الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحب كائن هش ومهزوم في الرواية العربية

اسمهان الزعيم

2012 / 5 / 20
الادب والفن


الحب كائن هش ومهزوم في الرواية العربية

لا تكاد تخلو رواية عربية من تيمتين بارزتين لصيقتين ببعضهما، تيمة الحب والموت. ولعل أهم الأعمال الروائية وأبرزها عالميا وعربيا تلك التي احتفت بتيمة الحب كقيمة إنسانية فسربلت حيوات الشخوص بهالة من التوهج والبهاء أحيانا والشجن والحزن الدفين أحيانا أخرى. ونحن إذا عدنا إلى الوراء سنجد أولى الروايات العربية التي اعتبرها الباحثون والنقاد والمهتمون بالشأن الروائي العربي اللبنة الأولى التي بني عليها الصرح
الروائي العربي، رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل.



1- رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل

في هذه الرواية المتفردة بأصالتها وأصالة لغتها وبنيتها نجد الكاتب يقدم لنا مشهدا شائكا لتيمة الحب كقيمة إنسانية في حياة الإنسان العربي على العموم والإنسان المصري البدوي على الخصوص. والقارئ المتأمل لهذه الرواية يجد ذاته غارقا حتى النخاع ف ي عالم نفسي عميق الغور، يصور بدقة

لا متناهية هواجس النفس البشرية ورهافة الحس لدى الشخصيات ومدى تأثرهم ببيئة عربية محافظة تحكمها الأعراف المتوارثة من جهة والتعاليم الدينية من جهة أخرى. فنجد معظم الشخصيات التي مثلت وعاشت الحب عبر فصول الرواية الممتدة إنما عاشته خلسة، بشكل متوار عن الأنظار، فالبوح بلواعج النفس لا يفيض إلا لماما والتعبير عنه جسديا لا يصدر إلا خلسة، فتخطف القبل وتتعانق الأجساد بعيدا عن أعين الناس على ضفاف نهر أو خلف شجرة أو عندما يتوارى الناس عند الغروب فيغادرون إلى بيوتهم ومضاجعهم. هكذا اختلست زينب وعشاقها لحظات عشق منفلتة مع الشاب
الميسور تارة والبدوي الفلاح تارة أخرى.


ونحن إذا تأملنا بعمق ما يميز تيمة الحب في الرواية العربية والمغربية سنجد حضورها في مجمل الأعمال الروائية العربية قويا وشائكا في نفس الآن، ولا يكاد يخلو حضور الحب من هشاشة وانهزامية وعدم قدرته على الصمود في وجه العواصف والمعيقات. وكأنه مخلوق غريب خلق ليندثر مع أول هبة ريح ويحترق مع أول صعقة كهربائية. في "زينب" يعيش القارئ جوا عاطفيا مشحونا تتجاذبه قوة العاطفة من جهة وانهزامية الشخصيات وعدم قدرتها على صيانة حبها والحفاظ على كيانه من جهة أخرى. فلا محمود كان وفيا في حبه لزينب ولا إبراهيم استطاع أن يدافع عن حبه. فبدا محمود انتهازيا تتملكه نزوة الجسد فلا يتردد في اختطاف لحظات إيروسية وهو في كنف فتاة بدوية ساذجة، لحظات يندثر صداها حالما يغادر المكان الآسر بغدرانه وأشجاره الوارفة وبساتين القطن الممتدة على طول المدى. وتبدو شخصية زينب في الرواية رغم سذاجتها عقلانية، بحيث أدركت بحدسها أنها لن تمتلك قلب محمود لأنها بكل بساطة فتاة فقيرة تكدح وعائلتها من أجل لقمة العيش. ويدفعها هذا المنطق إلى التفكير فيمن يناسبها ويناسب طبقتها الشعبية الكادحة. هكذا ألفت ذاتها غارقة في حب إبراهيم، البدوي الفلاح الذي يقاسمها حياة الفلاحين في مزارع القطن. إلا أن هذه الشعلة المتأججة من العواطف سينطفئ ألقها بمجرد زواج زينب من فلاح آخر لا تحبه.

وتنتهي رواية زينب بوفاة العاشقة كمدا في بيت الزوجية وهي تحمل بين جوانحها حرقة حب لم يكتمل، مخلفة للقارئ سحابة قاتمة من الحزن والشجا، راسمة أمام ناظريه مشهدا مأساويا تتسلطن فيه الأعراف والتقاليد فلا تترك مجالا لحرية الاختيار للمتحابين بفرض وجودهم وصيانة حبهم من التلاشي والاندثار. وتبدو مؤسسة الزواج كطاحونة مجنونة لا تعترف بالحب كحق وقيمة إنسانية تستحق أن تعاش، ويبدو الحب كشظية من نار تتقاذفها ريح عتية فتحرق كل من تصادفه في طريقها أخضر أو يابسا.

هكذا يبدو الحب في أولى الروايات العربية كائنا مهزوما ومحاصرا بالقيود، فلا يتحقق وجوده، بل إن حضوره يأتي مقرونا بالمأساة والعار والإحباط والموت البطيء تحت سطوة مجتمع لا يرحم ولا يعترف بالحب كقيمة إنسانية وكحق في الحياة يستحق أن يعيشه كل من الرجل والمرأة.

يبقى السؤال هل تغير مصير الحب في الرواية العربية بعد مرور عدة عقود على رواية "زينب"؟ وهل أضحى الحب في الرواية العربية والمغربية الحديثة كيانا متحررا من سطوة الأعراف والدين بعد انفتاح نسبي للمجتمعات العربية على الحياة الغربية؟ وهل تحققت للحب كينونته الكاملة وشرعيته التامة في كنف مجتمعات لا تزال تتأرجح بين المحافظة والتحرر؟ الجواب على هذه التساؤلات سنجده بي ن طيات عشرات الروايات العربية التي انكتبت في
غضون القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة.

2- ثلاثية أحمد إبراهيم الفقيه

اخترت هذه الثلاثية للروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه لخاصيتها المتميزة في كونها تطوي بين فصولها وأجزائها أوجه شتى للحب بشتى تمظهراته ومفارقاته. والقارئ المتأمل لهذه الثلاثية المائزة بلغتها وبنيتها وحبكتها ومضامينها يجد ذاته أمام عوالم يتلاقح فيها المألوف والغرائبي والواقعي والمتوقع بالخيالي أو المتخيل. ويبدو الحب شجرة فارعة شائكة الأغصان ترسم عبر فصول الرواية عوالم مبهرة تؤثثها الأحزان القاتمة والمباهج المسرفة والأحلام المجنحة والتحرر المنفلت من كل أشكال القيود وأنواع القسر.

يبدأ كل جزء من ثلاثية الفقيه باللحظة الراهنة التي تعيشها الشخصية الرئيسية المتمثلة في الأستاذ الجامعي العائد لتوه من الديار الغربية إلى وطنه الأم، أرض الأجداد والأعراف والتقاليد. بداية قاتمة تحيلنا على هذا الشرخ النفسي الكبير الذي يعيشه بطل القصة بعد انتقاله الاضطراري من أوربا إلى بلده الأصل، فيتراءى له الوجود على شكل طيور بأجنحة سوداء تسد الأفق أمام ناظريه وتكبس على صدره وتلج به في عوالم أكثر قتامة من ظلام الأنفاق ويأس النفوس البئيسة. ويتبع الكاتب في ثلاثيته خطا كرونولوجيا مكسرا لا يدع للراهن فرصة التحكم في دواليب السرد، فيصبح الراهن جسرا فقط للعبور إلى الزمن الماضي أو زمن الأحلام اللامتناهية.

ولعل ما يشد الانتباه في ثلاثية الفقيه أن الحب بشتى تمظهراته ينتهي في آخر المطاف مهزوما ومخذولا وكائنا هشا سريع العطب، يصعب حمايته من الكسر والنسف. فحين ينخرط بطل القصة في حياة مجتمع غربي إباحي ويمارس كامل حريته في القبض على معصم المتعة أينما كان وكيفما كان فإن التجربة العشقية المنفلتة من كل أنواع القيود لا تعطي ثمارها ولا تحدث بالتالي رضا وإشباعا نفسيا. فتجربته العشقية الأولى مع زوجة جاره ليندا التي نسفت قانون الأخلاق وزينت له الخيانة ورسمت لعينيه العاشقتين عالما آسرا تحكمه لغة الجسد الذي يتحرق شوقا للإشباع الجنسي، سرعان ما ينطفئ وهجها بمرور الأيام والشهور، فيتكسر هذا العشق على قارعة الطريق حين تكتشف ليندا خيانة حبيبها أو بالأحرى تعدد حبيباته وهي تحمل بين أحشائها جنينا منه.

وتنقلنا أحداث الرواية مجددا إلى مشهد آخر أكثر إثارة حين يندفع بطل القصة إلى عشق ثان لطالبة زميلة تحترف المسرح. وهنا يجد القارئ ذاته أمام وجه شائك للحب يبدأ بمسار طبيعي لحب يجمع بين رجل وامرأة يمارسان عشقهما بما أوتيا من فورة الرغبة وغضارة الجسد وينتهي بمسار شاذ لحب تستهجنه المجتمعات العربية الإسلامية وتدافع عنه المجتمعات الغربية العلمانية، فتقدم لنا الرواية مشهدا مثيرا لحب شاذ بين فتاتين سحاقيتين.
والرواية لا تقف عند هذه الحدود بل تفتح أمام القارئ آفاقا تخييلية رحبة لمملكة الحب يشيدها الكاتب في الجزء الثاني من ثلاثيته تحت عنوان "هذه تخوم مملكتي". في هذا الجزء الذي لا تتعدى مساحته الزمنية دقيقة واحدة يسافر القارئ مع بطل القصة إلى مملكة العشق حيث يسود قانون التحرر الكلي من كل المعيقات العرفية والأخلاقية والدينية. ويصل القارئ إلى الجزء الأخير من هذه الثلاثية الشيقة والمعنون ب "نفق تضيئه امرأة واحدة" ليعيش مع بطل الرواية قصة واقعية هذه المرة للبطل مع طالبة سيأسره حبها لجمالها الأخاذ وطبيعتها الخجولة وثقافتها الثرة، وتنسجم بالصدفة مواصفاتها وملامحها مع فاتنته في مملكة العشق، فيحتار البطل في تقييمهما متسائلا أيهما أكثر واقعية من الأخرى. إلا أن بطل القصة ورغم كل الظروف المواتية ومحالفة الحظ له بعثوره على فتاة أحلامه على أرض الواقع وإنهاء حياة زوجية فاشلة بخطبة الطالبة الجامعية سناء والتي كانت له بمثابة السناء في حياته، رغم كل هذا سيفلت زمام الأمر من يديه، بعد أن تملكته الشهوة العارمة وسيخسر في برهة قصيرة من الزمن حب حياته فتنتهي الرواية بمشهد مثير متمثل في الاغتصاب.


بهذا المشهد الدرامي غير المتوقع يسدل الستار على آخر فصول الرواية مخلفا في ذهن القارئ سيلا من التساؤلات:

- هل التحرر التام من كل أنواع القسر يضمن فعلا لكيان الحب البقاء والتحقق؟

- هل الدين والتقاليد يحولان فعلا دون تحقق الحب في المجتمعات العربية التي تتوق في نفس الآن إلى مزيد من التحرر؟

-وهل عقلية الرجل العربي المثقف والمرأة العربية المثقفة ما تزال في حاجة ملحة إلى النضج والاستنارة وفهم أغوار الذات واستيعاب مكنونات النفس البشرية؟


د. اسمهان الزعيم
روائية مغربية
"الحب كائن هش ومهزوم في الرواية العربية" هو عنوان المداخلة التي شاركت بها في ندوة: "تجليات الحب في الرواية العربية والمغربية" التي نظمتها جمعية الباحثين الشباب في اللغة والآداب بكلية الآداب بمكناس، المغرب يومي 11 و 12 ماي 2012.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر


.. حكاية بكاء أحمد السبكي بعد نجاح ابنه كريم السبكي في فيلم #شق




.. خناقة الدخان.. مشهد حصري من فيلم #شقو ??


.. وفاة والدة الفنانة يسرا اللوزي وتشييع جثمانها من مسجد عمر مك




.. يا ترى فيلم #شقو هيتعمل منه جزء تاني؟ ??