الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرات في سيرة العلاّمة الكبير ناصر الدين الأسد:

هدى قزع

2012 / 5 / 12
الادب والفن


يكفي المرء من هذه الدنيا أن يلتقي بالعلامة الجليل ناصر الدين الأسد ، ليتعلم دروسًا كثيرة في الحياة ، ويرى التطبيق العملي للشخصية الإسلامية ماثلًا أمام ناظريه .
وقد أكرمني الرب إذ كنت إحدى تلميذاته ، ووجدت في شخصيته ما تعجز الكلمات عن تصويره ، فهو الإنسان المحب للعطاء والعمل ، والمكافح لأبعد حد ليصل لأقصى درجات الإتقان ، يحسن الانتقاء والتعبير في كل كلمة بل في كل حرف ، عقله موسوعي ، يحمل الفصحى وواجب الدفاع عنها أينما حلّ وارتحل ، سياسي محنك ، وإداري ملتزم ، ومفكر منفتح على كل جديد دون انبهار يفقده الإستقلالية ، جمع العلم والحلم فكان خير أنموذج يقتدى به .
ولد ناصر الدين الأسد في مدينة العقبة في أقصى البادية الجنوبية لشرقي الأردن في عام 1922م ، وتنقل في سنواته الأولى في شعابها ، وكان لهذه البيئة البدوية أثرًا واضحًا في رسم معالم شخصيته . وقبل مولده بثلاث سنوات ، كانت قد انتهت الحرب العالمية التي طالت بنيرانها الأمة العربية ، بما أشعل ثورة الشريف الحسين بن علي في الحجاز عام 1916م . وكان والد ناصر الدين الأسد "محمد بن أحمد بن جميل الأسد" حينها طالبًا في الأزهر الشريف ، فترك الدراسة والتحق بالشريف الحسين ملبيًا نداء الثورة ، وقد نشأت بينهما مودة دفعت الشريف الحسين أن يوجهه إلى العقبة ويعينه مديرًا للرسوم ثم " قائمقام " لها .وكان والد ناصر الدين خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر ابنه كثير السفر والتنقل بحكم عمله الرسمي ، وكانت والدته لبنانية ، من جبل لبنان ، تحسن القراءة والكتابة ، وتعرف شيئًا من اللغة الفرنسية ، فكانت في العقبة _أثناء سفر زوجها_ تنهض بأكثر الأعباء ، وما كاد والده يستقر مع أسرته حتى أخذ يشرف بنفسه على تنشئة ابنه وتربيته وتعليمه .
تلقى ناصر الدين تعليمه الابتدائي في أماكن مختلفة من شرقي الأردن ، أمضى مدة قصيرة منها في مدن الجنوب ، حيث درس في الشوبك ، ووادي موسى، والعقبة ، ومعان ، واستكملها بعد ذلك في عمان حين انتقل مع أسرته لها في عام 1933م ، وكانت صلته بالكتاب قد نشأت منذ الصغر ، إذ كان والده حريصًا أن يحضر إليه من رحلاته عددًا من الكتب ، خاصة كتب كامل الكيلاني .و كان ناصر الدين ملازمًا لوالده يحضر معه المناسبات الرسمية ، بل يشارك فيها . وفي الشهر الثاني من عام 1935م ، وحين كان ناصر الدين لم يزل بعد في المرحلة الابتدائية توفيت والدته ، وذكرى وفاتها ما زالت عالقة في ذهنه حتى اليوم ، فقد أمضى ناصر الدين تلك الليلة معها، ولم يتركها إلا حين ووريت التراب في ظهر اليوم التالي .
كانت المرحلة الثانوية المتوسطة مقدمة مهمة لحياة ناصر الدين الأسد ، بحكم اتصاله المباشر مع معلمين مبدعين في طليعتهم " كاظم الخالدي " ، و" سعيد الدرة" و" عبد المنعم الرفاعي " و " كنج شكري" ، فتربى ذوق ناصر الدين وهو بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمره ، على الحس الشعري ، فبدأ ينظم الشعر ، وكانت تجربته الأولى في كتابة قصيدة متكاملة في عام 1939م ،وهي بعنوان ( فكرة حائمة) قال فيها :
" خلقتك من روحي الهائمه وعُلتُك بالنظرة الحالمه
وكان خيالي المهادَ الوثيرَ وكنتِ به فكرةً حائمه
عطفتُ عليكِ فؤادَ الهوى وصنتُكِ في مهجتي الراحمه
فأنت وليدةُ هذا الخيال ِ وبنتُ صبابتي الدائمه
أغذّيك من موحيات الشعو ر حتى استقمتِ منىً باسمه
فلمّا خرجتِ إلى عالم ال حقيقة أعرضت يا ظالمه".
ولم يقتصر نشاط ناصر الدين الأسد في هذه المرحلة من عمره على كتابة الشعر ، بل ظهرت لديه بوادر الناثر الذي يحاول أن ينظّر لفن الشعر ومفهومه ، فقد نشر مقالة بعنوان " الشاعر " عام 1939م ، .وكان تفاعله مع الأحداث السياسية في تلك المرحلة كبيرًا .
وفي الشهر الثالث من عام 1939 ، فجع ناصر الدين بفقد والده ، وكان لم يزل في السادسة عشرة من عمره ، مما عزز في نفسه إرادة أملتها أمنية والده له بأن يكون متميزًا ، ولعل ما حققه من نجاح وتألق فيما بعد ، كان ترجمة عملية لوفاء الابن لأبيه . وما كاد ناصر الدين الأسد ينتقل إلى الثانوية الكاملة في السلط ( 1938_ 1939) حتى استدعته مديرية المعارف التي أبلغته بحصوله على منحة للدراسة في الكلية العربية في القدس ، إذ كان الأول على دورته في الثانوية المتوسطة . وكان قبل التحاقه فيها قد اضطرته قسوة الظروف إلى العمل كاتبًا في ديوان قاضي القضاة ، والمحكمة الشرعية.
ومع أن ناصر الدين كان قد التحق بالكلية شهرًا وبضعة أيام بعد بدء الدراسة فيها ، فقد استطاع أن يتفوق ، وظل محافظًا على تفوقه والمرتبة الأولى طوال السنوات الأربع في تلك الكلية .
كانت المرحلة الدراسية في الكلية العربية مهمة جدًا ، إذ يذكر ناصر الدين أن اتصاله بالتراث ترسخ فيها ، حيث درس عيون كتب الأدب العربي ، وتعلم أصول البحث العلمي ومناهجه على عدد من الأساتذة أبرزهم " إسحاق موسى الحسيني " . وبعد أن أتم ناصر الدين الأسد دراسته في الكلية العربية بالقدس ، ورجع إلى عمّان عام 1943م ، أخذ يعلم في مدارسها ، ولم يكن بمعزل عمّا كان يدور في الساحة الثقافية العربية من حركات تجديد ، ومنذ عام 1936م ، كان يواكب ما يدور على صفحات مجلتي الرسالة والثقافة المصريتين . ومن أجل إيجاد منبر له ولرفاقه ، قام بتأسيس منتدى أدبي في عمّان يضم عددًا من الشعراء والأدباء المتطلعين إلى بناء مشروع فكري ثقافي ، أطلق عليه اسم " الندوة الأدبية" ، وبقي رئيسًا لها حتى غادر عمّان إلى القاهرة ليستأنف دراسته الجامعية على نفقته الخاصة ، فالتحق بجامعة فؤاد الأول ( جامعة القاهرة حاليًا) ، عام 1944_1945م ، وقد أعفي من السنة الجامعية الأولى لكونه من خريجي الكلية العربية في القدس .
وفي عام 1947م حصل ناصر الدين الأسد على شهادة الليسانس الممتازة في الأدب العربي بدرجة الشرف ، ولأنه كان الأول فقد مُنح جائزة طه حسين . وكان في أثناء دراسته قد التقى فتاةً من أسرة مصرية كريمة ، فتزوجها ، وولدت له أبناءه الثلاثة وابنته.
ولدى عودته إلى بلاده عمل مدرسًا في المدرسة الإبراهيمية في القدس ، ولكنه ما كاد يستقر في القدس حتى أعلن قرار تقسيم فلسطين ، وقد عانى ناصر في تلك المرحلة من محنة الانقطاع عن العمل ، حتى سنحت له فرصة عمل في ليبيا ، حيث قام مع زميلين له بتأسيس أول مدرسة ثانوية متوسطة في مدينة طرابلس ، فأمضى هناك عامًا واحدًا ، وعاد بعده في عام ( 1949م) إلى القاهرة لاستكمال تحصيله العلمي وللتدريس في المدرسة الإنجليزية بمصر الجديدة.
وحصل ناصر الدين على درجة الماجستير في الأدب العربي في عام 1951م ، وكان عنوان رسالته " القيان والغناء في العصر الجاهلي " .
كانت السنوات التي عاشها ناصر الدين الأسد في القاهرة ، قد شهدت تغيرات حادة على صعيد الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية . وفي هذه الأجواء أعدّ عدته لاستكمال دراسته للحصول على شهادة الدكتوراة ، وتميزت سنوات الإعداد التي شملت النصف الأول من حقبة الخمسين ، بنشاط أدبي وصحفي خصب . وكان متغلغلًا في النشاط الثقافي بجوانبه المختلفة من كتابة وحضور للمجالس والندوات الأدبية ، وفي مقدمتها ندوة " لجنة الترجمة والتأليف والنشر" وفيها تعرف على أحمد أمين ، كما التقى أيضًا أساتذة أجلاء منهم محمد فريد أبو حديد ، ومحمد عوض محمد ، وزكي نجيب محمود ، وأحمد حسن الزيات .
ومن الندوات الأخرى ندوة كامل الكيلاني ، وعباس محمود العقاد ، ومحمود محمد شاكر .وقد وصف ناصر الدين ما كان يدور في تلك الندوات في مجلة القلم الجديد التي كانت تصدر في عمّان.
و كان الشعر الجاهلي من أهم الأمور التي أقلقت ناصر الدين الأسد معرفيًا ، ، من أجل هذا وجد أنه من الضروري رجع النظر في مسألة الشعر الجاهلي لا سيما بعدما قرأ كتاب طه حسين الذي صدر 1926م ، وهذا ما قام فيه بالفعل في مشروعه العلمي لإتمام مرحلة الدكتوراة الذي جاء بعنوان" مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" ، حيث حصل في عام 1955م على شهادة الدكتوراة من جامعة القاهرة وكان أول أردني يحصل على الدكتوراة من هذه الجامعة .
ولا ريب أن كتابه مصادر الشعر الجاهلي عمدة في موضوعه ، ويكاد صاحبه بمنهجه العلمي الرصين وإحاطته قد أعجز الدارسين من بعده عن مجاوزته . ورويت أخبار عدة عن استنكار طه حسين لبعض الآراء الواردة في الكتاب ، منها أن فريد شحادة سكرتير طه حسين عندما كان يقرأ هذا الكتاب عليه كان طه حسين يقف منزعجًا .
ومع هذا ظل ناصر الدين يحضر مجلسه العلمي ، وقد صرح بهذا في صورة مباشرة لما قال : "كنت أؤم مجلسه حين كان لا يجد المرء موطىء قدم في ذلك المجلس الذي استمر عشرين سنة ، حتى أصبحت أؤم مجلسه وليس فيه سوانا ، هو وأنا وحدنا ، بعد أن مرض وأصبح لا ينفع ولا يضر_هذه حال الدنيا !".
ولما أتم ناصر الدين الأسد دراساته العليا ، ظل يعمل في الإدارة الثقافية بالجامعة العربية حتى عام 1959م ، حيث اختير عميدًا ومؤسسًا لأول كلية للآداب والتربية في الجامعة الليبية ببنغازي، ولمّا أنهى مدة إعارته لسنتين ، عاد ثانية إلى الجامعة العربية في عام 1960م . وبعدها بسنتين تقريبًا تلقى تكليفًا رسميًا من الحكومة الأردنية للعودة إلى الأردن وتأسيس الجامعة الأردنية في عمّان ، التي بدأت الدراسة فيها 1962م ، وكانت الجامعة الأولى في الأردن.
استمرت رئاسته للجامعة الأردنية إلى عام 1968م ، عاد بعدها إلى عمله في الجامعة العربية ، وشغل منصب المدير العام المساعد المشرف على الشؤون الثقافية بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (القاهرة) ، وظل يشغل هذا المنصب حتى عام 1977م ، حيث عيّن سفيرًا للأردن في المملكة العربية السعودية . غير أنه لم يمكث فيها إلا عامًا واحدًا ، عاد بعده إلى الأردن ليتولى رئاسة الجامعة الأردنية مرة ثانية ، بناء على طلب جلالة الملك حسين رحمه الله، وبعد عامين كلفه جلالته بتأسيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ( مؤسسة آل البيت) ، وكان رئيسه الأول.ثم أسند إليه منصب وزير التعليم العالي وظل يشغله حتى عام 1989م . إضافة إلى أنه عضو في عدد من المجامع والمجالس العلمية في مصر ، وسوريا ، والأردن ، والمغرب ، والهند ، والصين ، وغيرها .
وتقديرًا لإسهاماته العلمية المتميزة منح عددًا من الجوائز أبرزها ، جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي ، وجائزة سلطان العويس الثقافية ، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من الأردن ، وجائزة الخوارزمي العالمية من إيران ، وجائزة باشراحيل التقديرية ، وجائزة نجيب محفوظ . كما أنه حصل على عدد كبير من الأوسمة .
وناصر الدين الأسد هو أستاذ شرف في الجامعة الأردنية ، يعطي محاضرات لطلبة الدكتوراة ، ويرعى حاليًا مشروع قانون حماية اللغة العربية ، ومسؤول عن عدد من المهام الإدارية والتحكيمية للأبحاث وغيرها من المشاريع العلمية ، حفظه الله ورعاه ، ومدّ في عمره وعطائه.
انظر للاستزادة :
_ مي مظفر ، سفر في المدى ، ناصر الدين الأسد ، ملامح من سيرته وأدبه ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ط1 ، 1998م .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟