جديدة لها .
لكن الحال لم يدم طويلا ً ..انتهى الحنان بموت الجدة المفاجئ ،حينذاك كانت ماغيان في الثامنة عشرة من عمرها .
هذا المساء قررت أن تتنفس هواء النهر ، هنالك التقت بجمهرة من الشباب المتمردين ، ، استمتعت بأغانيهم ، ، كانوا يرقصون بلذة ،خفق قلبها ، انتابتها دعابة السخرية ،وكأنها تكتشف للمرة الأولى إنها لا تستطيع تغيير العالم مهما ابتكرت . وهي تنصت وتتجاذب اطراف الحديث مع عازف الكيتار ، الذي تتراقص على وجهه أشعة النار ، خيل لها إنها تعرفه منذ زمن بعيد جدا ً.
لم تستوعب أول الأمر أثر نغماته ، لكن كلماته ظلت ترن في ذهنها :يجب أن يكون للتمثال روحا ً .
انطلقت عائدة صوب غرفتها ، تحتدم في ذهنها البهجة ، والألم ، أصبحت مخيلتها تطير وتحوم حول الرأس .
كانت نظراتها مرتبكة ، طيلة مكوثها لم تبرح النظر بتوجس الى كتلة الطين التي بدأت تقاوم ، النشوة دفعتها إلى مزيد من الضحك ، لم تعد تعرف ماذا يجري لها ، اختلست النظر الى صورة جدتها قالت لها :
ـ يا ...يا ... ماذا افعل ، يجب أن أحرره من زنزانات الطين . يجب ان تكون له روح لا تشبه الأرواح الأخرى .
في تلك اللحظات انبعثت في روحها تيارات الحماس ، اشتاقت الى مضغ الطين عسى ان تنقطع دورات الهلع والشك والحيرة .
وقعت عيناها على كتاب جدتها المزكرش ، ما أن فتحته حتى سمعت صوتا ً يناديها بهمس عذب :
ـ أعرف ما تقصدين ، لكن ماهية المنحوتة يجب ان تعكس رؤيتنا عن العالم .
ـ لكنه حبيس واشعر إني غير قادرة على تحريره .
تناهى صوت جدتها مداعبا ً ـ انه نائم يا ملاكي ينتظر ان تيقظيه وتقبليه .
هذه الكلمات المشاكسة جعلتها تبتسم بعد ذلك التجهم المقرون بالندم ، وكأنها أبصرت انعكاس ما في مخيلتها على كتلة الطين .
أخذت قهوتها بانتعاش وأمعنت بذلك الخاطر اللذيذ وهي تردد وتضحك :
ـ إذن هو نائم وليس حبيسا ً ! ؟ .
قضت ثلاث ساعات وهي تتصفح ما في حوزتها من صور لمنحوتات فنانين كبار ، كادت تختنق من فرط ما تعاني من اندهاش .
حاصر قلبها الهم من جديد ، التفتت الى صورة جدتها ، بحيرة قالت لها :
ـ هل من قاعدة ؟ ، نعم ، أعرف ليس من أحد يمد لي العون .
ابتسمت الجدة كعادتها : ليس من قاعدة يا ماغيان ، أنت ِ القاعدة .
في اليوم التالي كانت أكثر شجاعة استجمعت شتات روحها وبدأت ، ، عادت بمغامرتها من نقطة الصفر ، وبينما هي في لجة دراسة التمثال مقطعا ً مقطعا ً اكتشفت أن هواجسها تتحد شيئا ً فشيئا ً .
كل ما مر الوقت تنتابها لذة طافحة بالخصب ، في خلوتها لم تعد تسمع سوى : ليست ثمة قاعدة أنا القاعدة .افترشت التخطيطات ، وجدت إنها كثيرة الشبه بملامحها وتفوح منها رائحة الذكريات مع جدتها .
وحين أوشكت يقتظها ورغبتها التي لا تقبل التأجيل على تحفزت ، تركت كل مشاغلها ، وانهالت تضرب كتلة الطين باحثة ً عن مبتغاها .
أجابت بلهجة متحيرة : نعم يا جدتي ، اعرف جيدا ًأن أي فقاعة في الطين تعني الكارثة .
في الأيام الأخيرة مع جدتها ، كانت تسألها :
ـ هل تحقيق الذات يقترن برضى الآخرين ؟
أجابتها : ربما ...ولكن ...

لا تذكر ماذا قالت بعد ذلك ، لكنها كانت تقرأ في عيني جدتها الوجل من ان تحطم حفيدتها كل التماثيل في لحظة إرباك او ندم او إحباط كما فعلت يوم طردت .
التمثال بدأ ينتصب ، أصابعها النحيلة تتعامل مع كتلة الطين بعشق نادر وشهي . ،
بعدها ماغيان استقبلت بعض التحويرات بحذر ، وهي تتفحصه بنظرة حانية ، زاد ارتباك أصابعها ، ولم تجد تفسيرا ً لذلك .
بلهجة لا تخلو من السخرية قالت له : أنت تمثال عنيد أكثر مني .
التمثال المنتصب على الطاولة الصغيرة كان يتيح لها ان تبتعد وتقترب وتدور حوله ، وحين تهاجمها الرغبة ألمباغته تتقدم كنمرة وتعيد تشكيل الطين بثقة .
في هدأت الليل اختارت التخطيط رقم ثلاثة كنموذج لتنفيذ الرأس ،علقته على الحائط وأحرقت بلا أسف كل التخطيطات السبعة عشر .
أجل ، أنها مسرورة بما أنجزت إلى حد الآن ،و تتطلع إلى ذلك الجسد الذي يتمطى وكأنه يريد ان يحلق إلى السماء .
بتحديها وإصرارها النادرين صارت تنعم بالصفاء تدريجيا ً ، كإن عشقها للطين بدأ يتجلى ، تعجبت كيف أن هتاف جدتها تحول الى حرارة باذخة .
اتجهت منهكة نحو التمثال وغطت الرأس ،كانت تبحث عن جمال الجسد اولا ً.
قالت لجدتها بحسرة :
ـ اعترف لك ،انه لا يمتلك الى حد الآن روحا ً .
ساورها إحساس انه جميل لكنها لم تقتنع وترى إنه لا يتلاءم مع الرأس ، راحت تعيد المحاولات ، تمنت ان تنقذ الجسد بأي ثمن كان .
اكتشفت أخيرا ً إن هيئته لا تبعث في نفسها تلك اللذة السرية التي ارتقى اليها الرأس .
طبعا ً بتجربتها الذاتية كانت تحلل قرب وبعد التمثال من المثال .
في نهاية المطاف شعرت بالخذلان ، وهي ترى مهاراتها لا تساوي شيئا ً أمام عظمة ما تريد .
كادت لا تصدق أن الأمل تبدد كوهج يتلاشى ، ثم واصلت صمتها منتبهة ً الى روعة الرأس الذي مع آخر اللمسات صار ينبض بالحياة ، وبدت هيئته قريبة من وجهها قبل ان تفارق جدتها .
لم تمكث طويلا ً ، نهضت مقررة ً معالجة أمر ذلك الجسد ، ساورتها رجفة ، تجاوزت حالة الرضي ، وبينما هي تبحث عن جواب ،انغمست تداعب الوجه بلمسات متتابعة .
همس الرأس في ذاكرتها ، إرتبك فرحا ً : أنت وفية للمثال يا .....
استدرجها الصمت وهي تحملق مطولا ً بالجسد الذي ابى ان يتحد بالرأس الذي صار أهلا ً للبقاء .
لكن في الساعات الأخيرة من الليل ، أدركت لوحدها إن الرأس بدأت عيناه تتنفسان وتتحديان العالم .
كاد ان يغلبها النوم ، لكن صوت جدتها أيقظها : عليك بالشناطة .
هذه ألمباغته اجبرنها ان تعيد حساباتها ، انتابها إحساس يشبه الخدش ، وهي تقرر ان تضحي بالجسد ، وتقدمت بلا تردد ووضعت الخيط في العنق كالشناطة وفصلت الرأس ووضعته على الطاولة الأخرى .
لم يحدث إلا نادرا ً أن تعالج الأمر بهذه القسوة التي لا تنم عن حب .
تعجبت وهي تسمع الجدة تودعها سرا ً جديدا ً :
ـ ستجدين التمثال الأمثل في الزمن القادم .
هذا الصوت أفرحها ، أشعرها أنها كسرت القاعدة أو ربما اتجهت الى منطق الاختزال رغم الفشل .ألقت بنفسها على السرير لتتمثل ذلك الشعور مأخوذة بذلك الارتياح غير المتوقع، قالت لها جدتها بحب حقيقة غفلتها: لا تهتمي يا ملاكي ، وَهم كبير هو الكمال .
صمتَت ، وكأنها لا تجد ما تقوله ، احتضنت الرأس وتنهدت بوجع لم تفهم لماذا كل الاحتمالات التي اقترحتها لم تفض الى بعث الروح بذلك الجسد ، وكأن سوء الطالع كان لها بالمرصاد ، أصلحت جلستها وحضنت الرأس خوفا ً من أن يتألم وقالت للجدة بثقة : :
ـ أجل ، هذا مولودي الذي حلمنا به معا ً
فجأة ً ، تقدمت بخطى مغرورة ، قربت الرأس من نظارات جدتها ، ، التي بدأت تبحث عن مفردات تفصح بها عن إعجابها ، لكنها لم تهتد ٍ وظلت فاغرة الفم مسحورة ً منذهلة .

حينها توقف الزمن للحظات وعاد الى غرائبيته .......
12 / 12 / 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا