الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البناء الدّرامي لشخصيّة ( بو حوّام ) للقاصّ زياد علي

محمد عبد الرضا شياع

2012 / 5 / 15
الادب والفن


إذا كانت كتابات المبدع العربي الكبير حنّا مينة تنتزعنا من اليباس وتدلف بنا صوب البحر لنعيش أعياده في صفاء رحيم.. فإنّ زياد علي(1) يرحل بالبحر إلينا، وكأنّه يستدرج ضوء النّهار نحو مخبئه الأليف. إنّها رحلة نحو برزخ يتصالح فيه الصّمت والكلام. ذلك ما نلمسه في قصّة (( البحر لا يفقد الذّاكرة ))(2)، من خلال ( الدّور _ الأدوار ) التي تلعبها شخصيّة بو حوّام عبر خطواته المسافرة نحو التّيه أحياناً، والمعانقة لفجر المستحيل أحياناً أخرى. إنّها شخصيّة لها هندسة العبارة وخطوط البدء والانتهاء في رحلتهما المغايرة لكلّ رحلة. إنّها حقّاً شخصيّة أتقن الكاتب رسم حركاتها، تراقصاتها، صمتها، كلامها. شخصيّة تعثر على جدواها في لا جدوى الآخرين، ونعثر على أهمّيّتها في تفرّدها المحلّق على جناح غمامة منذورة لغسل الأحزان. هذه بعض ملامح شخصيّة بو حوّام التي قال عنها الشّاعر اليمني الدّكتور عبد العزيز المقالح إنّه:(( لم يطّلع على شخصيّة ترقى إلى مستوى حضورها إلاّ شخصيّة زوربا اليوناني التي ابتدعها نيكوس كزانتزاكيس )).(3)
تقيم هذه الشّخصيّة للضّحكات مسكناً في القلوب الكسيرة رغم احتراقها؛
لأنّ بو حوّام ابتسامة مبتلّة بدموع الأسى. لحن جميل وعزف حزين. ظِلّ تطارده الشّمس في كلّ مكان:
(( فعمّي بوحوّام هو الرّجل الرّاقص.. لا يتوقّف عن الرّقص في الهواء ولا عن تحريك يديه في كلّ الاتّجاهات مثل مجاذيف مركب ( قدورة ) بالميناء. على وجهه ابتسامة يصادرها عندما يضحك فقط! فيغمض عينيه وينشدّ الجلد على العظام البارزة ويصعب تحديد ملامحه لحظتها مثل ( فرّوج البحر ) .. كان عمّي بوحوّام يسكن قبواً مظلماً لا تدخله الشّمس، وكانت ضحكته ونكاته تسكن صدور كلّ النّاس في باب البحر )). ( ص ص: 27 – 28 )
حينما نتأمّل هذه الشّخصيّة عبر تراقصاتها نحسّ وكأنّنا عثرنا على وجه الألم، حيث يعتري الجسد الارتعاش وتُختزل المسافة نحو منتهاها، والتي لا يمكن أن يعبَّر عنها إلاّ بوجه متجهّم كوجه عمّي بو حوّام. حقيقة يضيؤها زياد علي بنجومها وبأسمائها التي تتجاوز الصّمت وتفجّر المكبوت:
(( والعجيب أنّ عمّي بوحوّام الذي يكره أيّ نوع من القيود... ملتزم بالقشطة الحمراء التي تقسم وسطه، وكان عندما يفردها ويطوّح بيده في الهواء يبدو كمصارع ثيران إسباني يتحرّك ويقفز دون إذن سابق..)) ( ص ص: 28 – 29 )
رقصات لها انحناءات الموج وتكسّراته التي تخدش وجه الصّخور فيتغيّر صفاء بهائها، ذلك هو عمّي بو حوّام:
(( وفي المرّات التي يخسر فيها لعب الورق يبدو وجهه أصفر مثل فصّ الليمون، وتنتابه حالة ما قبل انهمار الدّمع.. تلك الحالة التي يبدو فيه هذا العالم ابن كلب! وأسوأ من ( سمك البوري ) الذي يأكل الطعم ويقضي حاجته على السّنّارة )). ( ص: 29 )
إنّها الحالة التي تتهاوى فيها الأجساد الخاوية عندما يتعذّر على الأقدام حملها. حالة من التّردّي والانكسار. حالة من التّصدّع الذي ينتاب الجسد إلى حين. ولكن لماذا إلى حين؟ لأنّ:
(( رجلاً مثل عمّي بوحوّام لابدّ من أن يبتسم ويرقص.. فهذا قدره على كلّ حال.. ولا هروب من المكتوب إذا هزم خصمه وحالفه الحظ)). ( ص: 29 )
يسعى زياد علي هنا ليجعل من كلّ موقف من مواقف شخصيّته رمزاً لقضايا عديدة تبلغ فيها الإيحاءات الذّروة في عالم السّرد، وعلى الرّغم من كلّ المآسي يبقى حسّ الأمل معقوداً في تطلّعات هذه الشّخصيّة التي يُبرز من خلالها الكاتب ملامح الوجع الإنساني مع أنّه لا يريد أن يجعل من بطله مأساويّاً. البطل المأساوي أساساً هو البطل الذي لا يريد أن يعرف التّاريخ والتّطوّر، ينكره ويشيح عنه بوجهه نهائيّاً. (4)
من هنا يدعونا القاصّ لنجري خلف حركات شخصيّته التي تنقلنا من موقف لآخر، وكأنّها سراب صحراء يكاد أن يكون ماء وما هو بماء. وما ذاك إلاّ نتاج التّفاعلات بين الوعي واللاوعي التي تجسّدت دلالات القصّة عبرها؛ لتكشف عمّا يهجع في كهوف الذّاكرة من آلام وآمال:
(( على محطّات الغربة.. وأنصاف قلوب النّساء.. وفي ساعات فقدان الحضور ضاعت صور الماضي التي احتلّت الذّاكرة )). ( ص:33 )
هكذا تومض صرخة الزّمن على الأجساد النّحيلة، فتبدو الابتسامات باهتة على شفاه شاحبة، سرق الزّمن كلّ ماء حياتها:
(( هذا الزّمن الفاجر ملعون هو الآخر مثل ( حوت المرسي ) فقد أكل شبابنا. أكل ابتسامات الرّجال من حولنا، لم يمنحهم فرصة أن يرسموا ملامحهم في ذاكرته.. كان قاسياً ودون عواطف مثل عربة بائع ( حب العزيز ) المصفّحة، والتي لم نستطع أن نسرق منها شيئاً رغم أنّ صاحبها ضرير )). ( ص ص: 34 – 35 )
يقدّم زياد علي هذه القصّة حدثاً مشحوناً بالمعنى، متجلّياً في شخصيّة
بو حوّام هذه الشّخصيّة التي ترسم نوعاً من الذّوبان في المجموع، على الرّغم من أنّ الشّخصيّة هي مجرّد عنصر واحد بين عناصر أخرى، وكلّ واحد فيها من ناحيته أخذ يتغيّر على اختلاف في الدّرجة، يحفّزه أو يضفي عليه التّوتّر، الموقف العميق نفسه من التّساؤل الذّاتي الذي يُعدّ بمثابة الإعصار، المولّد للتّغيّرات.(5)
يكشف بناء شخصيّة بو حوّام بتوتّراته وتلويناته اللامتناهية عن قدرة أخرى وملمح فنّي آخر للكاتب ألا وهو الوصف الذي برع فيه القاصّ مبرهناً على رهافة في الحسّ وأناقة في الأسلوب تتراصّ فيه المفردات لتصنع عقداً بهيجاً تزيّنه لآلئ صافية وشذرات برّاقة تتراقص مع حفيف الثّياب الذي يبعث دبيب الحياة في الأجساد التي سلب منها الزّمن كلّ شيء فباتت تعاشر شحوبها:
(( إلاّ أنّ شيئاً واحداً لم يستطع هذا الزّمن الفاجر تغييره كان هذا الشّيء هو الوتر الرّاقص الذي نندفع إليه:
- بلهفة.. بعد أن صدئت أيّامنا.
- بشوق.. بعد أن فقد ( برج بوليلة ) روعته ومياهه.
- بسعادة.. بعد أن جثمت السّفن الكبيرة على صدور الأولياء وحجزتهم داخل الميناء!
- بجنون.. بعد أن مات من مات.. وسافر البحر )). ( ص: 35 )
هنا يحتدم الرّحيل وتتنامى ضوضاء السّفر لتمنح الأماكن غربتها، والأشياء ألواناً غير ألوانها، لكنّ البحر رغم الذّهاب والإياب يظلّ هو هو لأنّه لا يفقد الذّاكرة.

هوامش:
1_ زياد علي: قاصّ ليبي، له عدّة أعمال قصصيّة ونقديّة من بينها:(( الطّائر الذي نسي ريشه)) و (( لا يقهر الزّمن إلاّ الكلمة )) و (( الكلمة أطول عمراً )) و (( لا تحرج الموت الجميل ))...
2_ انظر: زياد علي- الجذع المتوحّش، المنشأة العامّة للنّشر والتّوزيع والإعلان، طرابلس، 1986م.
3_ المصدر السّابق، ص ص: 9 – 10.
4_ انظر: عبدالله العروي- الأفق الرّوائي، مجلّة الكرمل، العدد 11، 1984م، ص: 191.
5_ انظر: الأدب وقضايا العصر: مجموعة مقالات نقديّة، ترجمة: عادل العامل، مراجعة: يوسف عبد المسيح ثروة، دار الرّشيد، بغداد، 1981م، ص 81.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعة وفاته: مزعجة ونسأل الله


.. مهرجان كان السينمائي : فيلم -البحر البعيد- للمخرج المغربي سع




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعات وفاته


.. من المسرح لعش الزوجية.. مسرحيات جمعت سمير غانم ودلال عبد الع




.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله