الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حزم قصة قصيرة حمادي بلخشين

حمادي بلخشين

2012 / 5 / 12
الادب والفن


ــ 1 ــ


في مفترق طريق مقفر يربط بلدة الجريصة المحرومة بمدينة "الكاف" المنسيّة، و في فجر يوم شتويّ أجبر القطط السائبة و الكلاب الضالّة على الإحتماء بأيّ سقف كان، و حين كان شرطيّ المرور لخضر الشارني، بصدّد التثبّت من وثائق سائق" إيسيزي" شابّ، كان قد أستوقفه منذ قليل وقد راعه تهوّر قيادته، بلغته عطسة واهنة حملته على الإلتفات يمينا فشمالا ثم الى الوراء.

حين لم يعاين الشرطي لخضر الشارني أحدا، واصل فحص ما بين يديه من وثائق، و قد ذهب في ظنّه، أنّ ما بلغه من عطاس كان مجرّد هلوسة سمعيّة قد تكون نذير إختلال عقليّ وشيك، خصوصا و أنّ السجلّ العائلي الكريم يحفل بالكثير من حالات العته و الهلوسة و حتى الجنون!

بعد ثوان معدودات، و حين كان الشرطيّ يهمّ بسؤال السّائق المتهوّر عمّا إذا كان مجهّزا بالبطاقة الرّمادية التي أفتقدها ضمن ما كان بين يديه من وثائق سوّدها الإهمال و كثرة الأخذ و الردّ، بلغته عطسة أخرى أشدّ من سابقتها، أجبرته كرة اخرى على الإلتفات حواليه بحثا عن صاحب العطستين.

حين لم يصادف أحدا من حوله، سأل الشرطيّ لخضر الشارني السائق الشاب عمّا إذا كان يحمل في المستطيل المكشوف لسيارته اليابانية إنسيّا خلاف ثلاث نعجات عجاف كنّ باديات للعيان.

حين نفى الشاب ــ مبتسما ــ وجود أي كائن حيّ سوى نعجاته المقرورات، و بعد أن سمح الشرطيّ للشابّ بمغادرة سيارته للتبوّل على مرمى حجر منها، و حين كان يهمّ بفحص الأوراق ثانية بحثا عن بطاقة رمادية غاظه إصرار السائق على وجودها ضمن ما استظهر به من وثائق، داهمته عطسة مفاجئة لم يربه مصدرها هذه المرّة، لأنها صدرت عنه!

قبل أن يفتح الشرطيّ لخضر الشارني عينيه من أثر العطسة الصديقة، روّعته جذبة قويّة إستهدفت كمّ معطفه الميريّ، حين فتح عينيه صدم بكفّ بشريّة ذات أظافر متّسخة، قد برزت من بين عارضتين خشبيتين ثبّتتا على مستطيل السيارة الجاثمة أمامه، حين تقدّم الشرطيّ من صاحب الكفّ، شاهد شيخا مكشوف الهامة لا يكسو جسده المرتعد غير قميص قطنيّ ممزّق يشفّ عن بنيان شديد الهزال.حين سأل الشيخ المسكين عن سبب وجوده بتلك الهيئة و في ذلك المكان الغريب، أشار الأخير بيد مرتجفة و سحنة مروّعة نحو السّائق (الذي كان يتقدّم نحوهما بعد إفراغ مثانته)، محرّكا شفتين زرقاوين لم يصدر عنها صوت، قبل أن يغيب عن وعيه!

حين سأل الشرطي السائق المتهوّر عن هويّة الشيخ و سرّ وجوده في ذلك المكان، ردّ عليه بأنه قد أستركب من قبله، قبيل كيلومتر واحد أو يزيد، حين كان في طريقه الى سوق الكاف الأسبوعية، و قد أصرّ الشيخ الغريب الذي قد يكون مختلّ العقل على الركوب حيث اكتشفه رغم شدة البرد، و لكنّ الشرطيّ الذي حنّكته التجارب، سارع بوضع الكلبشة في أيدي مخاطبه حتى قبل أن يفيده الشيخ بين غيبتين عن الوعي، بأن الشابّ كان يكذب عليه!


ـــ 2 ـــ

في منتصف نهار نفس اليوم الشتوي الرّهيب، و في مركز شرطة "تاجروين"، و حين ردّ الشيخ الى وعيه، و بعد كأس شاي ثانية و سيجارة أولى قدمت له من قبل الشرطي لخضر الشارني، طفق يروي باسطا كفيه نحو الموقد البترولي الذي أفسدت رائحته المخفر :
ــ قبيل صياح الديكة بنصف ساعة، أي في حدود الخامسة صباحا، أفقت على صوت غريب.. حين أطللت من كوخ أسكنه بمفردي، رأيت شابا مجهولا قد عمد إلى أولى نعجاتي الثلاث، فأركبها في صندوق سيارة كانت رابضة و سط حوشي!
ــ ...!!
ـــ حينذاك. أصاب عمّك البرني من الهمّ و الجزع ما الله به عليم!

بعد تناول رشفتين مدوّيتين من شايه الأسود المركّز، إستمرّ الشيخ البرني راويا:
ـــ لمّا كنت أضعف من أن أتصدّى لكائن من كان، فقد أسقط في يدي و أيقنت بضياع نعجاتي و بقائي على الحديدة و هم مصدر رزقي و ما املكه من متاع الدنيا، خصوصا و قد حملتني الفاقة و ضيق ذات اليد على التفريط في بندقيّة صيد كانت عدّتي في الشدائد.

بعد ان أطال عمّ البرني شكر الشرطي لخضر الشارني على مسارعته الى إعادة تدثيره ببطانية متسخة قد إنتزعت من موقوف ما انفك يسمع تذمّره واصل يقول:
ـــ حينذاك حدثت نفسي قائلا: " ما جدوى حياتك يا برني، وقد سلبت نعاجك الثلاث، فاستعن بالله، و سارع باللّحاق بهن، فإمّا أن تنجو بهن و إمّا أن تصيبك ضربة تعتقك من حياة ضنكة"!

كان الشرطيّ لخضر الشارني مغرقا في قهقهة مميزة، و قد تكشّف له المستور حين استمرّ عم البرني راويا:
ــ حينذاك توكلت على الذي لا ينام اللّيل، ثم زحفت متسترا بالظلام، مغتنما لحظة انصراف الشقيّ الى ثالث نعجاتي، ثم تسلّلت الى السيارة مستعينا على بلوغ سطحها بقالب تبن ضخم اتفق وقوف السيّارة بحذائه، ثم انكمشت هناك ملتزما السكينة قاطعا التنفّس، بعد أن استترت بخرقة بالية وجدتها هناك. وقد كنت أضمرت في نفسي مغادرة مكاني و فضح السّارق فور وقوفه الإجباري بمفترق الطريق حيث لقيناك. و لكن حدث ما لم يكن في حسبان عمّك البرني!

بعد إشعال سيجارة ثانية تبرّع بها الشرطيّ استأنف عمّ البرني :
ـــ بعد قليل انتظار، شعرت بالخبيث وقد قذف بثالث نعجاتي الى جواري و كانت أصغرهن من حسن الحظ.. و فيما كنت استعجل صعوده الى سيارته فوجئت به و قد يمّم وجهه صوب الكوخ المفتوح و قد ظنه مهجورا.. ثم شرع يجوس خلاله مطمئنا الى خلو المكان من أهله، قبل أن يستقرّ جالسا على جذع شجرة كان في مدخله، مضرما النار في عيدان يابسات جهزتها لشايي الصباحيّ ثم شرع يصطلى بنارها مدخنا سيجارته و هو يدندن بأغنية: " ما نحبّوش يصلّي نحبّو يسكر و يغنّي"! (1).. فيما كان عمك البرني يكابد من البرد ما الله به عليم!!


كان الشرطيّ لخضر الشارني مغرقا في قهقهته المميزة حين استمر عم البرني:
ـــ حين طال بي التخفّي، و لسعني البرد بسياطه القاسية و هممت بكشف نفسي استجلابا لميتة غير مؤكّدة تنقذني حتما من ميتة برد مؤكّد، عاينت الرقيع و هو يتّجه نحو السيارة.

بعد ان أتي عم البرني على بقية شايه ختم إفادته بين بسمتين:
ــ و البقية أنت أعلم بها يا سيدي!

بعد أن طوحّ الشرطيّ لخضر الشارني برأسه تعجبا من شجاعة الشيخ و فطنته و سرعة خاطره سأله مبتسما:
ــ عم البرني، أما فكرت و قد لسعك البرد، في التسلل من السيارة و النجاة بنفسك؟
ردّ الشيخ متعجّبا:
ـــ مغادرة السيارة و النجاة!؟.
ـــ ...؟!
ــ هههههههه
ـــ...؟!
ــ وأيّ معنى للنجاة بعد ضياع الشويهات؟
ـــــــــ
(1) لا أريد عشيقا يصلي أريده سكيرا مغنيا! مطلع أغنية شعبية تونسية تعد بمثابة خريطة طريق و منهج حياة فئة كبيرة من سكان الخضراء!

أوسلو 6 ماي 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل


.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ




.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع