الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حيرة الغريب/ في ذكرى النكبة واليوم الوطني النرويجي

حنان بكير

2012 / 5 / 13
الادب والفن


حيرة الغريب
بدأت شمس أيار تدفىء سماء أوسلو. تسلل الدفء الى الأجساد، فعادت الإبتسامات لترتسم على وجوه الناس. كل واحد يستقبل أيام الدفء على طريقته، لكن الاستحمام بخيوط الشمس الذهبية في الأماكن العامة هي سمة عامة بين الناس، ويضفي يوم 17 ايار نكهة خاصة على هذا الشهر. إنه اليوم الوطني الذي أعلن ولادة مملكة حرّة.
ليلى تخرج مسرعة من أحد المحلات وقد احتضنت أكداسا من الأعلام النرويجية الصغيرة التي ستأخذ مكانها على طاولات المقهى، وشرائط بألوان العلم النرويجي مضمومة بدبابيس لتزيين صدور العاملين في المقهى.
في المقهى الذي وصلته باكرا، بدأت ليلى بتزيين الطاولات وتوزيع الأعلام عليها، آخر علم كان في يدها، نظرت اليه بحنان، ضمته الى صدرها، لمسته برقة وبكت.. ربما بصوت مسموع قليلا.
أمس فقط كان الخامس عشرة من أيار. ذكرى النكبة. في ذلك اليوم وفي قاعة فسيحة مغلقة تغص بالأعلام المختلفة الألوان، اجتمع لفيف من البشر وقرروا بجرة قلم فقط!! قرروا إزالة أمة مجتمعة منذ قرون على ذات اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافية. كان ذلك قبل زمن رسل السماء.. وبجرة قلم أخرى جاؤوا بعشرات الثقافات واللغات المختلفة وقالوا لهم كونوا أمة واحدة فكانوا!! هكذا بكل بساطة تنشأ وتباد الأمم ! في هيئة الأمم المتحدة.
منذ ذلك اليوم وجدت نفسي عارية من كل شيء، لا سماء فوقي، لا أرض تحت قدمي، مجرد ورقة خريف تتلاعب بأقدارها الرياح... لا هوية تعلن انتمائي. أمس فقط في ذكرى نكبتي حملت علمي الصغير الخاص، لم أجد له مكانا، غرسته في قلبي عله ينمو ويزهر وطنا ككل الأوطان.
السابع عشر من أيار. تزينت الشوارع بالزهور والأعلام لتستقبل ضيوفها. انه عيد للفرح. وهو يوم مسيرة شعب بأكمله ومهرجان للأزياء الوطنية بكل الوانها ونقوشها الرمزية التي تحكي حكاية تراث وتاريخ. هذا اليوم هو إعلان انتماء ووفاء لمن صنعوا هذا اليوم وعمّدوه بدمهم، ليغتسل أبناءهم وأحفادهم بالنور.
وقفت امام المقهى أراقب الناس، من المسنين الى الأطفال يلوحون بأعلامهم الصغيرة، أما الأعلام الكبيرة فقد أخذت مكانها امام المنازل وعلى الشرفات منذ اول ايار.. الفضاء الواسع امتداد كبير لأصداء النشيد الوطني.. كنت سعيدة بقدر ما كنت حزينة! انه يوم ينكأ جرحا ما زال ينزف، ولا يردم الهوة السحيقة في الروح.
لقد مشينا يا أوسلو خلفك، بكل الصقيع الذي يلفنا، حملنا الحب في جيوبنا لعلنا نطفىء الظمأ الى وطن يكون من ناس وشجر وطيور، وأطفال لا تخاف الموت لأنهم ببساطة لا يعرفونه، يخربشون على أوراقهم فيزهر ربيع وتنفر فراشات، وتصير السماء وردية!
لكنا يا أوسلو حصدنا حقول دم وخراب يحيط جهاتنا الآربعة.. ما زلنا في المنفى نختفي في الزوايا.. كأن الدنيا تبتلعنا فنحن جيفة لا يفتقدها شارع.. لم نستطع حتى اليوم أن نفهم أن لنا وطنا كبيرا اسمه بلاد العرب، كان يمكن أن يكون أكثر حبا لنا.. هناك قمح ما فيه الكفاية لكل طيور الدنيا فلماذا نطير الى جنة بعيدة لا نرى فيها من نحبّ! ما زلنا نسكن عتمة الغربة، ولنا مكاننا هناك تحت الشمس. أعذريني يا أوسلو، فأنا ان لم احمل الوفاء لمكاني الأول فلن أكون وفية لك!
نفسي لم تعد تحتمل. أسرعت الى داخل المقهى ومنه دلفت الى المكتب في آخر الرواق وانفجرت في بكاء طويل.. لماذا نحن بالذات؟ الكون كبير كبير وطرفان يتنازعان على شبر منه! دعني أنفجر وأنفجر في وجهك يا اله السماوات! أي ضريبة تلك التي عليّ ان أدفعها؟
يقولون أرضي مقدسة، مرّ عليها رسل مقدسون! هل نحن نعزّي أنفسنا أم ان هناك من يستخف بعقولنا؟ بل هي أرض ملعونة تأكل ساكنيها وتظل ظمىء الى الدم، منحتنا حبا قاتلا وذلا شامخا.. ونظل نتعشّقها في صحونا وفي نومنا، ونحملها في وجداننا حيثما ارتحلنا...
أعذريني يا أوسلو، لأنك لن تفهمي كيف تهرب الأوطان من الخريطة وتحتل مكانها في القلب.. لأن حدودك يا أوسلو جغرافيّة لها سماؤها وأرضها وبحرها، وحدود أرضنا هي امتداد بين الروح والقلب، ومكانها الوجدان! وحين نمضي الى الأبدية يقفز النشيد منا ليأخذ مكانه في قلوب براعمنا.. أنت يا أوسلو تورثين أبناءك الرفاه ونحن نورث أبناءنا النشيد، والويل لأمة تفقد نشيدها.
من كوّة صغيرة في أعلى الجدار تسربت بعض أشعة من نور الشمس، ربما أضاءت بعضا من روحها.. فتوقفت ليلى عن النحيب، نظرت الى الخيوط الذهبية. ابتسمت. قالت في سرّها. سيأتي يوم نتعمد فيه بالنور... لكن حين يحين الوقت!

مقطع من قصة لم تكتمل فصولها، كتبت العام 2003، باللغة النرويجية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا