الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غوايات الكتب

سعد محمد رحيم

2012 / 5 / 13
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


الهَوَس بالكتب:
يرى المهووسُ بالكتب العالمَ كتاباً مفتوحاً كبيراً لا ينتهي البتة من قراءته. أو كمكتبة عظيمة أشبه ما تكون بالمتاهة عليه أن يتنقل بين ممراتها وصفوف رفوفها وسلالمها وطوابقها بحثاً عن سر الوجود المكنون في مكان ما منها. وقد تكون المكتبة في ذاتها، بنظره، هي صورة العالم ومثاله. أو هو العالم الذي يقترح له ( للقارئ ) أكثر من حياة؛ فتغدو، حينئذ، حتى الذاكرة في شكل كتاب، والعقل ككتاب، والمجتمع والعلاقات بنى توازي وتناظر هيئة كتاب. فيما العالم نفسه، بالمقابل، سيبدو وكأنه "وجد كي يُصبّ في كتاب جميل" على حد تعبير مالارميه. وكل كتاب مضاف هو حياة جديدة مبذولة لقارئه طالما أنه خلاصة تجربة وخبرات متراكمة ورؤى تكونت في طرقات الزمان. من هنا نميل إلى تلك الكتب التي تخاطب عصباً خاصاً، خفياً، فينا، وتتوافق مع ما عشناه حقاً وخبرناه.. والمغزى بعبارات ألبرتو مانغويل في كتابه ( يوميات القراءة ) هو في إقامة رابطة من الاتفاق العَرَضي بين مخيلتين، مخيلتنا وتلك المدوّنة على الورق. لا لكي نرضي غرورنا بل من أجل أن نقتنص فرصة تعميق رؤيتنا إلى أنفسنا وعالمنا..
لا أحد كرّس جهده البحثي والأدبي، في عصرنا، للحديث عن الكتب وقراءتها والمكتبات مثلما فعل مانغويل.. كانت الكتب موطنه وفردوسه. ومنذ صغره حلم أن يكون أمين مكتبة، ولم يتحقق له ذلك بسبب كسله وحبه للسفر كما يخبرنا.. وفي صدر شبابه كان يحيط الكتب بنوع من الهالة.. يؤكد: "كنت أريد أن أعيش وسط الكتب".. وذات مرة قادته المصادفة ليكون قارئاً لبورخيس، وتلك تجربة يعدّها غريبة، فبورخيس المستمع كان سيد النص، يحدد الكتاب، ويمنح الدعم، ويطلب الاسترسال في القراءة، ويقاطع للإدلاء بتعليق، فتتوجه الكلمات صوبه، فيما يبقى هو ( مانغويل ) غير منظور.. إن بورخيس الذي تخيّل الجنة مكتبة كبيرة ترك بصمته في وعي مانغويل، لاسيما في عشقه، وشكل علاقته بالكتب، والمكتبات. وعلى الرغم من أنه أصبح كاتباً لامعاً ومشهوراً فيما بعد، إلا أن همّ القراءة هو ما تلبس مانغويل على الدوام: "ليست الكتابة بل هي القراءة التي تبقيني صاحياً. القراءة هي مهنة المؤرق بلا منازع.. غرفة المكتبة باردة. أفتش بين الكتب، وقد بدأ ضوء النهار يلوح لتوِّه ويراودني إحساس مريح بأنها تحوي كل ما أريد أن أعرفه، كما لو أنه امتداد لجلدي". والقراءة من وجهة نظره طقس انبعاث، وكل قارئ يمنح الكتاب قدراً متواضعاً من الخلود.
تقصى مانغويل عن تاريخ الكتابة ومن ثم القراءة في كتابه ( تاريخ القراءة )، وسجل يومياته في صيغة تأملات قارئ شغوف، مثلما اطلق على نفسه، وعاد في كتاب ( المكتبة في الليل/ ترجمة عباس المفرجي.. دار المدى 2012 ) باحثاً في أراشيف الحضارات قديمها وحديثها عن تاريخ المكتبات، عبر قراءة حرّة ومنتقاة، ومن غير التقيد بالتقاليد المنهجية الأكاديمية الصارمة، ومن غير أن يسعى إلى وضع تاريخ آخر للمكتبات إلى جانب ما كتبه الآخرون.. يقول: "قررت أن أبدأ بالكتابة، لا لكي أصنِّف تاريخاً آخر للمكتبات، أو أضيف مجلداً آخر للمجموعة الواسعة بشكل مرعب في علم المكتبات، بل كي أسجل فقط وقائع دهشتي".. فمانغويل ينجز قراءته الخاصة بأسلوب شاعري كما لو أنه يؤلف روايته/ مرويته عن ( المكتبة ) بوصفها كينونة فيزيقية، وهندسة عمارة وتنظيم، وعلامة حضارة، ومؤسسة مدنية، وظاهرة وجودية، وروحاً، وذائقة، وطريقة حياة، وخياراً شخصياً، وفسحة عزلة، ومديات حرية. وقبل هذا وذاك؛ أسطورة.. وإذن لماذا المكتبة في الليل؟. يقول مانغويل:
"إذا كانت المكتبة في الصباح توحي بصدى نظام واقعي بسيط ومعتدل للعالم، فإنها في الليل تبدو منتشية وسعيدة بفوضى العالم". وللمكتبة في الليل أشباحها، ولهذه الأشباح أصوات، لذا "فإن المكتبة في الليل ليست لأي قارئ". وكقارئ فإن المكتبة هي ملاذ مانغويل في الليل، وحين يطفئ ضوء المكتبة أخيراً فإنه يحمل معه إلى النوم أصوات وحركات الكتاب الذي كان قد فرغ من قراءته توّاً، وأن ذلك الكتاب ستموِّن أحلامه بالحجج وبالقصص الحقيقية التي سيكتب عنها في النهار التالي.
المكتبة الناقصة:
تستدعي المكتبة إلى الذهن ما ينقصها.. إنها ذاكرة كونية غير قابلة للامتلاء أبداً، فثمة فراغات، على الدوام، في فهرسها النهائي.. وكل صاحب مكتبة شخصية، أو أمين مكتبة عامة، يدرك هذه الناحية بوضوح. فهو يفكر، بين الحين والآخر، برفوف جديدة وعنوانات فاته اقتناؤها، أو لم يستطع الحصول عليها.. لا يتعلق الأمر فقط بالكتب التي طُبعت منذ زمن بعيد أو قريب. أو التي تطبع الآن ولاحقاً، وإنما حتى بتلك الكتب التي لن تؤلف أو تطبع مطلقاً كذلك.. إن خريطة المكتبة التي نحلم بها هي أكبر، بالتأكيد، من التي نحوزها في النهاية.. من هنا فإن الصفة الغالبة لصاحب، أو أمين مكتبة، حقيقي، هي الجشع. وهو الجشع الحلال، والجائز، والمقبول اجتماعياً، والمشروع.
لكن لماذا هذا الجشع إذا كان من المستحيل أن يتمكن المرء من قراءة هذا العدد الهائل اللانهائي من الكتب، وإذا كانت مقدرته الذهنية والبايولوجية وما متاح له من سنوات على هذه الأرض لا تسمح له أن يقرأ سوى نسبة ضئيلة، تافهة مما هو مبذول له منها؟ ألا يتطابق هذا الجشع في آلياته وغموضه مع ذاك الذي يتصف به البخيل، محب المال، الذي يراكم الثروات بما يفوق حاجاته عشرات ومئات المرات؟. أظن لا، فنسبةً لعاشق الكتب ينطوي كل كتاب لم يُقرأ بعد على مغرياته الخاصة. إنه سلّة مسحورة تَعِد بأفكار قابلة للإشعاع في أية لحظة، وأسرار تبغي الانكشاف، ولذائذ مؤجلة.
تمنحنا المكتبة حيوات بديلة، متنوعة تغني حياتنا وتسبغ عليها القيمة والمعنى، وتوشحها بهالة باهرة. لذا فهي جنة عدن لبعضنا، وملاذ روحي لبعضنا، ومكان للهرب من العالم أو محاولة للنسيان لبعضنا، وسبيل لفهم أنفسنا وما يحيطنا لبعضنا.
ولكل مكتبة غموضها الساحر، وحتى أولئك الذين حرموا نعمة القراءة، أو الذين يتقنون القراءة ولا يقرأون، ينظرون إلى المكتبة بشيء من الرهبة والاحترام.. توجد المكتبة هناك لتشعرنا بمحدوديتنا ونقصنا. وكلما كانت أفخم وأعظم امتلاءً كلما جعلتنا نحس بالضآلة إزاءها. إنها تتحدانا بحضورها المهيب، وتدعونا لولائمها بكرم باذخ. وتوحي لنا بأن في زاوية خفية منها يكمن سر وجودنا، أو قبس من نور هو الأمل في خلاصنا، وما علينا سوى أن نغامر بالبحث.
تصبح المكتبة خلاصة العالم.. إنها في صفوف رفوفها المكدّسة بالكتب إنما تحوي، أو تحاول أن تحوي، حركة الحياة، التاريخ، الأشياء، الأحلام، وآثار الراحلين جميعاً لذا فهي دائمة الاتساع: "في أي مكتبة ليست هناك رفوف فارغة تبقى فارغة لوقت طويل. مثل الطبيعة، المكتبات تمقت الفراغ بشدة". يقول ألبرتو مانغويل، ويضيف: "إذا كان القصد من توسيع المكتبة أن تصبح مرجعاً شاملاً بأكبر قدر ممكن للعالم، فلابد من أن تكون تلقائياً فائضة عن الحاجة لأنها لا تصل إلى الشمول إلا في حالة وصول حدودها إلى حدود العالم نفسه". ومانغويل الواقع في دائرة سحر المكتبات يظل موزعاً بين فكرتين/ رمزين تتمثل الأولى ببرج بابل الذي شيّد ابتغاء قهر المكان، من منظوره الشخصي، في مقابل مكتبة الإسكندرية المبنية على أمل قهر الزمان.. يقول: "برج بابل في المكان ومكتبة الإسكندرية في الزمان هما رمزان لهذين الطموحين المستحيلين؛ رغبة احتواء كل لغات بابل، وتوق تملك كل كتب الإسكندرية".
في نزوعها إلى أن تجمعْ، نجد المكتبة تُقصي أيضاً.، فهي إذ تختار فإنها ترفض من جهة ثانية، وإن على مضض.. نضطر أحياناً إلى أن نتخفف من كتب معينة فنبعدها بطريقة ما ( إهداء، حشر في زاوية مهملة، إتلاف، الخ.. ) من أجل تهيئة فسحة مكان لكتب أخرى نفترض أنها أكثر قيمة وأهمية.
إلى جانب الكتب الموجودة فعلاً، وتلك الناقصة التي نتمنى اقتناءها، هناك الكتب المفقودة كذلك.. الكتاب الذي كان يستريح في موضعه الأثير، يوماً ما، أُنتزع بفعل فاعل ولم يعد.. استعاره أحدهم ولم يُرجعه، أو سرقه في غفلة منك ( هناك من يعتقد بمشروعية عدم إرجاع الكتب وحتى سرقتها إن أُتيحت الفرصة ).. صاحب المكتبة المتولّه بكتبه لا شك في أنه يشعر بأشباح تلك الكتب التي فُقدت، فيخيّل إليه انها الآن تشكو في غربتها، من الحنين للعودة إلى منزلها الأول!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصام لطلاب جامعة غنت غربي بلجيكا لمطالبة إدارة الجامعة بقط


.. كسيوس عن مصدرين: الجيش الإسرائيلي يعتزم السيطرة على معبر رفح




.. أهالي غزة ومسلسل النزوح المستمر


.. كاملا هاريس تتجاهل أسئلة الصحفيين حول قبول حماس لاتفاق وقف إ




.. قاض في نيويورك يحذر ترمب بحبسه إذا كرر انتقاداته العلنية للش