الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لليسار .. در!

إكرام يوسف

2012 / 5 / 14
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


مع سبعينيات القرن الماضي، وبينما كان السادات يبشر المصريين بعصر الرخاء، خايلت أحلام الثراء الكثيرين. وفتح ما عرف بسياسات الانفتاح الطريق أمام ظهور أنشطة رأسمالية طفيلية. و تراجع الإقبال على الاستثمار في الصناعات الحقيقية أو الثقيلة مع انتشار صناعات استهلاكية حققت الثراء السريع لأصحابها، وغيرت الأذواق ورفعت التطلعات الاستهلاكية لدى الجمهور. وتغيرت التركيبة الطبقية في المجتمع، وتعاظمت ثروات جاءت إما من أنشطة التهريب أو تجارة العملة أو المخدرات، أو من أنشطة طفيلية. وتراجع دور الدولة عن الرقابة على الاستثمار، وترك الحبل على الغارب لكل من أراد الثراء بتواطؤ المسئولين، فأكل المصريون أجنحة وأوراك الطيور الجارحة على أنها ديوك رومية مستوردة، ولحوم قطط على أنها أرانب، وأطعمة الحيوانات الأليفة المستوردة باعتبارها بلوبيف مستورد، وغيرها! ولم تشأ الدولة أن تنتبه، إلا بعد توزيع معظم الشحنات المستوردة وبعدما استقرت في أمعاء المصريين الفقراء الذين انتعشت تطلعاتهم لتذوق "المستورد" مما يأكله "الخواجات"!
في ذلك الوقت، لم يكن الطامحون للثراء مستعدين بالطبع لسماع أي حديث عن الفقراء وحقوقهم، وضرورة قيام الدولة بدورها في الرعاية الاجتماعية. وكان أي حديث بهذا الشكل يوصف بأنه دعوة للعودة إلى النظام "الشمولي" الهادف إلى توزيع الفقر. وبات كل من يرد على لسانه تعبير "الفقراء" مهددا بتهمة جاهزة، هي "الشيوعية" التي نجحت الأنظمة المستغلة في إقناع البسطاء أنها تعني الكفر والإلحاد، والعياذ بالله!
وبمرور الوقت، يتضح أن أوهام الثراء لم تكن إلا للتغطية على فساد الكبار، ولم يسمح بالثراء ـ النسبي ـ إلا لمن يسيرون في ركابهم من "المحاسيب" أو المتسلقين، أو من يعملون على خدمتهم وييسرون لهم فسادهم، من موظفي الجمارك أو الأجهزة الرقابية أو رجال الشرطة. ومع تعاظم الفساد وتراجع دور الرقابة، استشرت مظاهر السفه الاستهلاكي لدى الكبار. فسمع الناس عن حفلات أفراح خيالية تكفي تكلفتها لإعالة مئات الأسر، وانتشار القصور وأساطيل السيارات الفارهة، مع اتساع الهوة الطبقية وتزايد فقر الفقراء، الذين صار الموت لديهم أكثر راحة من هم البحث عن فرصة علاج ، وأصبح تعليم أبنائهم كالماء والهواء؛ ملوثا وشحيحا! وبات العثور على مأوى يستر الأسرة، من قبيل الخيالات. وكان لابد أن تستشري ظواهر الانحراف مع التطرف، كما كان من الطبيعي أن يتزايد الاستبداد والقمع لصد كل من يعترض أو يشير إلى الخلل. والتهمة جاهزة "أنت شيوعي كافر"!. وصار من يدعون التدين يركزون كثيرا على فضيلة الرضا بالمقسوم والقناعة التي هي كنز لا يفنى، للفقراء فحسب! وصارت الآية الكريمة "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات"، هي المفضلة، يرددها الأثرياء ومدعي التدين في وجه من يعترض، مصرين على تأويلها بما يتفق ومصالحهم. ولم يول أحدهم اهتماما كبيرا لقوله تعالى "يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا"، أو لقول رسوله صلى الله عليه وسلم "الناس سواسية كأسنان المشط"!
ومع تعاظم الفساد المستتر بالاستبداد، تزايدت أعداد القابعين تحت مستوى الفقر بلا أمل في حياة كريمة، كما ذابت الطبقة الوسطى الحاملة لقيم وثقافة المجتمع، وسقط معظم أفرادها في هوة الفقر، وتعالت بالتالي معدلات الانحراف والجريمة، وتزايد السخط الشعبي، فلم يكن هناك بد من ثورة تطيح بنظام الفساد والاستبداد، أول شعاراتها "عيش"! والشعار المؤكد له "عدالة اجتماعية"!
فلم يعد من الكفر الحديث عن الفقراء وحقوقهم، وما يعانونه من ظلم! بل أنه صار حديث معظم الساسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من دون أي تخوف من تهمة الإلحاد.
ويبدو أن الأمر لا يقتصر علينا فحسب. فقد بدأ العالم يدرك أن أحلام الثراء مشروعة ويجب احترامها؛ ولكن لا يصح أن يكون أصحابها هم الأولى بالرعاية والحصول على الامتيازات! وأن الهم الأول لدى غالبية المواطنين، ليس الثراء، وإنما حياة كريمة يتيسر فيها للجميع الحصول على وظيفة مناسبة، وعلاج سليم، وتعليم حقيقي، ومسكن يليق بالبشر!
ويؤكد هذا الكلام ما يحدث حولنا من تغيرات أطاحت فيها الأزمة الاقتصادية بحكومات ورؤساء إحدى عشر دولة أوروبية. فقد لجأت الحكومات اليمينية في هذه الدول إلى الحل الجاهز دائما، وهو تحميل الفقراء أعباء إنقاذ البلاد من أزمات تسبب فيها الأغنياء. فكما لجأت الإدارة الأمريكية إلى أموال دافعي الضرائب لإنقاذ البنوك المتعثرة بسبب سياسات كبار المسئولين الأثرياء، سعت حكومات أوروبا إلى فرض سياسات تقشفية على المواطنين العاديين من أجل إنقاذ البلاد. وفي الوقت الذي لم تتأثر فيه ثروات أغنى أثرياء العالم كما تظهر قائمة مجلة فوربس لأغنى مليارديرات الدنيا، بل أضيف إليهم 128 مليارديرا جديدا، لا تجد الحكومات اليمينية حلا لمشكلة ارتفاع الديون السيادية سوى فرض المزيد من الضغوط على المواطنين وتسريح العاملين وخفض مستويات الرعاية الاجتماعية التي تقدمها الدولة، الأمر الذي تسبب في سخط الملايين. وكان آخر هذه التغييرات فوز الاشتراكي فرانسوا أولاند برئاسة فرنسا، اثر اتجاه ساركوزي للمزيد من سياسات التقشف وتسريح العمال والمساس بالضمان الاجتماعي.
ولا شك أن القرار الأول لأولاند شديد الرمزية، وهو خفض مخصصات رئيس الدولة والوزراء بنسبة 30%! كما تعهد أولاند أيضا بتجميد اسعار الوقود لثلاثة أشهر، وزيادة معونة بدء السنة الدراسية بنسبة 25%، والعودة جزئيا إلى تحسين نظام التقاعد.
وهكذا، يتضح أنه آن الأوان لعودة الأمور إلى نصابها الصحيح؛ فيكون المواطن العادي الأولى بالاهتمام، بعد عقود غازل فيها الساسة رجال الأعمال وبالغوا في تدليلهم، والتفنن في منح الامتيازات للمستثمرين بزعم أنهم يملكون وحدهم مفتاح الحياة الكريمة للمجتمع. ويوما بعد يوم، يتضح للجميع خطأ هذا التصور على إطلاقه؛ فتيسير الاستثمار يجب ألا يعني ضعف الرقابة، وتقديم الإعفاءات الضريبية بلا حساب مع تكبيل المواطن العادي بمختلف أنواع القيود والضرائب. ويوما بعد يوم، تتأكد أهمية اضطلاع الدولة بواجبها في الرعاية الاجتماعية. ويوما بعد يوم، يلجأ أقطاب العالم الرأسمالي لتدابير كان ينظر إليها ذات يوم باعتبارها كفر من عمل الشيطان الاشتراكي! ولا شك أن العالم يتبين كل يوم ضرورة الاهتمام بتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو ما يفرض على قوى اليسار المختلفة واجبات مهمة، من أبرزها إجراء مراجعات تتعلق بإصلاح الخطاب القديم، وإعادة النظر في الأفكار التي لم تتعد تتناسب مع العصر أو ثبت عدم دقتها، مع تجاوز مرحلة تقديس النصوص، إلى تدبر فكرة العدالة الاجتماعية. وتطوير الفكر اليساري بحيث يكون الهدف من التطوير هو تحقيق مصالح الناس، وليس إثبات صحة النظرية أو تحقيق انتصارات أيديولوجية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السنوار ونتنياهو يعيقان سياسات بايدن الخارجية قبيل مناظرة ان


.. خامنئي يضع قيودا على تصريحات مرشحي الرئاسة




.. يقودها سموتريتش.. خطط إسرائيلية للسيطرة الدائمة على الضفة ال


.. قوات الاحتلال تنسحب من حي الجابريات في جنين بعد مواجهات مسلح




.. المدير العام للصحة في محافظة غزة يعلن توقف محطة الأوكسجين ال