الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرات في القصة القصيرة (12) والأخيرة

طالب عباس الظاهر

2012 / 5 / 19
الادب والفن


نظرات في القصة القصيرة
طالب عباس الظاهر

(12)
والأخيرة

القصة القصيرة بحث جمالي في سلوك الإنسان، أقرب من أيّ شيءٍ آخر سواه، فدافع الجمال يدخل في جميع مفردات حياته، وحيثيات وجوده ويحركها، كما يدخل أيضاً في جميع غرائزه.. لذلك فالإنسان لا يقتنع بالتلبية لجوعه وعطشه وجنسه وسكنه ولبسه على سبيل المثال، بأي أكل وشرب وجنس وبيت وثياب كما الحيوان؛ فيريدها مترفة.. ولائقة به كإنسان، بل يريدها دائماً أرفع مما يملكه، وقد لا يتوقف عنده الطموح عند حدّ معين، نتيجة حاسة الجمال في ذاته الداخلة في جميع ميوله ورغباته وشهواته، والمكملة لها.
بيد إن مدلولات كلمة السلوك -كما لا يخفى على أحد- واسعة جداً، لا يمكن الإحاطة التامة بكافة أبعادها، لأنها باختصار شديد تتضمن كل ما يمكن أن يقوم به هذا الإنسان من أعمال ونشاطات وأفعال وتصرفات..و..و..! لا، بل وتشمل جميع استجاباته، ورود أفعاله الواعية منها وغير الواعية، الصادرة عن بواعث أو دوافع، والسلوك كما نفهمه؛ ما هو إلا نتاج العلاقات الديناميكية الصادرة عن تفاعل الإنسان بميوله وحاجاته ونزعاته من جهة، مع إمكانيات البيئة المحيطة به من جهة أخرى، والتي تؤثر بدورها الحاسم على صيرورته وتوجهاته، وتشكل أغلب متبنياته الفكرية والعاطفية، وعلى هذا الضوء، فإن منطقة الاشتغال الإبداعي في القصة، ستنفتح على كل منطقة.. سواء في ذات القاص أو عبر محيطه الاجتماعي، وسيكون مجالها كل مجال، حسب تنوع حركة شعور القاص نفسه ودوائر مدياتها، وطريقة تأثره، وأسلوب تلقيه، واتجاه وأسلوب عكسه للإيقاعات الكونية وزاويتها.
لذا فإنها تحاول أن ترصد أول ما ترصد تنازع الشك مع القين في الذات الإنسانية، عبر إطلاقها الأسئلة، وتحفيزها في محاولة إيجاد الأجوبة الموضوعية لها، وهي تتبع .. وتؤشر استمرار قلقها ومعاناتها .. جراء تصارعهما الدائب على أديمها، دونما الوصول إلى إجابات حاسمة أو قناعات نهائية، بسبب إشكالية استمرار تماحك الحق مع الباطل، وعدم إمكانية حسم الصراع.. من خلال تلمس القصة لأثر ما يولده ذلك من ظلم هنا، وحق مضيّع هناك، خاصة لما تتميز به شخصية القصاصين والفنانين من رهافة الحسّ، والحساسية العالية في الالتقاط، التي تقودهم غالباً إلى العاطفية في التلقي، والمثالية في الحكم، لذا فإن ذواتهم تبقى تتعايش حالة الانتقال المستمر من التوتر التي يورثها الشك، إلى حالة الاستقرار والهدوء اللذين يبعثهما اليقين؛ مما يجعل عمليات التحول اليومية فيهم،كمثل التحول في الطبيعة من العطش إلى الارتواء، أو الانتقال من الحرارة إلى البرودة، ومن حلكة الليالي إلى وضوح النهارات.
ومن الطبيعي أن تشتغل الطاقات الكامنة في الكينونة البشرية عموماً، وعند الفنانين خصوصاً على مثل ذلك، وتتحرك باتجاهه، منذ وجدت الحياة على هذه الأرض، كونهم أكثر حساسية من الآخرين.. وهي تعمل على تحريك عواطفهم، ويتمثل هذا التحريك الديناميكي بمحفزات وطاقات عديدة، لعل أبرزها طاقة الجنس والصراع والحب والكره بشكل رئيسي، وهنالك العشرات وربما المئات من الطاقات والنوازع والمحركات الثانوية الأخرى.
وبلا أدنى شك، فإن هذه الجوانب هي الأشد إثارة، والأجدر بالارتياد والبحث، لأنها تشكل الوجه الآخر المغيب من الحياة، لذا فهي ما تحاول أبداً ولوجها الفنون والآداب مذ وعى الإنسان وجودها، لتفسير وجوده على الأرض، وهذا ما يفسر إن أغلب القصاصصين يبدؤون مشوارهم الإبداعي أول ما يبدؤون بتجاربهم الشخصية، كتنفيس عن حالة الصراع والقلق والكبت النفسي الذي يعانوه، ثم بعد ذلك ينتقلون إلى عوالم أخرى، ويستطيع القاص الفنان أن يصعد من وتيرة الأداء الفني لديه بالموهبة، ويرتفع إلى مستوى القضايا الكبرى، الأكثر جدلاً بين مفردات الوجود، بل ويتسامى ليواكب المتغيرات الكونية، ويحاول تفسير الحقائق الوجودية المهمة، حسب إمكانياته المعرفية، واستعداد الاستلهام الواعي لما في الخزين الإنساني من التجارب، ومن تراكم الخبرات، بعد تحليه بصدق النية، وحسن التوجيه، وإخلاص المسعى، إضافة لمواهب لا يمكن الإحاطة بها في ذاته.
إلا إن الإنسان/ الفنان، سيظل في سعيه الحثيث، عبر استمرارية وتعقيدات وجوده؛ باحثاً عن إجابات أكثر واقعية، ولعله يبحث عما هو أقل عمومية منها، لتقوده صوب بؤرة اليقين، لما يتنازع في ذاته من إرهاصات الشك والقلق، باتجاه حقائق الموت والحياة، والوجود والعدم، والجمال والقبح....إلخ، متوسلاً شتى الوسائل المتاحة لقدراته المحدودة، إزاء هذا اللامحدود الذي تضيع رؤآه في مجاهله، وتتخبط في سديم تكويناته الهائلة، ولا تطرق أسئلته الوجودية الكبرى، سوى حافاته صيرورته الكونية الأزلية، ومنها طبعاً القصة القصيرة كجزء من فن الأدب.. كمحاولة بريئة للسؤال، بوضعها أمام الحقائق، بشكل غير مباشر طبعاً، وأحياناً تفعل ذلك عبر محاولة إضمار الرغبة الملحة هذه، خوفاً من انكشاف مكنونات دفينة في ذواتها الحساسة، وفضح حالة القلق التي تعيشها.. فمجمل التجارب الأدبية في القصة القصيرة يمكن تحديدها باتجاهين رئيسين هما:
اولاً: الاتجاه الذهني في محاولة الولوج من خلال دقائق الأشياء الصغيرة، وربما التافهة أيضاً، إلى الأسرار الوجودية الكبرى بالمعارف الكونية.
ثانياً: الاتجاه الشعوري: وهي تلك التجارب التي لا يهّمها النتائج، بقدر عنايتها بعرض حالة المبدع، وإحساساته تجاه الأشياء، وتتبعها ونقلها للآخرين في أدق تفصيلاتها..فهذا الاتجاه بالحقيقة أقرب إلى فن الأدب من الاتجاه الذهني.
بيد إن إطلاق الحقيقة الحسية بحد ذاته يؤدي إلى فرز الفرح، بغض النظر عن كون الدوافع الشعورية التي تكمن خلفها، سواء أكانت حزينة أم سعيدة.. ولعله ما يفسر الشعور بنوع من الفرح أحياناً لدى الإنسان، بالرغم من كونه في قمة لحظات الألم والوداع والحزن والحرمان.
وقد يكفي القصة القصيرة فخراً، بأنها ستظل المحفزة دائما للمزيد من الأجوبة العميقة للأسئلة الكونية، والأكثر حيوية بالنسبة للإنسان، ولوجوده في هذي الحياة الدنيا وما بعد الممات، وهي تتشكل كعلامة استفهام كبيرة أمام سؤال الوجود، وهو ما يمكن تأشيره باعتماد القرآن الكريم للقصص، كإحدى الركائز المهمة في مخاطبة البشر، والتواصل الشعوري معهم، وتحفيزهم للسير في طلب الحقيقة، سبيلاً لهدايتهم إلى سوي الصراط، وتهدئ فيهم قلق الأسئلة.
أخيراً، ولعل أعظم ما تطمح له القصة القصيرة، إنما هو النجاح في إحالة الآخر إلى الفطرة السليمة في أعماقه لا غير، واستنفارها لأبعد جوانب تلك الفطرة إهمالاً.. بإيقاظ روح الشعور النبيل فيها، للعرفان بنعمة الوجود من بعد العدم، وإعجاز الخلق المنبثق من جمال المشيئة التي أوجدت برحمتها، وبرحمتها فقط هذا الوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??