الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وما صلبوك ، ولكن شُبّهت لهم !

نزار نيوف

2005 / 2 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


رسالة مفتوحة إلى عبد العزيز الخير في الذكرى الثالثة عشرة لمحاولة صلبه
عزيزي أبا المجد ،
في كل عام ، منذ أن غادرت زنزانتي الصغيرة إلى سجننا الكبير ، وحين يقترب الأول من شباط ، تجتاحني الحيرة ويجرفني التردد. فأنا لا أعرف إن كان عليّ أن أكتب إليك أم أكتب عنك !
أن أكتب إليك ، يعني أن أكون واثقا من أن رسالتي ستصلك ؛ وأن أكتب عنك ، يعني أن أرضى بأن يشاركني الناس رغيف حميمياتنا الذي تقاسمناه ذات " عشاء أخير " . وأنا لست هكذا ..
.. لست واثقا من وصول رسالتي إليك ، لأن عرّابي الموت وحراس الخوف والمقابر لمّا يزالوا يعسكرون على مداخل " سوق الحميدية " ويجوبون أرصفة " باب الجابية" .. بحثا عمّا تبقى من رائحة خطواتك التي قادتك على طريق الجلجلة ، وعمّا تبقى من وصيتك التي أرادوا لها أن تكون الأخيرة !
.. ولست أرضى بأن يشاركني الناس رغيف حميمياتنا ، لأني " ضِِنّين " بهذا النوع من الكرم ، وغيور على من أحبهم .. يا عبد العزيز !
لو اخترت أن أكتب إليك ، كنت سأقول في رسالتي إني خرجت من السجن الصغير إلى السجن الأكبر ؛ من السجن الذي يحاصرك مفردا بصيغة الجمع إلى السجن الذي يحاصرنا جمعا بصيغة المفرد ؛ وإني كنت أكثر حرية حين كنت لم أزل بجانبك !
أعرف جيدا أنك ستتبرم من هذا العبث وتنكر عليّ هذه السوداوية حين تقف عند هذه الكلمات ؛ وكأني بك تقلص قوس حاجبيك وتطرق قليلا لتقول : من يصنع الحرية هم أولئك الذين يحبون الحياة . أما الذين تصالحوا مع عبوديتهم فوحدهم جديرون بها ! ولهذا كان عليّ أن أضيف : لم أكن أكثر حرية حين كنت إلى جانبك ، لأني استمرأت السجن وأريد العودة إليه ، ولكن لأني تركت جزءا من روحي عندك و .. عندكم ؛ ومحال أن تكون حرا حين يكون بعض روحك طليقا هنا .. وبعضها الآخر أسيرا هناك !
لو اخترت أن أكتب إليك ، كنت سأخبرك في رسالتي إن أحوالنا لم تتغير كثيرا منذ ذلك المساء الحزين الذي صادف قبل ثلاث عشرة سنة من الآن ، حين قادوك على طريق الجلجلة وحاولوا صلبك ، بعد أن أخفقوا في اغتيال حريتك . فما تزال شرائع المماليك الجدد تكبل دمشق من رسغيها وتجرها من ضفائرها إلى مخادع العسس كلما هاجت ساديتهم وانفجرت نزواتهم. وما تزال ألوف الأمهات تلوب في دهاليز الأسئلة المختنقة ، وحول نيرانها المحرقة ، بحثا عن الأبناء الذين سقطوا صباح " ليلة الغدر " ، وقبيل قليل من حلول " ليلة القدر " في " مرايا الغياب" ، كما يقول صديقنا فرج بيرقدار ؛ أو الذين أسقطوا في مقابر تدمر الجماعية ، ومقبرة الدحداح ، قرب مضر الجندي ، كما أقول أنا !
لو اخترت أن أكتب إليك ، كنت سأحدثك عن " ربيع دمشق" الذي ذبح براعمه فِرّيسيو " العهد الجديد " قبل أن تتفتح بتلاتها ، قربانا ليشوع " العهد القديم " الذي لم يزل يحكمنا من قبره ، وينفخ من ههناك في قرون الثيران الهائجة .. منذرا بالخراب ! .. وعن " ابن العم " رياض الترك الذي وقع شهادة موته حين ظن الآخرون أنه سيبقى حيا في دواخلنا ؛ فما كان من هؤلاء الفريسيين إلا أن صلبوا " ابن العم " مرة أخرى ، لتظل راحاب الدمشقية تحيض في جرن العمادة !
عمّاذا كنت سأحدثك أيضا !؟
كنت سأحدثك عن عشرات الألوف من أبناء سورية الذين نهشتهم أنياب الغربة وقد صارت وطنهم ، لأنهم أبوا أن يكون الوطن غربتهم !.. وكان بوسعي أن أضيف ، لو حدثتك عن هؤلاء ، وجلهم من أصدقائك ورفاق الدرب الذين حملتني في ذلك " العشاء الأخير " تحياتك وأشواقك لهم ، أني أصبحت واحدا منهم بعد أن تجاسرت على القول : يا للعار .. إن الملك عارٍ !.. وأن القيمين على إرث يشوع " الخالد" أعطوا تصريحا للوطن يسمح له بأن يفتح ذراعيه مرة أخرى لأبنائه هؤلاء ... شريطة أن يعودوا على متن نعوشهم ، كما عاد في الأمس القريب أحمد محفل ، وفي الأمس البعيد جميل حتمل ، أو كما لم يعد .. أكرم الحوراني ومصباح الغفري!
عزيزي أبا المجد ،
عن ذلك كله ، وغيره الكثير ..الكثير من كوابيسنا النهارية ، كنت سأحدثك لو اخترت أن أكتب إليك ، ولو كنت واثقا من أن رسالتي ستصلك . ولكن ماذا كان بوسعي أن أكتب لو اخترت الكتابة عنك !؟
مرة أخرى كان سيأخذني التردد ، وتربكني الحيرة مما إذا كان أجدى أن أكتب عنك .. مناضلا ومقاتلا من أجل الحرية يعيد إلينا كبرياؤه بعض كرامتنا وإبائنا في زمن المهانة والإنهيار .. زمن نصّابي الديمقراطية " الوطنية" وقصّابي المجتمع المدني الذين يريدون أن يطعمونا كفتة مصنوعة من لحم الفطائس !؟ .. أم أكتب عنك ..طبيبا يعز على المعتقلين ، من فرط محبتهم له ، أن ينال حريته ، لأن في حريته عبوديتهم لغيلان الأمراض التي تفتك بهم !؟ .. أم أكتب عنك .. صحفيا منحتنا كلماته دفء الحقيقة حين داهمنا صقيع الرياء !؟
لو اخترت أن أكتب عنك مناضلا من أجل الحرية ، كنت سأحكي عن تلك اللحظة التي تساحقت فيها كؤوس الشمبانيا وتضاجعت في أيدي حراس الأقبية المتراصفة كالمقابر على جانبي " شارع المخابرات" من حي البرامكة الدمشقي ، احتفاء بما توهموه صعودك الأخير إلى الجلجلة ! وعن ذلك الإسخريوطي الذي أسكرته غبطة داهمته رغم انتظاره لها أحد عشر عاما ، فصاح وسط جموع الناس على جهازه الخليوي بعد أن باغتك من الخلف : لقد وقع العصفور في القفص يا سيدي !
آه وآخ يا عبد العزيز كم يشعر المرء بالذل حين لا يجد مهربا من إعلان انتمائه لوطن يحتفي بصيد العصافير لقاء ثلاثين من فضة !
أعرف أنك لا تحب هذا التفجع ، لأن المناضل فيك كان دوما يلوذ بالعقل ويستغيث بالإرادة حين تحاصره العواطف . وأعرف أنك ستقول لي : في كل وطن وطنان ، وطن يحتفي بصيد العصافير وقتلها ، وآخر يبني لها الأعشاش ويحتفي بغنائها . هذا وطننا وذاك وطنهم ! ندافع عن هذا ونخون ذاك ! سلام على هذا وطز في ذاك !

الحق معك يا عزيزي ، فلو اخترت أن أكتب عنك طبيبا ، كنت سأقول إن إرادتك الحارة وعقلك البارد ، لم يخذلاك أبدا حين كانت تحاصرك رقة الإنسان فيك وقد فجرتها آهات الموجوعين ونظرات الاستغاثة في أعين المحتضرين ، لأنك كنت تدرك دوما أن برودة العقل وحرارة الإرادة وحدهما القادران على هزيمة الموت !

أجل ، أيها العزيز ؛ هذا ما كنت سأقوله لو اخترت الكتابة عنك طبيبا . أما لو اخترت الكتابة عنك صحفيا ، فأول ما كنت سأقوله إنك كنت معرفة باسمك المستعار حين كان الآخرون نكرات بأسمائهم الحقيقية ؛ وإن الحقيقة ثكلت بغيابك ؛ وإن الشجاعة في قولها مفجوعة بهذا الغياب ؛ وإن صنّاجات الرياء أصبحت أكثر قدرة على الضجيج وصم الآذان في " عرس الديكتاتورية " (*) الذي ما انفك راقصوه يهرسون أعصابنا وما تبقى من أشلاء أرواحنا بصليل أحذيتهم في هذه الظلمة الحالكة التي أرخت سدولها على حيواتنا منذ أربعين دهرا .. ولم تزل !
ليست هذه مرثية يا أبا المجد ، فالمراثي لا تكون إلا للموتى ، أما أنت فحيّا فينا ستبقى . وإذا كان جلادوك العفالقة قد توهموا بأنهم صلبوك ، فلأنهم كانوا دوما أكثر عماء في أبصارهم وبصائرهم من أن يروا الناس إلا أشباها ، فما أنت صلبت ، ولكن شبهت لهم!
فسلاما للصلابة والكبرياء فيك .. مناضلا
وسلاما للرحمة والرقة فيك .. طبيبا وإنسانا
وسلاما للحقيقة فيك ..كاتبا مرهفا وصحفيا شجاعا
وسلاما لك في غيابك الحاضر فينا أبدا .. حتى مطلع الفجر !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ " عرس الديكتاتورية " : آخر ما كتبه عبد العزيز الخير قبل اعتقاله على مدخل " سوق الحميدية " في محلة " باب الجابية " من دمشق القديمة مساء الأول من شباط / فبراير 1992 ، بعد قرابة أحد عشر عاما من التخفي والمطاردة ، وقبل أن تصدر محكمة أمن الدولة شبه العسكرية حكما باعتقاله لمدة 22 عاما . أما " عرس الديكتاتورية " بحد ذاته ، فكان من أعمق وأجرأ ما كتب حول الاستفتاء على رئاسة حافظ الأسد أواخر تشرين الثاني / نوفمبر 1991 ، والذي ترافق بـ " أعراس" هستيرية من قبل أجهزة السلطة وزبانيتها وأذنابها من أحزاب ما يسمى بـ " الجبهة الوطنية التقدمية " التي ما تزال منذ ثلث قرن تتقدم بالبلاد نحو .. مقبرة لا قاع لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال


.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال




.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار


.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20




.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من