الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتهازية والسلطة في العراق ...رجال لكل العصور !

عارف معروف

2012 / 5 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


" رجل لكل العصور " .. كان عنوان المسرحية التي كتبها " روبرت مولت " في اطراء وتخليد " سير توماس مور ".. ذلك القلب الانساني الكبير ورجل الشرف والمباديء حيث سماه بعض معاصريه " صريع المباديء " لما عرفوه عنه ليس كرجل ذكاء وقاّد مفعم بالانسانية حسب بل ولانه شجاع ملتزم بمبادئه حتى الموت . فعدوه راية نراها في كل عصر ومثال يتكرر، على ندرته ، في كل اوان . كذلك اطرى الكثيرون من مفكري الغرب والعالم وادباءه " شكسبير " وسموه كذلك ... "رجل لكل العصور" في معرض الثناء على تجاوز عطاؤه للمألوف وفذاذة شخصيته وثاقب فكره فعظم تاثيره في عصره وتجاوزه الى الانسجام والحيوية في عصور اخرى دليل خلود ما تضمنته اعماله من قيم انسانية خالدة بحيث انها تصلح ، بروحها ، لكل زمان ومكان .وفي تاريخنا ثمة امثلة فذه وساطعة على المبدئية والجود بالنفس والنفيس على مذبحها. وتضحية الامام الحسين ومواجهته للسيف بالدم في سبيل الفكرة والحق والمبدأ ومقتله ومقتل عياله واصحابه تضحية وَسمَتْ قضية المبدأ بالدم واعطت الدرس البليغ على مر الازمنة والاجيال. فكان بحق رجلا لكل العصور . وثمة قوافل ضمت المئات بل الالوف من الاسماء الفذة التي حفل بها تاريخنا القديم والحديث من المضحين اولي الشرف والكرامة سارت على الدرب نفسه وجادت بالارواح هيّنة رخيصة على ذات المذبح .. من كل الوان الطيف العراقي فلايمكن ان نغفل في هذا المجال، كما اشرنا سابقا ، حقيقة ان الشعب العراقي وشبابه ومثقفيه كان الاكثر تضحية من كل شعوب المنطقة ولم يعط شعب من الدم على مذبح الحرية والكرامة مثل ما اعطاه هذا الشعب فكيف يمكن التوفيق اذن بين القول بذلك وبين واقع تنامي الانتهازية والوصوليه الى مستوى وحجم غير مألوف او مسبوق في المنطقة ولم يعرفه بلد او شعب شقيق او مجاور ؟
يقال ان التاريخ غالبا ما " يعيد " نفسه ، ولكن ، مرة كحدث جاد واخرى كظل هازل . مرة كمأساة اصيلة واخرى كملهاة زائفه . لذلك فهو يعيد نفسه لدينا، اليوم ، كمهزلة سوداء فتحفل ازمنتنا المعاصرة بالمئات بل والالوف من " رجال لكل العصور " ولكن بالمعنى "العراقي المعاصر" للكلمة !
انهم رجال مخضرمون، ابدلوا و يبدلون جلودهم وكلماتهم وينزعونها كما تنزع الحية جلدها مع كل عصر جديد للسلطة وبين يدي كل اب جديد للشعب .فتراهم هاشميين في الملكية ..قاسميين في الجمهورية .. بعثيين في السبعينات.. صداميين في الثمانينات ..ديمقراطيين في الالفية الثالثة !
وليس في ذلك، كله ، من بأس، طالما عنى الامر ، اذا افترضنا جدلا ، قناعاتهم وشخوصهم . ولكن ضررهم الوبيل يحصل من الركون اليهم من قبل السلطات والتعويل عليهم من قبل الحاكمين وتوليتهم زمام الامور واعتمادهم لانهم اسلس قيادا واكثر حماسة واقل جدلا واكثر اندفاعا في تنفيذ ما مطلوب دون نقاش او اعتراض من مبدأ او ضمير. ومن عدم مواجهتهم ، اجتماعيا ، بردع من اي نوع حتى ولو كان ردعا معنويا وتحفضا اخلاقيا .والتعامل معهم بتسليم وكأن مسلكهم لا يستوجب الادانه او على الاقل التحرز وقطع الطريق لما ينطوي عليه من تفريط بحقوق ومصائر وتطلعات الشعب .
لذلك.. يتعين علينا ان نعود الى سؤالنا الجوهري وراء هذا المبحث كله : هل هي ، الانتهازية السياسية بهذا الامتداد الاجتماعي الواسع،ظاهرة " عراقية "؟ والى اي مدى ؟ وما هي الاسباب والجذور ان صح انها ظاهرة عراقية... على الاقل من ناحية الكم والسعة وليس الكيف ، الدرجة وليس النوع ؟ هل ترتبط بسمات تسم شخصية العراقي ، او فئات اجتماعية محددة من العراقيين ، ولماذا ؟ هل هي طبع كامن في العراقيين، كما يدعي البعض ، وله امثلته التاريخية الشاخصة حيث طالما اشارت الى ذلك بعض مصادر التاريخ فوصفتهم بانهم اهل شقاق ونفاق وانهم لايرعون عهدا ولا بيعة كما هو شانهم في موقفهم مع الامام الحسين ؟ ولكن كيف نفسر اندفاع الالوف منهم لمواجهة دبابات انقلاب شباط 1963 بصدور عارية واكف خالية الا من العصّي
دون ان يعبأ وا كثيرا بالموت في لحضتها ؟ واذا كانت تلك مجرد ردة فعل عاطفية غوغائية سرعان ما تشتت عند مواجهتها بالسلاح .. فما القول في اندفاع الالوف في مواجهة اكثر النظم قسوة واجراما في انتفاضة 1991وكيف نفسر امتلاء مسالخ الموت والعذاب في مواقف اجهزة الامن الاجرامية وازدحام غرف التعذيب وساحات الاعدام بقوافل ضمت الالوف من الشباب والشابات في مقتبل العمر وميعة الصبا طوال اكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد ؟!

لابد من التسليم طبعا ان الانتهازية والوصولية وتملق ومصانعة السلطة في سبيل تحقيق غاية او مغنم ..ممارسة قديمة قدم الانسانية و يمكن ان نعثر على امثلة ونماذج لها في شتى بقاع المعمورة وفي كل مراحل التاريخ القديم لكنها كانت مقصورة على النخب وفردية ومحدودة كما هو شان القيادة و السياسة والادارة والاهتمام بالشان العام . وثمة قصص وروايات كثيرة في بطون كتب التاريخ والمرويات والماثورات عن هذا الوزير او ذاك المستشار او القائد من قادة الجيش ، تملق الملك او السلطان وصانعه وغرّه باخلاص كاذب تظاهر به وكلام معسول زور له الواقع ليظفر برضاه ومن ثم يتسلق الى هذا الموقع الارقى او ذاك مزيحا وزيرا سبقه او قائدا مقربا جعل موقعه مطمحا له او ربما اطاح بالملك او السلطان نفسه وانتزع منه ملكه وسلطانه . ذلك ان السياسة كانت باستمرار وعلى مر العصور شان من شؤون النخبة والخاصة... ولم تُجر العامة، الجمهور ، المواطنون ، الرعية ، الى هذا المعترك ويصبح لها وزن وتاثير في الشان السياسي الا في العصور الحديثة . ولذلك اسباب كثيرة ، فقبل العصور الحديثة وسيادة الراسمالية كان الناس مرتبطين بالارض معزولين عن بعضهم وهم اتباع لسيدهم الاقطاعي ولم تكن المدن قد اكتضت بالجماهير كما هو شانها في العصر الحديث، كما ان مسالة حقوق الانسان عامة وحقوقه السياسية بخاصة لم تكن امرا مطروحا بعد . هذا في اوروبا التي كانت مركز انطلاق الحداثة .اما في شرقنا العربي والاسلامي فقد كان امر المشاركة السياسية مقصورا على اهل" الحل والعقد" من الزعامات الدينية و القبلية و الوجاهات المدينية ، وكان ولاء غالبية هؤلاء يتبدل تبعا للاعطيات والمصالح والمغانم ولم يكن هذا الامر يعد من الانتهازية بل كان ينتمي الى الدهاء والحصافة وتقدير واتباع المصلحة الشخصية والقبلية الذي لم يكن عليه ،غالبا ، من غبار، ولم يكن لرجال القبائل العاديين او فلاحي القرى او سكان المدن من شأن في السياسة سواءٌ كرأي او مشاركة. بل ولم يكن لديهم ادنى فكرة عن ذلك . وكونه حق من حقوقهم .او واجب يترتب عليهم ذلك انهم كانوا " على دين ملوكهم " بحق وحقيق اي على راي زعاماتهم وبالنسبة للعالم العربي عموما والعراق خصوصا فقد كان عالم الفرد هو فضاء القرية ان كان فلاحا. او فضاء الديرة والقبيلة ان كان من الرعاة . والمدينه بل الحي ان كان من سكان المدن والحواضر.وكان عالم "الكبار" شيئا مختلفا ومستقلا تماما لا يتطلع اليه العامة وما عليهم الا التسليم لمتولي السلطة مهما كان . اذ انه يملك زمام القوة وهي شان ، في الغالب شبه متوارث ، ويقرب من الحق الطبيعي ، لا يتطلع اليه احد من العامة الا استثناءا . . ومن هنا منبع الامثال التي تقول " كلمن ياخذ امي يصير عمي" او" ايد اللي ما تشابكها .. بوسها "او " حشر مع الناس عيد "او " اذا اني مير وانت مير .. منو يسوك الحمير ؟"... وغيرها مما يحمل ذات المعنى ونفس المدلول بتعابير مختلفه ، بل ان الهوان والضعة بلغا حدا ان احد افراد العامة ، كما يورد المرحوم ، علي الوردي ، كان فخورا ايما فخر بأن احد كبار القوم من "الاغوات" نهره وسخر منه قائلا له ، بعد الحاف من جانب الدعّي العامّي في التملق والتودد ، " لك انته شكد جفطه " ..والجفطه لدى البغاده قطعة العصب من اللحم ، الذي لايؤكل ولا يهضم ، فذهب هذا مفاخرا اقرانه ،وهو في غاية السرور، بان الاغا مازحه و"مان عليه" فقال له " جفطه " فذهبت مثلا " ...كايله الاغا جفطه "!! وهذا لايتعارض مع تسلق بعض المغمورين والرعاع الى مراكز الهيمنه والسلطة في ظروف استثنائية، كما قدمنا ، لكن هذا بطبيعة الحال كان الاستثناء لا القاعدة .
كان الحضور الوحيد الذي سجل للعامة ايامذاك هو حضورها كغوغاء او دهماء تمارس اعمال العنف العشوائي والسلب والنهب الذي تتيحه ظروف ثورة او انتفاضة يشعلها الكبار او الامراء المتصارعين على السلطة. وما ان تستقر الامور في يد امير منهم حتى يبايعه الجميع ويهتفون بحماسة " عاش الملك او الامير او الوالي ، و مجريات اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث كما سردها ستيفن لونكريك معتمدا ما اتيح له من مصادر تكرر ذات الحدث عقب كل عدد من السنين كذلك تحفل كتب ورحلات الرحالة الاجانب والباحثين العرب والعراقيين غيره بوقائع مشابهه.
اذن فظاهرة " الانتهازية " كانت موجودة في المجتمعات القديمة مثلما هي موجودة في المجتمعات الحديثة وكذلك يمكن العثور على نماذج لها في الانظمة الديمقراطية كما في الدكتاتوريات الشمولية لكن مبحثنا معني، اساسا ، بشمول وسعة هذه الظاهرة ، اجتماعيا وسياسيا ، لدينا ، وتحولها الى نوع من السلوك العام الذي لايتحرج منه ، كثيرا ، من يمارسه ، فقياسا حتى الى الدول العربية ودول الجوار ليس لهذه الظاهرة من حيث السعة والشمول مثيل لما هي عليه في العراق ، فهل يتعلق الامر بسمة من سمات الشخصية العراقية مثلا ، ومن اين تنبع هذه السمة ، امن عيب في التكوين الذاتي ام خلل في الظروف الموضوعية واذا كان الامر كذلك فلأي مستوى من مستويات الشخصية يمكن رده ، النفسي.. الفكري ..الانفعالي .. وثمة تساؤل اهمّ... من اين تنبع قدرتها ، الانتهازية في مجتمعنا ،على "ابتلاع " القادة والمصلحين او ذوي الشرف والمبدأ او هضمهم وتمثلهم على نحو يمكنها من تغيير وجهتهم واملاء مصالحها وغاياتها عليهم بوعي منهم او دون وعي . ومن الملوم في ذلك... الدولة ام المجتمع ... السلطة ام الشعب ،الحاكمين ام المحكومين وبعد ذلك هل هي سمة لازمة تنبع عن طبع ولايمكن تغييرها ام انها ظاهرة موقته ترتبط بظروف ومسببات معينه ويمكن علاجها والبراءة منها على الصعيد الاجتماعي والفردي .. كيف وباي الوسائل ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - صاحب السلطان
محمد جعفر ( 2012 / 5 / 15 - 20:32 )

امس جان يتحزم وي زلم اصدام زيتوني بدلته وروره ملمع
يفتر علمواضع لاهث ومسعور على حب الرصاص انفطم وترعرع
فز من الحبال وكال افاعي هاي ومهيوب الزلم من يخلع ويشلع
ركض كبل الخلك يم ساحة الفردوس مزين شاربه ومتعولم ومصلع
كال انا مناضل من زمن فرعون ومن عهد التتر متأمرك وافزع
طماطه الانتهازي بكل جدر لاعوب عميل ومزدوج موزون ومشعشع


2 - في الصميم!
عارف معروف ( 2012 / 5 / 15 - 21:34 )
شكرا لمرورك الكريم ،
في الصميم يا اخ محمد هذه الصورة الكاريكتورية ولكن الدقيقة ، يتعين علينا التاسيس لقيم واخلاق انكار واستهجان لهذا السلوك عبر المقالة والقصيدة والتحليل ورغم ان الانتهازية السياسية مرض وبيل يجد مسبباته الجديرة بالاستئصال ضمن واقع اجتماعي يعيد انتاجه باستمرار غير ان جهدنا يبقى مطلوبا وسيكون مثمرا حتى لو نجحنا جزئيا ، وفقط ، في اثارة السخرية من شخوصها وتسليط شيء من الضوء الكاشف على ملامحها الراهنة ، مع الموده.

اخر الافلام

.. رئيس كولومبيا يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ويعتب


.. -أفريكا إنتليجنس-: صفقة مرتقبة تحصل بموجبها إيران على اليورا




.. ما التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة عند استهداف مواقع


.. بمناسبة عيد العمال.. مظاهرات في باريس تندد بما وصفوها حرب ال




.. الدكتور المصري حسام موافي يثير الجدل بقبلة على يد محمد أبو ا