الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حاوِل أن تصادقَ جندياً إسرائيلياً

خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)

2012 / 5 / 18
الادب والفن


حينَ كُنّا صغاراً، كانَ الجيشُ الإسرائيليُّ يمثلُ قيمةَ الرُّعبِ المطلقة بالنسبةِ لنا، وحينَ كنتُ في عمرِ الخامسة وبضعة أشهر، جاءَ مجموعة من الجنودِ إلى بيتنا في مخيم رفح، وأبلغوا أبي أن أمامَهُ 12 ساعة لكي يخلي البيت استعداداً لهدمِهِ، وهذا بالطبع حدث مع مئات البيوت في المخيم، وهذه كانت أوَّلُ ذكرياتي المباشرة مع الجيش، ولا زلتُ أذكرُ لونَ ملابس الجندي، وخوذتَهُ المائلة وسلاحه الموجه إلى الأسفل، والصندوق الكبير الذي يحملهُ على ظهرِهِ "خاص بالاتصالات"، لكني لا أذكرُ شيئاً من ملامِحِه، لا لونَ عينيه، ولا شكلَ وجهه، وهذا حدثَ بعد ذلك مع كل الجنود الإسرائيليين الذين رأيتهم في حياتي.

سألني صحفي أوروبي ذات مرة: هل يمكن أن تصادقَ جندياً إسرائيلياً فيما لو حدث سلامٌ بينكم وبينهم؟ بالطبعِ فكَّرتُ قبلَ أن أجيب، لكني قلتُ [لا] بوضوح، وهذا لم يكن راجعاً إلى سوداويتي، وبُغضي للآخر المحتل فقط، بل راجعٌ إلى أسباب أخرى، عميقة الجذور.

لم يكن السبب فقط يكمن في الممارسات الإسرائيلية التي تمثلت في قتل معارفي طفلا وشاباً، وهدم بيتي وبيوت أصدقائي الأطفال، وقتل أعمامي الثلاثة في سنوات متفرقة، واعتقال الآلاف ممن أعرفهم وتعذيبهم، بل ذهبت في إجابتي إلى الحجة مباشرةً، قلت: إن مشكلتي مع الجندي الإسرائيلي أنني لم أرهُ يوماً في شكلِ كائنٍ يتصرَّفُ كالبشر، بمعنى، لم أشاهده رجلاً يلاطف زوجته أو يضربها، لم أشاهده يفاصلُ بائعاً على ثمنِ سلعةٍ، كل ما رأيته من الجندي الإسرائيلي طوال حياتي هو مجسم لشخص يرتدي بدلةً زيتية اللون، بخوذةٍ على رأسِهِ تأكلُ ملامحَ وجهه، وبندقية في يدِهِ يطلقُ منها النار أو يستعدّ لذلك، لم أعطَ الفرصةَ يوماً لكي أشاهدَ إنساناً أستطيعُ أن أحدد موقفي العاطفي منه، سواء أحببته أم كرهته.

هذا الجندي لا أعرفه، ومن لا أعرفه، كيف لي أن أحبه؟ كيف لي أن أصادقه؟ كيف لي أن أحدد موقفي من شخصه؟ وربما تكون هذه ثاني المشكلات عمقاً في العلاقة مع الجندي الإسرائيلي، أنه ليس شخصاً، إنه جندي، كل الجنودِ متشابهين، هم لباس عسكريٌّ وبنادق، يأخذون أمراً واحداً وينفذونه بحرفيّةٍ عالية، فلا يكون هناك فرق بين جندي وآخر في طريقة تعاملهم معك أنت [الفلسطيني]، وحتى حين نكره الجندي الإسرائيلي فإننا لا نكره شخصاً، لا نكره إنساناً، بل نكره نموذجاً.

المشكلة في إسرائيل، ليس فقط في كونها احتلال بكامل الصفات والصلاحيات، بل المشكلة الأعمق أنها لم تعطِ فرصةً حتى لأولئك الذين يريدون أن يغفروا لها، هؤلاء بالذات أطبقت إسرائيل عليهم فكي كماشتها أكثر من الآخرين.

إسرائيل هي جنديها، والجندي هو الدولة، هذا ما نفهمه نحن الفلسطينيون حين يقابلنا جندي إسرائيلي في أي مكان، والجندي حتى لو كان في الثامنة عشرة، هو الذي قام بمذبحة دير ياسين، وهو من فجر فندق سميراميس في نابلس قبل قيام دولته، وهو الذي قتل أعمامي وأصدقائي، وهو الذي هدم بيتي، هو نفس الجندي، لأنه يرتدي نفس تلك البزة العسكرية التي تأكل ملامحه، وتجعله يتشكل في الوعي الفلسطيني كاستنساخ متكرر لجندي واحد ووحيد هو الجندي الإسرائيلي، لهذا لا يمكنني أن أحب جندياً إسرائيلياً أو أصادقه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد