الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من سمح لهم بذلك ؟ !

محمد هالي

2012 / 5 / 15
الادب والفن


انتابني شعور غريب هذه الليلة، أعجبت بالطبيعة لدرجة الجنون، شعور يأمرني بالخروج للتجول في الخلاء، في الحقول وسط الأزهار، و الفراشات، أريد أن أرى الطبيعة عارية خالية من كل أشكال الثقافة، أريد التمتع برونقها، بجمالها، أشجارها، تربتها، إنه حقا جمال يغري السائح، و يدل الفلاح، كما يقال، أريد أن أكون سائحا، لأجسد هذا الإحساس النبيل، شاركت زوجتي بما أفكر فيه، فلم تمانع، بل تحمست للفكرة أكثر، كانت أشعة الشمس الساطعة هي أول من رحب بخروجنا، مبرزة لون الحقول، و المزارع، التي كانت تتراءى لنا من بعيد، لا حدود لها، سوى لون السماء الزرقاء المتخللة بلون بعض السحب البيضاء اللون، قطعنا مسافة طويلة، وسط اللون الطبيعي الأخضر، اجتزنا الدور، و الأزقة، الملوثة بالأوساخ، و الغبار، و الأتربة، شعرت بالفعل بمدى خطورة الإنسان، المدمر لكل ما هو أخضر، فحتى هذه الأمكنة النائية، تتخللها إنسانية الإنسان: فالأكياس البلاستيكية السوداء اللون، تتناثر هنا و هناك، مفسدة هذه الأمكنة الجميلة، كنا نتمشى عبر أمكنة محددة سلفا، تحيط بنا بعض الأشكال النباتية، كالقمح، و الشعير، تتخللها بعض الأعشاب متفتحة الأزهار، بألوان مختلفة.
تملكتني رغبة بأن أتجاوز المألوف، أريد أن أقفز، أجري، أصرخ، أمشي كما أريد، بعيدا عن رقابة الآخرين، تذكرت قولة سارتر الشهيرة: "الآخر هو الجحيم"، كنت أسمع من حين لآخر صوت الضمير، صوت الثقافة:
- لا تكن مجنونا، ...تعامل بنضج... تعقل ... لا تظن أن هذا خلاء، هناك من يراقبنا...
- حسنا، ما سر هذا الجمال؟ ! ألم يكن الجمال نفسه، هو ذلك الإحساس بالمتعة، و اللذة، اتجاه شيء ما؟ ! إني أجد في أفكار طاليس، نوعا من الحقيقة، عندما قال: "بأن أصل الطبيعة ماء"، ليكون بذلك أول فيلسوف، رومانسي،قبل الرومانسية، ربما شعر بنفس الشعور الذي أشعر به، فتصور أن الطبيعة، لا يمكن أن توجد إلا من خلال الطبيعة نفسها، تأملي هذا الجمال الطبيعي المسيج من طرف مالكيه، إني أتخيل بأن يكون الماء، هو سبب هذه الرؤيا، التي نتمتع بها الآن.
- ربما يكون ذلك صحيحا، حاول أن تتمتع معي بهذه المناظر، بعيدا عن الأسئلة المزعجة، كفانا استفسارات، لأنها سترهق أدمغتنا بلا فائدة، نحن خرجنا لنرتاح ، أليس كذلك؟
- لكن التفكير ملازم لنا، مادام التمتع الحقيقي يكمن في الكشف عن حقيقة الأشياء المحيطة بنا، و مساءلتها، و أن جاذبية هذا الجمال تدفع لذلك.
- إنك مجنون حقا. وهي تقترب مني، تتصنع ابتسامة تدعو إلى الصمت، واضعة يدها اليسرى على كتفي الأيمن،كأنها تريد أن تحولني إلى عكازا لها، لأساعدها على المشي، في الوقت الذي بدأت فيه مخيلتي تتيه عبر أسئلة، نتيجة الصمت الذي عم بيننا، كانت مخيلتي تبحث عن السعادة، هل هي توجد في الفطرة ، في الطبيعة، لماذا الإنسان يعمل على إفسادها، و تغيير معالمها الخلابة، هل أنانيته جعلته يفكر فقط في مصلحته الخاصة، دون وضع أي اعتبار لغيره من الكائنات الأخرى؟ من هو أول إنسان فكر في تغيير قوانين الطبيعة؟ إن جان جاك روسو كان محقا، عندما ربط السعادة بالإنسان الطبيعي، رأي يروقني في هذه اللحظة، السعادة تكمن في إنسان الطبيعة، تكمن في الإنسان الذي كان يجعل من الأرض فراشا له، و السماء عطاء له، بقربه ساقية ماء، ينهال منها متى يشاء، دون مشقة، و لا تعب، ألم تكن السعادة هي التمتع بما هو طبيعي، بعيدا عن القيم المتداولة، المليئة بالرياء، و الإبتدال؟ ! لماذا أنا الآن مقيد بحدود اصطنعها هؤلاء القرويين، فكلابهم تنبح كلما اقتربنا من قرية، تنبهنا بوجود أحقية التملك، كما أن بعض القرويين يتبادلون معنا السلام، مادمنا في الحدود المرسومة، أن هذه الأسيجة، وجدت لصدنا، و حرماننا من حقنا في التجول بحرية، إنها تمنع حتى الفئران من الدخول.
لكن الفضاء الواسع، غيب حقا هذه الحدود الوهمية، فلو لم نكن موجودين فيها، لما شعرنا بها إطلاقا، وجودها أشعرنا بأن الطبيعة وضعت لها حدود، و بأننا مقيدين بقوانين صنعها الإنسان، أفكار زوجتي في محلها، يجب علي أن أعدل عن هذه الأسئلة المحيرة،لأنها تشقي الدماغ، لكي لا تنقلب المتعة إلى تأنيب، فتحت فمي محاولا تكسير هذا الصمت، لأتخلص من ضجيجي الداخلي، قائلا:
- تكلمي ، تحدثي معي ، قولي أي شيء.
- ماذا تريد مني أقول، لقد أعجبني الصمت، أكثر من الكلام. إني أفضل الجلوس في أقرب مكان، قبل أن نتعب، حتى نستجمع القوة الكافية للرجوع،
- حسنا علينا القيام بذلك.
كنا بالفعل قد قطعنا أشواطا، كبيرة، في المشي، فبدأنا نحدق في كل الاتجاهات، باحثين عن ظل يقينا حرارة الشمس الربيعية، و في نفس الوقت، يمتاز بموقع جمالي، يغذي الأعين، فاستقر رأينا، على مكان تكسوه ظل شجرة نخلة، عالية، جلسنا بعيدين عنها، نظرا لطول ظلها، أخرجنا قنينة ماء، شربنا، فقلت:
- لي رغبة في قبلة ربيعية، أتسمحين بذلك؟
ترددت في البداية، كأن الفكرة لم تراودها، التفتت يمنة، و يسرة، خوفا من طابو الفلاحين، التفتت بدوري، أقنعتها بتصرفاتي، أني أبادلها نفس الخوف، و نفس الإحساس، ابتسمنا سويا، فقالت:
- حسنا، لكن واحدة فقط.
- تلمست شعرها الطويل، تمددت يدي إلى عنقها، ثم ذراعيها العاريتين، بعدما أزالت عنهما بذلة صوفية، قبلتها، ثم قبلتها، شعرت كأنها زهرة، ضمن بقية الأزهار المتواجدة حولنا، منحتني سائلا لذيذا من شفتيها، كما يفعل النحل مع رحيق الأزهارـ أحسست بذلك الرحيق، يدخل أعماقي، محدثا رعشة قوية، حركت كل كياني، أنستني تلك الأسئلة، المستفزة، التي أرهقت كاهلي طيلة الجولة، إننا شكلنا شكلا طبيعيا، بامتياز، ضمن بقية الأشكال الطبيعية المختلفة، كالطيور، و الفراشات، التي تتلاقح، و تطير من حين لآخر، بالقرب منا.
- ضحكنا لفعلتنا ثم قالت:
- توقف أيها الأحمق، إني أعرفك جيدا، دائما تضعني في هذه المواقف الحرجة، يجب أن نتحكم في تصرفاتنا، إننا في الخلاء، أليس كذلك؟
- ابتسمت، بادلتها نفس الابتسامة، فكرت أن أفسر الاحترام، و الجنس، لكني تغاضيت عن كل هذا، و استلقيت فوق الأعشاب، جاعلا من ظل النخلة، غطاء لي، ألقت هي الأخرى، بثقلها بجانبي، تأملنا، هذا الفضاء الطبيعي .فقلت:
- الحراسة مشددة هنا، من طرف الكلاب المسعورة، ما إن تسمع بخطواتنا حتى تسارع بالنباح، هاو..هاو .. هل هي مؤيدة للملكية الخاصة؟
- لماذا إذن سميت كلاب؟
- اعتقد أنها كذلك، لكن أليست هي الأخرى تعتبر من الحيوانات الأليفة؟
- نعم، لهذا فهي تمارس أعمالها بأحسن ما يرام، تداعب سيدها، و تحرسه، إنها طيبة، خدومة، أكثر من الإنسان نفسه.
- تقوم بكل هذه الأعمال، مقابل فتات خبز يابس، أو قطعة عظم صلد، لا يملك من الدنيا، سوى سلاسل صلبة على عنقه، و تقوم بأدوار خطيرة، قد تهاجم، إذا اقتضى الأمر كذلك.
- إنها حيوانات مدجنة، لا حول، و لا قوة لها، في هذا الوجود، يأمرونها، فتلبي الطلب.
- إنها منعتني من ممارسة حريتي، سأعتبرها حيوانات متوحشة، لا تدرك قيمة الطبيعة، و منافعها، رغم هذه الأخيرة منحتها حق الوجود.
- لأن الكلاب مختلفة، يجب التمعن قبل إصدار مثل هذه الأحكام المسبقة، .
ضحكنا سويا ثم قلت:
- إني أشعر بالجوع، أيوجد ما يؤكل؟
سارعت إلى إخراج قليل من الخبز، محشو بقليل من الجبن، التهمناه في صمت، و نحن ننظر إلى لون السماء، المختلط بلون الأرض الخضراء، تتخللهما لون الشمس، و هي تتوارى محاولة السقوط ، وسط لون السماء،التفت إلى زوجتي، قائلا:
- قضينا وقتا ممتعا، يجب أن نفكر في أمور دنيانا من جديد.
- هيا انهض، قبل أن تضيع دنياك في متاهات هذا الإخضرار.
وقفنا عائدين من حيث أتينا، نفس ألأسئلة، نفس الحراسة الكلبية، و نفس الحدود، و الأسيجة، إنها الطبيعة محاصرة، و تحاصر، أما السؤال الذي ظل يراودني طيلة الطريق، أثقلت به كاهل زوجتي، هو: من سمح لهم بذلك؟
من سمح لهم بذلك؟ ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??


.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا




.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك


.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ




.. أغنية -عبد القادر- بصوت الفنان فضيل في صباح العربية