الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جزء من رواية -ليلة إفريقية- لمصطفى لغتيري

مصطفى لغتيري

2012 / 5 / 13
الادب والفن


جزء من رواية "ليلة إفريقية"

الأيام تمضي حثيثا .أبدا لا تلتفت خلفها، ولا تنتظر أحدا ..وما مضى منها وانقضى من الصعب تداركه ..الزمن نهر هادر يجرف كل من يتجرأ ويقف في طريقه..أنا الآن بعدما سلخت من العمر سنين ، أقف على مفترق طرق، أسترجع ما فات بحسرة لا تغني عني شيئا وأتطلع إلى ما هو آت، فلا أرى سوى الخواء.. لا معالم تحدد وجهتي، ولا قشة تبن أتعلق بها، لأنجو بنفسي من منحدر سحيق، أشعر أنني حثيثا أهوى في قراره ..ورويدا رويدا أجدني غير قادر على المقاومة ...تجاوزت من العمر خمسين سنة ، ليس أمامي سوى شيخوخة ترعبني..أتخيل نفسي فيها وحيدا وضعيفا، تتكالب علي الأمراض من كل جانب، عجوزا عقيما، لا حرث ولا نسل يقياني حر الأيام القادمة ..فيما مضى كنت مأخوذا إلى أبعد الحدود بمجد كاذب، تحقق لي من خلال رواياتي التي صدرت تباعا، وحققت لها من الانتشار ما يطمح إليه أي كاتب .. مزهوا عشت على إيقاع احتفاء متواصل ومتجدد بما خطته يداي. تنقلت في مدن عدة لأحضر لقاءات ومهرجانات، أستمتع فيها باهتمام النقاد واحتفاء القراء.. بعد ذلك زرت مدنا عربية و أجنبية عدة...في كل مدينة أجد نفسي محاطا بثلة من الأصدقاء الجدد والمعجبين ..كل ذلك انتهى الآن ...وهأنذا أعيش وحيدا منعزلا وكئيبا..لا أحد يكاد يذكرني، وكأنني لم أشغل بال الناس يوما ..أشعر وكأنني وضعت في الأرشيف. لم يغن عني المجد السابق شيئا ، فرواياتي التاريخية استقطبت فيما مضى اهتمام الكثيرين بل اهتم بها مخرجو السينما كذلك، فاقتبسوا منها أفلاما ناجحة، حصلت على جوائز في مهرجانات عدة ..تملكني التاريخ بكثير من الاستحواذ كنت أستثمره دوما في كتاباتي ..أقتبس شخصية من شخصياته، أو حدثا من أحداثه.. أضيف عليه كثيرا من الخيال فتصبح الرواية التي أكتبها ضاجة بالحياة، لم تعوزني الحيلة ولا الذكاء للعب على الأوتار الحساسة للقراء، فأجعلهم يرون أنفسهم من خلال رواياتي. يحبون أنفسهم من خلال حبهم لها، فلا يملكون سوى أن يتماهوا معها، بكل ما يملكون من قوة. إنها- ببساطة - تستجيب لتطلعاتهم ومكبوتاتهم، أحلامها أحلامهم وآمالها آمالهم.. أتذكر الآن حين استثمرت شخصية "محمد بن تومرت" ..الملقب بالمهدي في روايتي الرابعة، والتي حملت نفس الاسم أي "المهدي". لقد حاولت أن أكشف البعد الإنساني لهذه الشخصية التي تملكت علي فؤادي، منذ أن سمعت في ذلك الصباح البعيد، حين كنت أرفل في ريعان الصبا، حكايتها من فم معلمي المتحمس. لقد حكى لنا -نحن التلاميذ-الحكاية بشكل مشوق جعلها تترسخ في عقلي ووجداني ..كنت صغيرا حينها، والعالم يبدو غير حقيقي،كان بالنسبة لي عبارة عن حلم، دوما أتنقل في جنباته، غير مصدق لواقعيته. فقط كان مجرد حكايات، تبدأ من حكاية الجدة الطاعنة في السن، والتي اختلطت الأحداث في ذهنها، حتى أضحت سوريالية ، لا تملك من المعنى سوى ما أؤثثه بها في حالات العزلة، التي كانت تستهويني، ومرورا بحكايات الأم، التي كانت أكثر دقة، ترصعها دائما بأمثال عميقة، لم أفهم كنهها إلا حينما كبرت، وأضحى للذهن أبعاد أخرى لم تتأت له في ذلك الحين..
كان المعلم عملاقا، هادئا، أسمر، ومبتسما دوما.. يستهويه أن يرى الدهشة معلقة على جباهنا الصغيرة.. حكى لنا عن المهدي وعن حيلته اللامعة والبسيطة ،من أجل أن ينجح في إقناع الناس بصدق زعمه بأنه المهدي المنتظر. لكن كثيرا من الناس لم يستسيغوا ادعاءه، فزعم أنه قادر على الإتيان بمعجزة تؤكد ما ادعاه..ولم تكن هذه المعجزة سوى قدرته على الحديث مع الموتى...ضرب للناس موعدا يطلعهم فيه على معجزته، ثم ذهب عند بعض خلصائه وأغدق عليهم من المال، والوعود بالمناصب العليا إن هو نجح في مسعاه، فاستجابوا له، وطلب من كل واحد أن يحفر قبرا بنفسه، وحين تم الحفر تمدد كل منهم في لحده.. فدفنهم المهدي أحياء، وترك لهم ثقبا يتنفسون منها الهواء ، موه عليها بقصبات معدة لهذا الغرض..ثم قصد الناس، وخطب فيهم خطبة عصماء، تدعوهم جميعا لزيارة المقبرة والوقوف على صحة دعواه، بعد أن حملهم وزر التبعات ، إن هم تنكروا له أو لم يساهموا في نشر ما سيكونوا عليه شهودا بين الناس ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا..
بينما كان المعلم يحكي حكاية المهدي، كانت طيور الخيال تحلق في أجواء القسم، رفرفاتها الناعمة، تخلف نسيما بديعا، يدغدغ سحنتي، يتسلل إلى وجداني، فينطلق ذهني في عالم من التمثلات المجنحة ، فجأة يتحول المعلم أمامي إلى كائن مختلف، أراه هو نفسه ذلك الرجل الذي يحكي عنه، وهو يدفن خلصائه، ويتحلق من حوله الناس، منبهرين، ما بين مصدق وشاك..أرى نفسي بين هؤلاء الناس، تتربع الدهشة على نفسي، أتصوره ساحرا من أولئك الذين دأبت على رؤيتهم في حلقات الحي، حيث كنت أقضي كثيرا من الوقت. أستمع لحكايات هذا، وأستمتع ببهلوانات ذاك، وتتلقف أذناي حكايات الجن والحوريات، وسيف بن ذي يزن ..أرى المعلم من زمن آخر لا أكاد أتخيل كل تفاصيله..أتشوق إلى سماع المزيد من حكاية المهدي، يرن الجرس، فيتوقف المعلم عن الحكي، ليعدنا بمتابعة الحكاية في الحصة القادمة من مادة التاريخ..
أسبوع كامل أحيى خلاله على وقع ما يمكن أن يحدث في الحصة الموالية...أتصور الرجال المدفونين وقد قضوا نحبهم، أو تسلل إليهم ناكر ومنكر ليحاسبهم على ما اقترفوا من جريرة الخداع، ثم لا ألبث أن أراهم مهمومين، حزينين، وهم يضطربون في ظلمة حالكة. الجوع والعطش يفتك بهم..أفكر في هذا الرجل الغريب الذي سمحت له نفسه بأن يقوم بهذا الفعل.. تتداخل صورته مع صورة المعلم، فأخجل أن أقارن بينهما..كان المعلم لطيفا، ولا أظنه قادرا على فعل ما قام به"المهدي".. سألت أمي عن الحكاية حتى أستبق ما سيحكيه المعلم، لكنها لم تفقه شيئا، حينذاك تبينت حدود قدرتها على الخيال والمعرفة... ومن تلك الفترة كففت عن الاستماع إليها...فما دامت لا تعرف حكاية المهدي، فإنها لا تعرف شيئا..بدت لي حكايات "الغولة"، التي طالما كررتها على مسامعي بصيغ مختلفة لا ترقى إلى ما سمعته في المدرسة...حكاياتها غارقة في الخيال، ولا تمت للواقع بصلة، إنها خرافات لا تليق إلا بمن هم في دون سني...حكاية المعلم قوية ومقنعة، وفيها أناس من لحم ودم، أناس يشبهوننا في كل شيء ، فقط نختلف عنهم في أنهم من زمن انقضى، لكنه محفوظ في الكتب وفي ذهن المعلم.
حين مر الأسبوع ، وجاءت حصة التاريخ كنت على أتم الاستعداد لأستمع بقية الحكاية...تحدث المعلم عن الدولة الموحدية وعن حدودها التي تجاوزت المغرب، لتضرب شرقا نحو الجزائر وتونس، وتتوغل جنوبا إلى حدود شنقيط وما بعدها، وتصعد شمالا نحو الأندلس، أو ما يؤشر عليه حاليا في الخريطة بإسبانيا، حتى أشرفت على فرنسا...لم تستفزني هذه المعلومات، كنت أبحث عن الحكاية، فجأة فتح المعلم جراب حكاياته، وقال لنا وقد فطن إلى أننا ننتظر بشوق تتمتها:
-أين وصلنا في حكاية المهدي؟
ران الصمت على الجميع، وكل منا يبحث في ذاكرته عن شظايا الحكاية. وحين يئس من إجابتنا أو كاد. قال لنا:
-إنكم لم تنتبهوا إلى ما حكيته عن المهدي، لذا لن أتم الحكاية.
حينذاك، شعرت بشيء ما يتحرك في داخلي ..خائفا كنت من أن أحرم مما منيت به النفس أسبوعا كاملا، رفعت أصبعي، فأشار علي المعلم بالكلام فقلت:
- سيتوجه المهدي بالناس إلى المقبرة.
ابتسم المعلم، ورد علي بحفاوة:
-أحسنت يا ولد. ثم تابع الحكاية:
انطلق المهدي والناس من خلفه نحو المقبرة .حين أشرفوا عليها، جدد لهم وعده ووعيده.. تقدم نحو القبور التي يعرفها...ثم قال رافعا صوته:
-يا أهل القبور هل تشهدون أنني المهدي المنتظر ؟
لم يسمع الناس رد أهل القبور، لكن المهدي وحده بدا منتشيا، فرحا بما تصله من همهمات، ثم توجه للناس قائلا:
-اقتربوا كي تسمعوا شهادة أهل القبور.
بوجل اقترب الناس من القبور، فتسربت إلى أذانهم همهمات، لا يكادون يفقهون منها شيئا، فالتفت أحدهم نحو المهدي قائلا:
-إننا نسمع ولا نفهم شيئا.
وقف المهدي على تلة مرتفعة حتى أطل على رؤوس القوم من عل، ثم قال:
-إن أهل مدينة الموتى يقولون: نشهد أنك المهدي المنتظر، فمن تبعك نجا ومن زاغ عن صراطك هلك.
سرت همهمة بين الناس، وقد أدهشهم حديث الموتى واستبد بعقولهم .حين أحس المهدي بتأثير ما سمعوا، صرفهم عنه، مدعيا أنه يريد أن يخلو بنفسه ليقرأ الفاتحة وبعض الأدعية على أرواح آبائهم، حتى ينجوا من العذاب، ويدعو لهم كذلك بالمطر والبركة والنسل الصالح ..انسحب الناس، وحين خلا المكان، عمد المهدي إلى القبور، فنزع القصبات التي يستنشق من خلالها المقبورون، لكي يقضوا نحبهم ويموت معهم سرهم، فلا مجال عند المهدي للمغامرة بائتمان من لا يؤتمن على سر، لو فضح لانتهى أمره، وانقلب الأمر عليه، فلا يضمن ما يحدث له بسبب ذلك ..
هذه الحكاية المجنحة التي يمتزج فيها الواقع بالخيال والمكر بالذكاء والسذاجة، ساعدتني إلى حد بعيد على كتابة رواية"المهدي"..فجاءت رواية ناجحة، فيها أحابيل السياسة وقدرية الدين، وطموح الإنسان الذي لا حدود له من أجل السيطرة على الآخرين..ركزت على شخصية المهدي، فأصبغت عليها من الصفات ما يتلاءم مع طبائع الناس وتطلعاتهم، لأجعل منها في الأخير شخصية قوية، عميقة ومركبة تجمع ما بين المتناقضات، وتلعب على جميع الحبال من أجل الوصول إلى غايتها القصوى، والتي ليست سوى الاستيلاء على سلطة الزمان.
نجحت الرواية وكتبت بعدها روايات أخرى، قاسمها المشترك توظيف معطيات التاريخ، وخاصة تلك التي تنتمي إلى فترات موغلة في القدم، لا يكاد الناس يعرفون عنها سوى شذرات متفرقة وشحيحة، لا تشبع الفضول ولا تلبي رغبة نفسية عميقة لدى الناس، تجعلهم ينظرون إلى أنفسهم من خلال شخصيات التاريخ الناجحة، ربما تعويضا عن الفشل الذي يحيون على إيقاعه في هذا الزمان الذي لم ينجح في خلق أسطورة جديدة تعوض الأساطير القديمة.
للأسف كل ذلك انتهى الآن، تخطيت سن الخمسين بقليل، وظهرت في مجال الأدب اتجاهات أخرى جديدة ، تجاوزت ما كنت أعض عليه بالنواجد في الكتابة. شيئا فشيئا وجدتني متجاوزا..كل ذلك المجد الذي حققته لي رواياتي التاريخية يتسرب من بين أصابعي، ولا أكاد أمسك منه سوى السراب.. أنا الآن أعاني من التجاهل المقيت.. تدريجيا وضعت في الرف فعلاني الغبار.. لا أحد يسأل عني أو يهتم بكتاباتي ..الجيل الجديد من كتاب الرواية استحوذ على اهتمام القراء .بالتأكيد لهم رؤية مختلفة للأدب..سمعت أنهم غير منشغلين بالأمور الكبيرة، فقط اهتمامهم يتمحور حول ذواتهم، وربما هذا ما يجعلهم يعزفون على الوتر الحساس للقارئ، الذي فقد تدريجيا اهتمامه بالقضايا والأفكار السيارة ...تألمت كثيرا لهذا الوضع، وانسحبت من حياة الأدب..وهكذا وجدت نفسي وحيدا ..ضاعف من مرارة هذا الإحساس المقيت، أنني بدون أسرة تدعمني في محنتي ، أو أجد في حضنها بعض العزاء. لا أبناء أهتم بمستقبلهم، فأنشغل عن نفسي قليلا . لذا أجدني أفكر في وضعي البائس ليل نهار.
علاقاتي بالأدباء من جيلي كانت دائما متوترة، فالحظوة التي كانت من نصيبي ألبت علي الكثير من الحساد..فيما مضى لم أكن اهتم بذلك، مادمت منشغلا بالشهرة والاهتمام.. الآن وأنا أرفل في دنيا الفراغ والتجاهل، أحيى بكثير من الأسى والحسرة ..لا أحد يكلف نفسه السؤال عني سوى بعض الأصدقاء القدامى من خارج الأدب، الذين لازالوا يحملون لي في قلوبهم بعض التبجيل، حين التقي أحدهم، ألمح في عينيه تلك النظرة ، التي افتقدتها في عيون الآخرين، نظرة ملؤها الكثير من الغبطة و الإعجاب.. وحين يشرع أحدهم في الحديث عن مكانتي الأدبية، يكاد تطفر من عيني دموع الحسرة، خاصة وأنني أعرف حق المعرفة الحقيقة المرة، التي ربما لا يعيها محدثي..أنا –ببساطة- كاتب تجاوزه الزمن، ويحيى على أمجاد الماضي، ويتعين عليه أن ينتظر النهاية المحتومة، أعني الموت، وسط جو من التجاهل واللامبالاة..حقيقة لم أعد طامعا حتى في جنازة محترمة ترد إلي بعض الاعتبار..
هذا المساء أجلس وحيدا كعادتي، في مقهى على مرمى بصر من الشاطئ الفارغ، أرتشف قهوتي السوداء، وأمتص دخان لفافات لم يعد القلب والصدر قادرين على تحمله..أباعد-بمكر- بين سيجارة وأخرى.. وفي لحظات متباعدة أنقب في أعماق نفسي عن فكرة ما، تسعفني على الكتابة، لعلي أرد بعض مجدي الضائع، فلا يستقيم شيء في الذهن .. أركض في متاهات الذاكرة يمنة ويسرة. أفتش وأفتش، أبحث في المنطقة السفلى من الوعي الكامن، علي أظفر بشيء. في مرحلة ما أصل إلى ما يشبه فترة ما قبل النوم، أدع نفسي نهبا للتداعي، لكن سدى تذهب كل محاولتي..أمد يدي نحو كتاب يتمدد بجانبي.. أتصفح بعض أوراقه..بيد أني سرعان ما أصاب بالملل، أضعه جانبا..أتناول جريدة، ألقي نظرة على عناوينها بسرعة...اقرأ بعضها...مشاكل سياسية واجتماعية بلا حصر. لا يحرك ذلك في نفسي ساكنا...منذ مدة اتخذت مسافة شاسعة بيني وبين السياسة..لا شيء فيها أضحى يغريني ..كل الأحداث متوقعة، "ولا جديد تحت الشمس"..ابدا لا يمكن للمرء أن يطمع في مجرد تغيير بسيط يبعث الحيوية فيما نعيشه في هذا البلد ، أو يحيي الأمل في النفوس، لذا أتجاهل كل شيء، وأراهن في أعماقي على حركة التاريخ، التي وإن كانت بطيئة فإنها لابد فاعلة فعلها مع الزمن...زمن ربما لن أكون شاهدا عليه..
وأنا هائم في عالمي الصغير الضيق هذا، رن هاتفي ..بيد غير مكترثة مددت يدي نحوه، ضغطت على الزر، فإذا بصوت لم أعتد سماعه يصلني، يبدو أنه صوت شاب متحمس وحيوي:
-آلو "أستاذ يحيى البيضاوي؟
-آلو..نعم أنا هو.. من المتحدث؟
-عفوا أستاذ . أنا أحد المشرفين على لقاء ثقافي بمدينة فاس، حول الرواية المغربية. ويشرفني أن أوجه إليك الدعوة للحضور معنا في هذا اللقاء.
خفق قلبي بشدة. واكتسح حلقي جفاف مباغت. مددت يدى نحو كوب ماء أمامي.ارتشفت جرعة ثم أجبت:
-مرحبا. يسعدني تلبية دعوتكم. ما محور اللقاء؟
-الرواية المغربية بين الأمس واليوم.
تداعى في خاطري بسرعة أن المنظمين وضعوني في خانة الأمس. هذا يعني أن هناك نية لإيداعي في متحف الأدب بشكل رسمي... تمالكت نفسي.. طردت هواجسي بعيدا، ثم أردفت قائلا:
-لا مانع لدي . متى سينظم هذا اللقاء؟
-منتصف شهر مارس ..الجو في مدينة فاس يكون رائعا في هذه الفترة..هل أعتبر موافقتكم على الحضور رسمية، أستاذي الكريم؟
-نعم، أجبت، كما قلت لك لا مانع لدي.. ثم تداركت.. يلزمني فقط الاطلاع على البرنامج التفصيلي للقاء.
في نفسي تتنازع كثير من الخواطر..وتاهت نفسي في سبل عدة، وقبل أن يقفل المتصل خط الهاتف، شكرني وأخبرني بأنني سأتوصل بدعوة رسمية على عنواني الذي مكنته منه.
لا أنكر أن هذه المكالمة خلفت في نفسي أثرا عميقا، على الأقل بعثت بعض الأمل في قلبي، فتبينت من خلالها أن تجاهلي لم يصل بعد إلى حد القطيعة.
أن يتذكرني هؤلاء المنظمون للقاء الرواية، يعني أن أثر ما كتبته من روايات والنجاح الذي حظيت به لا يزالان سارين إلى اليوم، وإن بحدة أخف..فكرت أن دعوتي أتت من باب تأثيث فضاء الندوات بديناصورات، توشك على الانقراض، وقد يدخل في باب الشفقة لا أقل ولا أكثر...لكن لا بأس، قلت في نفسي، هذه فرصة لا تعوض، سأستثمرها لصالحي، لأربط التواصل مع المشهد الثقافي من جديد.. يمكن عبر هذا اللقاء الالتقاء بشكل مباشر بالجيل الجديد من الروائيين والنقاد. علمتني التجربة أن مثل هذه اللقاءات تحتفظ دائما بمفاجآت سارة، قد لا تكون في الحسبان، والذكي من يعرف كيف يوظفها لصالحه. سأتملى في سحنات أبناء هذا الجيل الجديد، وأقف على سر السحر الذي يميزهم، فنالوا-بذلك- كل هذه الحظوة من طرف القراء، فأهملت كتاباتنا نحن الذين صنفنا بجرة قلم ضمن الرواية التقليدية... جلت ببصري في المكان من حولي..نوع من الابتهاج يداعب وجداني.. صفحة البحر المتمدد أمامي نحو الأفق البعيد اكتست بزرقة لطيفة، رأيت في الأعلى سربا من النوارس، يحلق في تشكيلات بديعة. بياضه الجميل يسافر بالمرء في عالم خيالي مجنح.. بعضها يجنح عن السرب فجأة، ينزلق في المياه الهادئة، يختفي لحظة، ثم لا يلبث أن يرتفع نحو الأعلى ليلتحق بسربه، وقد غنم سمكة لا يمكن أن أراها من مكاني هذا في المقهى ..نسيم خفيف يتسرب بلطف نحوي، يداعب وجهي فأشعر بالانتعاش..منتشيا أخرجت سيجارة من علبتي..أشعلتها وبلذة لا توازى شرعت أمتص دخانها، ثم أمجه بكثير من الانتشاء.
عدت إلى شقتي ..كان الأمل والحبور يتراقصان في قلبي..بكثير من العشق قصدت مكتبتي، ألقيت نظرة شاملة عليها ..دنوت منها تدريجيا... لامست بأناملي بعض الكتب، قرأت عناوينها وأسماء مؤلفيها..توقفت أصابعي عند كتبي الشخصية، كانت تحتل مكانا متميزا في المكتبة، أخذت بعضها بين يدي، تأملتها بحب، ثم ارتميت على الأريكة .. قلبت الصفحات، توقفت ببصري عند بعض المقاطع.. قرأتها بتأن، وفي قلبي يتبرعم فرح وليد.. أحسست أن جهودي في الكتابة لم تضع سدى، وأن مكانتي في الأدب، أبدا لا يمكن إنكارها.. كنت قد بيتت في نفسي استغلال فرصة الدعوة إلى أبعد مدى..إنها فرصتي للانطلاق من جديد، سأكون كعنقاء تنبعث من رمادها...لن تعوزني الحيلة والذكاء من أجل تحقيق ذلك..فقط أحتاج إلى قليل من الحظ. وهذه الدعوة ستكون بمتابة اللبنة الأولى في بناء حظي الذي أتوقعه شامخا..
في الماضي أبدا لم أومن بجدوى الحظ. كنت دائما أعتقد أن المرء ملزم ببناء حظه بنفسه، فالأقدار لا يعول عليها في مثل هذا الأمر، إنها لا تملك القدرة على خدمة الآخرين ...هي طوع إرادتنا، ونحن من يوجهها .. آمنت دائما أن الضعاف فقط من يتمسكون بالقدر ويراهنون عليه..لكن الحياة تلعب معي لعبتها. وهأنذا أتمسك بالوهم، وكأنني أنخرط في رهان قدري، اخترت صاغرا أن أستسلم له، رغم أن لي إيمانا عميقا بأن ذلك لا يفيد فتيلا..
وضعت الكتب أمامي. تمددت على الأريكة وكأنني أسبح في عالم آخر، لا علاقة له بالعالم الذي يضمني بين أحضانه. أشعلت لفافة وطفقت أنفث دخانها، وأتتبعه بعينين حالمتين .. حين شعرت أن الغرفة عبقت برائحة التبغ، عمدت إلى النافذة، فتحتها، فتسرب هواء منعش ونظيف إلى الشقة، فطرد بعض الدخان نحو الخارج.
توجهت نحو المطبخ، أعددت لنفسي كأس شاي سريع ثم عدت إلى مكاني.. بلذة أخذت أرتشف الشاي، وأحملق في الفضاء من حولي...تملكتني إلى حين لوحة زيتية، منذ مدة طويلة وهي تستريح في مكانها على الجدار...لكن تحت تأثير حالتي الجديدة، بدت لي أكثر إشراقا وعمقا...تلقفت تفاصيلها بتركيز ، ثم تداعيت مع سمفونية ألوانها، حتى أحسست بحالة من الإشباع لم أظفر بمثلها منذ زمن بعيد.
توصلت بالدعوة بعد أيام.. تملكني الفرح من جديد، وكأنها أول دعوة أتوصل بها في حياتي، فبعد هذه السنوات من التجاهل، كان لوقعها أثر كبير على نفسيتي.. قرأت بكثير من التمعن تفاصيل البرنامج، تأملت الأسماء التي لا أعرف أكثرها. ركزت بصري على أسماء الروائيين من جيلي. ابتسامة ماكرة تسللت نحو شفتي ، حين التقى بصري باسم روائي فاشل من جيلي "أحمد رشاد".. كان الكتاب يتندرون بطريقته في الكتابة، ويشيعون حولها كثيرا من النكت.. كان المسكين يعلم بذلك فلم يقو يوما على التواجد معنا في مكان واحد...لكن ما لبثت هذه الابتسامة أن اختفت ليحل محلها حزن عميق، أطاح بفرحتي إلى حين، حدث ذلك حين فكرت أنني وضعت مع "أحمد رشاد" في نفس الخانة. في نهاية الأمر نحن متشابهان في المصير. ماذا يعني الماضي؟ ربما لا أحد يتذكره.. من يعرف أن هذا الروائي الفاشل الذي كان يحشو كتاباته بالصدف اللعينة، تذكر المرء بالأفلام المصرية الرومانسية، التي ما إن تبدأ أحداثها حتى يمكن لطفل صغير أن يتوقع نهايتها، وإذا صادف البطل أو أية شخصية أخرى مأزقا، فالصدفة كفيلة بنجدته، حتى وإن كانت صدفة رديئة لا يستسيغها العقل ولا منطق الواقع... هذا الروائي الفاشل كان يطمع لو يظفر مني بكلمة واحدة، وهأنذا أصنف معه ضمن "رواية الأمس" يا لسخرية القدر.. سرعان ما تغلبت على حالتي الكئيبة هاته واقتلعت الحزن من جذوره.. بيني وبين نفسي حسمت الأمر .. لا يمكنني أن أضيع فرصة الفرح والانتشاء بسبب أمور تافهة... حين سأحضر اللقاء سأتجنبه وبالتأكيد ستكون مكانتي لدى الجيل الجديد من النقاد والروائيين أفضل من مكانته، فهو لم يستطع فرض نفسه في مرحلتنا، التي كانت فيها الرواية في بداياتها الجنينية الأولى، فكيف له أن يخلف أثرا في هذا الجيل الذي يبدو أنه قد شق لنفسه طريقا مختلفا، وجريئا، لا قبل لأحد من جيلنا بمجاراته فيه.
كان الصباح جميلا، وهادئا، ينبئ بجو ربيعي بهيج.. توجهت نحو محطة القطار" الوازيس" التي لا تبعد عن مقر سكناي إلا بمسافة قليلة.. أوقفت سيارة أجرة، وأعلمت صاحبها بوجهتي.. قطعت السيارة شوارع قليلة الاكتظاظ فوصلت وجهتها في أقل من عشر دقائق.. ناولت السائق أجرته، ثم توجهت نحو بوابة المحطة الزجاجية.. عدد من المسافرين يروحون ويجيئون.. اقتنيت تذكرة وخرجت من الباب الخلفي، بعد أن تطلعت إلى لوحة إعلانات وصول القطارات ومغادرتها للمحطة، توجهت نحو السكة الحديدية ... الناس يتجمهرون في المكان منتظرين وصول القطارات، وبين فترة وأخرى يرتفع صوت أنثوي عبر مكبر الصوت، يعلن بلغة عربية جميلة وفرنسية أنيقة، أن القطار القادم من مدينة "كذا" والمتوجه إلى مدينة "كذا" سيتأخر عن موعد وصوله بعشر دقائق أو أكثر ..اقتعدت كرسيا خشبيا، ووضعت جانبي حقيبتي الصغيرة.. أنتظر مستسلما، لا يهمني في شيء تأخر القطار أو تقدمه عن موعده المحدد ..اللقاء لن يفتتح إلا في صباح الغد، وقد اتخذت احتياطاتي لأستمتع بوقتي بعيدا عن ضغط المواعيد.
وصل القطار بعد تأخر طفيف، ولجته واتخذت مكاني في مقطورة تتوسط القطار تقريبا.. برفقتي بعض المسافرين، كلهم من الشباب تقريبا.. أثار انتباهي وجود فتاة سوداء تجلس منفردة في الزاوية، وكأنها تحتمي من خطر وشيك الوقوع.. رتبت أموري في المقطورة.. وضعت الحقيبة في الرف العلوي، ثم جلست.. كانت الفتاة تجلس في الكرسي المقابل لي.. تأملتها بعمق سحنتها تدل على أنها قادمة إلى المغرب من إحدى الدول الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى .. أعرف أن أعدادا متزايدة من الأفارقة يقصدون المغرب في المدة الأخيرة، إما طلبا للدراسة أو معبرا نحو" الفردوس الأوربي".. لاحظت الفتاة اهتمامي بها، فرمقتني بنظرة خاطفة، ثم ما لبثت أن تقوقعت على نفسها.. في المقصورة فتاة جميلة، مزهوة بنفسها، ترتدي ملابس عصرية أنيقة، تسمح لسرتها كي تطل على استحياء. تظهر وتختفي حسب تحركات الفتاة وطريقة جلستها.. كانت الفتاة تنظر إلى الفتاة الأفريقية بين الفينة والأخرى، في نظرتها كثير من الاحتقار للفتاة، وكأنها كائن مسخ يوجد بيننا.
لاحظت ذلك، فشجعني على إعادة الاعتبار للفتاة الإفريقية من خلال اهتمامي بها، بيتت النية بأن أتحدث معها. لكنني لم أكن متعجلا.. تركت الأمور تنساب بعفوية حتى لا أبدو تافها، ومتسرعا، خاصة وأن سني كان يلجمني من الانسياق وراء رغباتي.. أخذت الفتاة الإفريقية كيسا صغيرا من حقيبتها وأخرجت لمجة، وبدأت في تناولها.. تحينت الفرصة فخاطبتها قائلا:
- بالصحة.
نظرت إلي الفتاة مندهشة، لقد بدا أنها لم تفهم قصدي، فاستدركت باللغة الفرنسية:
- Bon appetit .
- شكرا سيدي، أجابت وابتسامة جميلة تزين وجهها.
كانت الفتاة تتناول وجبتها بكثير من الأناقة، تمد اللمجة نحو فمها.. تقضم قضمة صغيرة، تلوكها بتأن.. تخطف نظرة نحوي، ثم تسرح ببصرها عبر نافذة المقطورة نحو الخضرة المتمددة على مدى البصر.. الفتاة الأخرى التي كانت ترافقنا في المقطورة، تسترق النظر إليها بين لحظة وأخرى، وفي عينيها نظرة غير ودية. فيما كان الشاب الذي يقاسمنا نفس المقطورة يغوص في جريدة بكثير من التركيز المصطنع. ركزت بصري عليه، فبدا لي مهتما بالفتاة المزهوة بنفسها، وإن كان يتحرج من إظهار ذلك.. اختلست نظرات متفحصة نحو الفتاة الإفريقية .. كانت جلدتها لامعة، وعيناها جميلتين، فيما شعرها مشكل بضفائر صغيرة ومتشابكة .كان لها سحر أميرة إفريقية، قد انبثقت فجأة من إحدى الأساطير القديمة .. للحظة تخيلتها ترتدي ملابس محلية متعددة الألوان، فاقعة وزاهية، يكلل رأسها تاج ذهبي لامع، وهي تمتطي صهوة فيل ضخم يجتاح الأدغال بثقة وثبات، ومن حولها يدق الأهالي على الدفوف، ويرددون أهازيج إفريقية مبهجة.. بدا لي أن الفتاة فطنت إلى اهتمامي المفرط بها، فرمقتني بعينين باسمتين، وهي لا تزال منهمكة في تناول وجبة طعامها الخفيفة.. حين اكتفت من الطعام، أخرجت من حقيبتها منديلا صغيرا . مسحت يديها وفمها، ثم تناولت قنينة ماء، وعبت بعض الجرعات، بعد ذلك أرجعتها بهدوء وإتقان إلى حقيبتها.. كان في حركاتها شيء ما تملك علي لبي، همت من جديد في خيالاتي، محاولا أن أتصور الموكب الإفريقي البهيج، وهو يتقدم في طريقه، محتفيا بالأميرة الصغيرة..
دخل مراقب التذاكر إلى المقصورة أخرج الجميع تذاكره ومدها إليه، قام الرجل بعمله الروتيني ثم انسحب. جاء من بعده بائع المشروبات والمأكولات الخفيفة يجر عربته الصغيرة .. اقتنت منه الفتاة المزهوة بنفسها كيسا يحتوي على لمجة خفيفة، التهمتها بسرعة ،و حين أجهزت على طعامها، مسحت يديها بالكيس الورقي، وأمام استغرابنا رمت الكيس دون خجل على أرضية المقطورة .. تبادلت نظرة معبرة مع الفتاة الإفريقية، ثم انحنيت والتقطت الكيس من الأرضية، حدجتني الفتاة بنظرة عدوانية، ثم عمدت إلى حقيبتها،أخذتها وانصرفت من المقطورة .
نظرت من جديد إلى الفتاة الإفريقية، وسرعان ما امتلكت الشجاعة الكافية لمخاطبتها:
- أنت طالبة ؟
افترت شفتاها عن ابتسامة لامعة، أظهرت بياض أسنانها الأخاذ، ثم أجابت:
-نعم.
ودون أن أدع جدار الصمت ينتصب بيننا سألتها:
- في أي تخصص تدرسين؟
-أنا طالبة في الاقتصاد؟
-أين ؟
- في مدينة سطات.
- ولم مدينة سطات؟
بذكاء أجابت الفتاة :
- بالطبع أنت تفكر في الدار البيضاء أو الرباط.. الحياة في مدينة سطات أكثر بساطة أو في متناول طالبة مهاجرة مثلي.. أما في الدار والبيضاء أو الرباط، فالحياة صعبة.. الغلاء فاحش في المدينتين.
بدا لي أن ما تلفظت به الفتاة منطقيا، خاصة وأنني أعرف مدى الضنك والشدة اللتين يعاني منهما الناس في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء، غلاء مستعر في كراء الشقق ومحنة في وسائل النقل.. استهواني حديث الفتاة الشيق، بمعرفة المزيد، فسألتها:
- من أيد بلد إفريقي أنت؟
- من الكاميرون، ردت وعلى محياها مسحة غامضة، لم أتبين معناها، ربما ظنت أنني لا أملك فكرة واضحة عن بلدها.
بحماس أردفت قائلا:
- بلد الملوك.
ابتسامة رحبة غزت شفتيها، و كأن إجابتي دغدغت عواطفها.. حركت رأسها يمينا وشمالا، ثم همهمت:
- أوه.. من يصدق ذلك؟
تخلصت الفتاة من تحفظها تدريجيا، فرنت إلي بعينين جذلتين، وكأنها بذلك تشجعني على المزيد من الحديث معها..
القطار يتوقف في محطات عدة، وفي كل محطة يرتفع في الأجواء صوت أنثوي جميل يخبر المسافرين باسم المحطة التي توقف فيها القطار.. تلفظ المقطورات أجسادا بشرية، وتبتلع أخرى، ونحن في أماكننا لا نكاد نغادرها إلا لحاجات قصوى.. أمامي مسافة طويلة قد تلتهم من الوقت ساعات عدة.. في الرباط غادرنا الفتى الذي كان بين الفترة والأخرى يغوص في أسطر جريدته، والتحق بنا مسافرون آخرون.. حين تحرك القطار من جديد، وجدنا أنفسنا نتقهقر تدريجيا نحو وضعنا السابق، ابتسمت للفتاة الإفريقية، ثم سألتها:
- أين وجهتك؟
- فاس، أجابت.
حينما قلت لها مبتهجا:
- إنها نفس وجهتي ما الذي يذهب بك إلى فاس؟
- هناك مهرجان للفلكلور الإفريقي، وسأمثل بلدي فيه.
تأملتها بنظرة خاطفة، ثم قلت لها معقبا:
- إذن أنت فنانة كذلك؟
باسمة أجابت:
- لا أبدا.. فقط يمكنني أن أشارك في بعض الرقصات البسيطة، وقد تمت دعوتي من أجل ذلك.. ربما تدري كيف تتم الأمور.. السفارة لا ترغب في تحمل نفقات سفر وإقامة فرقة محترفة يمكن استقدامها من البلد، فتكتفي بجمع بعض الطلبة الذين يمكنهم ملء الفراغ.
- هكذا إذن، أجبت.
وكرد فعل مباشر لأسئلتي الكثيرة التي أمطرت بها الفتاة تباعا. سألتني قائلة:
- وأنت ما الغرض من سفرك إلى فاس؟
ترددت لحظة ثم أجبت:
-هناك ندوة ما سأشارك فيها.
ارتسمت علامات الاستفهام على محيا الفتاة.. لكنها لم تجد الشجاعة الكافية لاستيضاح الأمر.. كان بعض الخجل لا يزال يحكم قبضته عليها.. امتد بعض الصمت بيننا لمدة قصيرة، ثم سألتها:
-كيف تجري أمورك في المغرب؟
فكرت لحظة ثم أجابت :
- لا بأس كل شيء على ما يرام.
لم يقنعني جوابها العام، فتداركت سائلا.
- هل تعانين من صعوبات ما في التأقلم مع المغاربة؟
- لا أبدا.. هناك بالطبع صعوبات بسيطة وعادية، يوجد مثلها في أي مكان من العالم.. المهاجر يبقى مهاجرا حتى وإن حلت كل مشاكله.
حتى وإن كانت إجابتها منطقية فإنها تحتوي على كثير من الدبلوماسية والمجاملة. إذ أعرف حق المعرفة ما يعانيه الأفارقة في المغرب من صعوبات.. حاولت أن لا أستعجل الأمر.. كنت معنيا بأن أعرف وجهة نظرها في الأمر، خاصة انطباعاتها حول المغرب والمغاربة، لذا تجملت بالصبر حتى تطمئن الفتاة إلي، وتحدثني بدون تحفظ.. ركزت بصري على القرطين الجميلين، اللذين يزينان أذنيها..كانا يتمددان نحو الأسفل بانسياب ناعم...لونهما الفضي أضفى رونقا خاصا عليهما.. جيدها طويل ونحيف، فبدا وجهها كلوحة انطباعية جميلة.. سافرت بي هذه اللوحة الحية نحو أعماق إفريقيا..استحضرت شلالات فيكتوريا الهادرة، وتنقلت في البراري الشاسعة، وتابعت بعشق الحيوانات البرية الهائمة على وجوهها في رحاب الأرض السوداء..فجأة انبثقت في ذهني من حيث لا أدري معاناة إفريقيا الطويلة، بطول تاريخها الحديث.. فظاعات ارتكبتها القوى الاستعمارية في إفريقيا الوسطى، وجنوب إفريقيا، والقرن الإفريقي، و بلاد الساحل، وشمال إفريقيا.. تداعي في خاطري الاستغلال الفاحش لثرواتها الطبيعية واستنزاف موادها الأولية، ثم لعلع وسط كل ذلك تاريخ الرق، بقبحه وسماجته. تخيلت فتيانا أفارقة يختطفون من قبائلهم الهادئة الجميلة، ويشحنون عنوة وقصرا نحو أمريكا لاستعبادهم في أراضي البيض و ضيعاتهم.. وبعد أن انسحب الاستعمار كان قد ترك خلفه وضعا مأساويا لا يستقيم حاله. أحيى النعرات الإثنية والدينية، وقسم بلدانا وأنشأ دولا، دون مراعاة للامتداد البشري والثقافي والإثني، فضمن بذلك وضعا هشا ومضطربا، يسمح للدول العظمى بالتدخل أنى وأينما شاءت.. بَلاوِ بلا حصر لا تزال إفريقيا تعاني من ويلاتها إلى اليوم.. حروب متتالية واستقرار سياسي واجتماعي مفتقد، ومجاعات أضحت علامة مميزة عالميا لهذه القارة الجريحة.
التزمت الفتاة الصمت، وكأنها تسترجع في دواخلها بعض ما فاهت به .. نظرت إليها نظرة تشجعني على المزيد من الحديث، فسألتها قائلا:
-ترى ما الذي أثار انتباهك أكثر في المغرب..
فكرت الفتاة للحظات وكأنها تبحث عن كلمات مناسبة تفي بالغرض، ثم أجابت:
- هل تقصد من الناحية الإيجابية أم الناحية السلبية؟
استدركت قائلا:
-أقصدهما معا، حتى تكتمل الصورة.
اعتدلت الفتاة في جلستها، ثم قالت:
- سأبدأ بالجانب الإيجابي.. لقد زرت، قبل المغرب، بلدانا إفريقية عدة. وقد أثارني عند المقارنة أن المغرب قطع أشواطا لا باس بها في مجال البنية التحتية، هناك سكك حديدية تربط بين المدن الكبرى على الأقل، وهي جيدة على العموم، ثم الطرق السيارة التي لا تكاد دولة إفريقية تتوفر على مثلها، إذا استثنينا بعض الدول كجنوب إفريقيا ومصر مثلا، وموانئ كبيرة وجامعات في أغلب المدن المغربية. وهذا بالضبط ما أفتقده شخصيا في بلدي.
-قاطعتها قائلا:
- كان من الممكن أن تكون الأمور في المغرب أفضل، لقد ضيعنا فرصا ثمينة، فوتت علينا أن نكون في وضع أفضل بكثير.
أجابت بحماس:
- طبعا طبعا. المرء دائما يطمح إلى الأفضل، لكن ثق بي، فما تتوفرون عليه يلزمنا نحن مثلا في بلدنا عقودا للحصول على مثله..ثم يثيرني حب المغاربة لبلدهم، أقصد بالخصوص المهاجرين إلى أوربا، إنهم يجلبون ثروة حقيقية من العملات الصعبة إلى بلدهم .
صمتت للحظات، وكأنها تفكر في الاستطراد في ذكر الإيجابيات، لكنني كنت معنيا بمعرفة الجانب الآخر من الصورة، أقصد الجانب السلبي، فتدخلت قائلا:
-والجانب السلبي؟
ترددت لحظة، ثم أجابت:
-للأسف، في أذهان المغاربة يعشش كثير من الأحكام المسبقة.
أحسست أنها لامست بكلامها هذا نقطة حساسة، بدا ذلك من خلال الزفرة الحارة التي صاحبت كلامها، فعقبت مستفسرا:
-ماذا تقصدين بكلامك هذا؟ وضحي رجاء.
-الكثير من المغاربة ينظرون إلينا نظرة دونية وغير متفهمة.. ربما تكون قد انتبهت إلى الفتاة التي كانت ترافقنا في المقطورة .. كانت ترمقني بنظرة محتقرة، آلمتني كثيرا، فرغم أنها لا تعرفني ولم تتحدث إلي، إلا أنها كرهتني منذ التقائي بها.. يكفي أنني سوداء لأكون-في نظرها-سيئة وغير ذات قيمة.
ابتسمت الفتاة ابتسامة شاحبة. وكأنها تغالب المرارة التي تشعر بها، ثم قالت:
- للأسف لا يشاركك أبناء بلدك نفس انطباعاتك عن الأفارقة.. حينما أكون مارة في الشارع، تصلني باستمرار كلمات، أفهم أنها شتائم، لقد حفظتها لكثرة ما ترددت على مسمعي من قبيل" ضراوية" عزية" .. لكنني أتجاهلها، لقد عودت نفسي على ذلك.. لابد من التحمل للاستمرار في هذا البلد.
حين وصل الحديث إلى هذه النقطة الحرجة، كنت راغبا في تغيير وجهة الحديث،
فسألتها:
- ماذا عن بلدك.. هل من فكرة واضحة تتفضلين بها؟
بعسر تخلصت الفتاة من مسحة الحزن التي ارتسمت على وجهها ثم أجابت:
- الحمد لله.. نحن الآن ننعم بالاستقرار، وهذا جيد. أما الأمور الأخرى فمغلوب عليها.
- وكيف حال الناس هناك؟
- إنهم مرحون ومتسامحون. لدينا الكثير من الإثنيات والأديان. لكنها متعايشة بشكل جيد. أما على المستوى الجغرافي، فالأرض متنوعة التضاريس، و تمتاز بغطاء بناتي كثيف ومتنوع.
- وحال الثقافة؟
- بالطبع لدينا شعراء وكتاب، وهم في أغلبهم يستلهمون التراث الشعبي المحلي، والطبيعة بتنوعها وجمالها حاضرة بقوة في إنتاجاتهم الأدبية.. حقيقة لدينا بلد جميل ولا يمكن أن لا يؤثر على الأدباء.
- لا أشك في ذلك.. إفريقيا زاخرة بتنوع طبيعي وثقافي لا مثيل له. قلت ذلك، ثم عرجت على سؤال يهمني كثيرا:
- كيف تنظرين إلى الأفارقة الذين يجوبون الشوارع والمدن المغربية الكبرى يستجدون الصدقات؟
ارتسم الحزن على ملامح وجهها، أبعدت نظرها عني للحظة، ثم رمقتني بنظرة خاطفة وقالت:
- إنه وضع معقد. الهجرة نحو أوربا تهمين على عقول الناس. وهذا من حقهم، إنهم يتوقون إلى ظروف عيش أفضل، أو كسب مزيد من المال ليعودوا به إلى بلدانهم، والمغرب بحكم قربه من أوربا أضحى وجهة مفضلة للأفارقة الحالمين بالهجرة، لكن للأسف الدول والمنظمات الدولية لا تحرك ساكنا لحماية هؤلاء الشباب. إنها تتركهم يواجهون مصيرهم القاتم.. حين أرى إفريقيا أو إفريقية في مثل هذا الوضع المشين، أتألم وتتمزق نياط قلبي من الأسى. لكن لا حيلة لدي.. الوضع معقد، يتداخل فيه الاجتماعي بالسياسي.. وأوربا تتحمل كثيرا من مسؤولية هذه المعضلة، لقد سرقت إفريقيا ومزقتها، ثم رحلت، بعد أن ضمنت أنها ستظل تابعة لها اقتصاديا وسياسيا، فقط كنت أتمنى أن لا يلعب المغرب – باعتباره بلدا إفريقيا -دور دركي الحدود لأوربا.
القطار ينهب الطريق، ونحن مستغرقان في الحديث، أزيزه الرتيب أضحى جزءا من عالمنا المتحرك هذا.. وصلنا إلى مدينة مكناس، فاستعددنا لوصول وشيك. طفقت أستعد لملاقاة مدينة فاس بعد غيبة طويلة.. هذه المدينة العابقة بأريج التاريخ وعتاقته .. التفتت نحو الفتاة الإفريقية فإذا بها في مثل وضعي، وقد بدا أنها تستعد لمغادرة القطار بعد وقت قريب، وما زاد اقتناعي بذلك أنها سألتني:
- إذن نحن على وشك الوصول؟
- نعم، لم يبق سوى وقت قصير.
وبلهجة ودية وطافحة بالبشر قالت:
- أتمنى لك التوفيق في ندوتك.
- أنا كذلك أتمنى أن يحالفك النجاح في مهرجانك.. استمتعي بوقتك كثيرا.
- شكرا لك سيدي.. إنك إنسان طيب. لقد سعدت بمرافقتك في سفري هذا.
- العفو.. أنا من سعد بمعرفتك.. أتمنى أن تتاح لي فرصة أخرى للالتقاء بك.
- بالتأكيد سنلتقي. خذ رقم هاتفي.
- تبادلنا أرقام الهواتف، وفي تلك اللحظة المتأخرة من السفر، عرفت اسمها، إنه "كريستينا" .. بعد ذلك تكور كل منا في مكانه منتظرا لحظة الوصول ، التي أضحت وشيكة..
فاس كما عهدتها تقدم نفسها للزائر دون تحفظ، ولا تمنع.. بياض جدران بيوتها الصارخ يعشي البصر. لذا من الصعب على المرء أن يتجول في أحيائها خلال الظهيرة.. المساء دوما موعد جميل وفاتن مع فاس .. كان لي توق دائم نحو هذه المدينة وخاصة المدينة القديمة. أبدا لا يمكن أن أزور فاس دون أن تطأ قدماي" فاس البالي" تلك المدينة التاريخية التي تجر وراءها تاريخا موغلا في القدم. يذكر بأولئك الأوائل الذين قدموا من الشرق واختاروا هذا المكان دون غيره لوضع الحجر الأساس لهذه المدينة .. أشرت إلى سيارة أجرة بالوقوف، وطلبت من سائقها أن ينقلني إلى التلة المرتفعة التي تطل على فاس، في الطريق المتوجه نحو منطقة" سيدي حرازم" تملكني مشهد هذه التلة منذ زمن قديم.. وقفت هناك، وإذا بالمدينة تبدو غارقة في بياضها، وديعة ومسالمة.. تحرسها التلال من كل جانب، وكأنها تحتمي من أعداء، قد يهاجموننا بغتة.. من ذلك المكان أشرفت على المدينة، فتملكني إحساس جميل نحو المدينة، كانت تقدم نفسها لي كلوحة بديعة.. أشعلت لفافة، ودخنتها في صحة المدينة.. حين أخذت كفايتي من الانتشاء انحدرت نحو الأسفل في اتجاه المدينة القديمة، وما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسي وجها لوجه مع المدينة العتيقة، بتهيب ولجت أحد أبوابها، فأحاط بي عبق العتاقة من كل جانب... الجدران قد كساها البلى بثوبه الأزلي. والدكاكين متراصة في غير ملل، كل دكان يعرض أنواعا من البضائع، والأزقة ممتلئة عن آخرها بالمارة والزبناء.. بين لحظة وأخرى أصادف فوجا من السياح يعبر زقاقا، وعلى وجهوهم دهشة من يسافر في الزمن، ووجد نفسه- فجأة- في فترة من التاريخ موغلة في القدم، يتملون المعروضات، والباعة يحرضونهم بوسائل شتى من أجل زيارة دكاكينهم، فيما أطفال صغار يقتفون خطواتهم يستجدون منه دراهم منفلتة. تعلق بصري بمعروضات الدكاكين.. ملابس تقليدية، طرابيش حمراء.. أوان صفراء، وفضية.. أثاث تقليدي، توابل وعطور.. زرابي من شتى الأصناف، تغري الزائر بألوانها الزاهية ولمسة صانعيها الفطرية.. ملابس وحقائب جلدية متعددة الألوان، أغلبها اكتسي باللون الأسود.. كانت الأقواس منتشرة في كل مكان، تملكت لبي بسحرها الذي لا يقاوم. أتملى فيها بعشق، وأستحضر من خلالها أولئك البناة الذين تخرجوا من مدرسة الحياة، فأبدعوا وأجادوا في البناء. الجدران تزهو بفسيفسائها المتناسقة البديعة، فتضفي على المكان روعة، يستحقها ..
الناس في المدينة القديمة ضاجون بالحركة، لكنتهم الفاسية تميزهم عن غيرهم ، يتحدثون فيما بينهم بأصوات مرتفعة.. أثارتني نظافة ملابسهم وجمالها.. أكثرهم يحرص على ارتداء الملابس التقليدية الزاهية، من النعل الأصفر" البلغة" إلى الطربوش الأحمر، مرورا بالجلباب الذي يبرعون في انتقاء ألوانه وأشكاله.
بين فترة وأخرى أرى بغلا يحمل على ظهره بضائع تختلف من حمولة إلى أخرى، ومن ورائه صاحبه، يقوده حاملا في يده عصاه، ويدعو الناس لإفساح المجال لبغله كي يستمر في طريقه، بعبارة متكررة "بالك بالك".
وصلت إلى مكان في المدينة، فزكمت أنفي رائحة الجلد النفاذة، فإذا بي أمام منحدر، في أسفله أحواض صغيرة مخصصة لغسل الجلود وتنظيفها، في كل حوض رجل أو رجلان منهمكان في عملهما، يدلكان الجلود بمادة لم أتبين كنهها.. حركة دائبة لا تتوقف. أثار انتباهي في هذا الورش النشط ملابس العمال








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس