الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القصيدة سيرورة سردية : قراءة في ديوان - إنتماءات لمدن الصحو -

معين جعفر محمد

2012 / 5 / 25
الادب والفن


القصيدة سيرورة سردية :
قراءة في " إنتماءات لمدن الصحو "
للشاعر خالد الخزرجي
نقد : معين جعفر محمد / العراق

هي سمة ثابتة في شعر خالد الخزرجي أن للقصيدة ، عنده ، سيرورة سردية ، محكومة بنظام يجعل الخطاب الذي تتشكل بمقتضاه ، قصصيا أكثر منه شعريا . و إذا كان هذا النحو من الأداء الشعري غير جديد على القارئ ، فإنه يؤشر فضيلة إنجاز توافرت للشاعر في القصائد الثلاث و الثلاثين التي يضمها ديوانه الجديد الموسوم ب " انتماءات لمدن الصحو " . فالمعتاد في قصائد تتخذ سيرورة سردية ، أن تمضي الأخيرة على نحو حكائي... في حين استطاع شاعرنا تخطي هذه الحدود بإخراجه سيرورة السرد من مجالها الحكائي إلى حيث تكتسب طبيعة "قصصية" !
غير أن ما يؤخذ على الشاعر الخزرجي ، في هذا المقام ، أن تركيز جهده على تحقيق استجابة لمقتضيات فعل القص ، قد شغله عما تتطلبه الصياغة الشعرية من توفر على أسلوب رفيع ، تتحقق من خلاله شعرية الخطاب الذي ينبغي أن يرتكز على ( بنية معززة بنسيج ) تتمثل فيه ( ميزة التعبير عند أية درجة معطاة ) ... على حد تعبير جون كراو رانسم . إن افتقار الخطاب إلى هذه اللازمة ، يسحب آثاره السلبية على الجهد النقدي الذي يتوخى تجلية جوهر الشعرية في الخطاب ؛ لذلك فإن أية معالجة نقدية لقصائد هذا الديوان ، لا بد لها من التركيز على المعاني المعطاة بصفتها غاية مقصودة لذاتها بغية أن تعوض عن غياب عناصر الشعرية الفنية و توفر للخطاب مبررات وجوده . يمكن عزو ذلك إلى طبيعة اللغة التي تؤدى بها قصائد هذه المجموعة ، فهي مكتوبة بلغة تتوخى التعبير المباشر ، و تحتكم إلى منطق عام ، بسبب افتقارها إلى ما يحقق استثنائيتها كلغة شعرية ... و من جراء هذا ، لا تقوى على إسناد نفسها أمام أول قراءة لها إذ تبوح بمكنوناتها دفعة واحدة طرا ، مخالفة بذلك منطق الخطاب الشعري الرصين الذي يفترض صياغة فنية رفيعة المستوى تجعل الجملة الخاضعة لها منطوية على طاقة إيحائية قابلة للتفجر و لكنها تبقى – مع كل قراءة – تخبئ خزينا من الإيحاءات المعلقة لقراءة أخرى . و لكي يتحقق هذا المطلب ، لا بد للشاعر من تخطي المحور الإختياري ، في بنينة الخطاب الشعري ، إلى حيث يتم له الإشتغال على مستوى المحور الإستبدالي الذي ، من طريقه ، يتأتى له الإرتقاء بلغته عبر خلقه أنساقا تخرج باللغة من حقل السيرورة التداولية إلى حيث تعمل بمقتضى سيرورتها الخاصة بوصفها لغة [ شعرية ] تقوم على أساس تعالقات إسنادية لا تخضع لأحكام البناء الجملوي المعتاد بقدر ما تنطوي على خرق منظم مقصود ، لهذه الأحكام ، محققة بذلك ذاتها . لكأن الشاعر خالد الخزرجي قد تعمد توجيه العملية النظمية نحو خلق شكل تتحقق من خلاله أدبية الخطاب و يسد مسد ما هو مفتقد فيه . من هنا تتأتى مسوغات التركيز على عنصر السرد بصفة الأخير منحى تمضي القصيدة على وفقه ! لعل خير أنموذج تتجسد فيه دلائل ذلك ، قصيدة ( تجليات الفتى مهران) التي يتحقق فعل القص فيها من خلال توفر عناصره الأساسية : حيث الاحتفال ب ( شخصية مركزية ) ، تتمحور حولها شخصيات ثانوية ، وأن سلوكها المرصود عبر قناة السرد ، محكوم ببعدي الزمان و المكان . يعزز هذا وجود حدث تجري معالجته في القصيدة , تغاير بتغاير هذه العناصر الثلاثة و تحولها من طور إلى آخر . يضاف إلى هذا خضوع فعل السرد هنا لنظام حيث الخطاب مقسم إلى كيانات ، يمثل كل واحد منها بنية سردية ، سرعان ما تفضي إلى بنية سردية أخرى عبر حلقة ربط ، تعمل على خلق تعالقات منطقية بين هذه الكيانات ، لتوحدها في نطاق متن حكائي يعزز تماسك عناصر الخطاب . من نحو ذلك ، أن الأسطر الثمانية الأولى تمثل بنية سردية استهلالية ، يتم من خلالها التعريف ب ( الفتى مهران ) إذ تصوره شخصا قرويا ، حزينا ، مهموما ، محبطا ، ممتحناً ( و بعينيه بحر دموع تكفن أيامه البائسه – ص 101) و إذ تبدأ عملية السرد من نقطة معينة في حياة هذه الشخصية ( يوم غادر قريته - ص 101 ) مهاجرا إلى المدينة ... فإن هذه المرحلة تشغل فضاء مداه أبيات موزعة على ثمانية أسطر ، و إن التحول إلى مرحلة سردية تالية ، يتم التمهيد له في السطر الذي يليها ( ص9 ) ، لتبدأ بنية سردية ثانية يجري فعل السرد فيها بطريقة الاسترجاع ( فلاش باك ) ؛ و هنا تسلط الأضواء على الأبوين هذه المرة ، و العلاقات الأسرية للذات المروية عنها ، و من خلال ذلك ، ينكشف النقاب عن سمة أخرى ، تعد سببا للحزن و الهم اللذين يفترسانه، و تعمق الشعور بالتعاطف مع هذه الذات الإنسانية ، و ذلك حين يتبين كونه المعيل الوحيد لأسرته ... و هكذا حتى تحين مرحلة لاحقة نجد ( مهران ) فيها قد استبد به شعور بالاغتراب و هو يعيش في كنف بيئة غير بيئته التي نشأ و ترعرع فيها أصلا . يتعمق هذا الشعور حيث تحقق القصيدة تباينا بين ( مهران ) الأمس و ( مهران ) الحاضر : فالأول الذي عاش ( منبهرا بضياء الفوانيس – ص 104 ) صار يود لو يستطيع التطبع و التكيف لأضواء المدينة وشوارعها : ( ليته الآن يألف هذا الضياء / و هذي الشوارع – ص 104 ) ثم تشتد الأزمة النفسية التي تعصف بهذه الشخصية ، إذ يتبين أنه ( .. لم يألف النوم في غرف " الصاج " / لم يعرف " الأتكيت " – ص 104 ) إن هذه الأزمة التي تعالج في هذه القصيدة عبر الرمز الإنساني ( مهران ) ، هي أنموذج لحالة اجتماعية واسعة تحكي وضع أناس يعيشون أسيري أحلام كاذبة ، سببها الانبهار بحياة المدينة و ما تعد به من مغريات . هكذا يتبلور القصد المبيت في ثنايا الخطاب الشعري – القصصي ، متمثلا بتسفيه هذا الانبهار و ترسيخ قيمة عليا تتمثل في انتصار الطبععلى التطبع ، السجية المتأصلة على النزوة الطارئة ! و ذلك إذ يفيء مهران إلى رشده ( ... يرتد ، يجتاز كل حدود مداراته / يتشبث ، أتعبه الدوران و لكنه / ثابت / ثابت كالشجر – ص 107 )
و إذا كان الشاعر خالد الخزرجي في قصيدة ( تجليات الفتى مهران ) ، معنيا بعرض أزمة الآخر ، فانه في قصيدة ( الساعة ) يطرح أزمته الذاتية بصفته شاعرا خاضعا لضغوط قوتين خارجيتين ، هما صوت طفلته التي تلح مطالبة إياه بالتخلي عن مبررات وجوده – الكتب و ما ترمز إليه من مغزى كبير في حياته – و صوت الزوجة وهي تجادله محاولة دفعه بالاتجاه الآخر نفسه ... و من جراء هذا الوضع ، ينتابه شعور بالإحباط يتخذ شكل مفارقة ذات وجهين متعارضين ، يعمقان الإحساس بالخيبة و انقطاع الرجاء ، بالنسبة لشاعر كرس معظم حياته لفنه ليكتشف في لحظة عابرة عجزه عن الوفاء بمتطلبات الارتقاء بالمستوى المعيشي لأسرته و الوصول بها إلى وضع يتيح لها أن تحيا الحياة العصرية التي هي حلم مشروع لكل أسرة : ( رأسي كالموقد يغلي ، طفل يلثغ : / بابا .. / دع كتب الشعر ، النثر ، الكلمات الجوفاء / الوقت المرسوم يمر ، تجادلني زوجتي : هل غيرنا أصناف أرائكنا ؟ - ص 5 ) .
بعد كل ما تقدم ذكره ، و بناء عليه ، ألا يحق لنا أن نتساءل : هل يكفي القصيدة التشبث بمعانيها المعطاة كوسيلة لتحقيق هويتها الاجناسية بوصفها " قصيدة " أولا ثم ، بعدئذ " شعرية " ؟ و هل يكفي اللجوء إلى أسلوب السرد القصصي المنظم ، إجراءا لتعويض الخطاب عما هو مفتقد فيه ؟

إن الإجابة على هذين التساؤلين واردة ضمن تناولنا للنماذج المشار إليها آنفا ، حيث يتعذر علينا التعامل مع النص خارج حدود معانيه المباشرة ، لخلو تلك النماذج من العناصر الأسلوبية التي يمكن الانطلاق منها لبلورة سمات فنية يفترض توافرها في الخطاب الشعري و التي يمكن التوفر عليها من طريق خلق علاقات إسنادية خارقة للمألوف ، من شأنها الخروج باللغة من نطاق الاستعمال التداولي إلى حيث تحقق خلق صور استثنائية تستفز الذهن و توقظه من سبات العادة ! لا أعني بهذا أن افتقاد هذا المطلب مطلق في اللغة المؤداة بها قصائد هذه المجموعة ، بل ما أعنيه أن تحققه يتم على نطاق ضيق في سطور من هذه القصيدة أو تلك ! من نحو الأسطر الأربعة لتي تستهل بها قصيدة ( خذ وردة الجمر .. اعطني اسمي ) التي تتسم لغتها بانزياح صارخ و تعتمد ، أصلا ، على ما يسميه قدامى العرب النحويون ب ( المعنى غير الحقيقي ) الذي يتمخض عادة عن عبارات تطلق عليها ، في النقد الجديد ، تسمية " العبارات الكاذبة " ، التي تعد واقعة أسلوبية مناسبة لخلق مناخات خاصة عبر حالة يجري تمثلها ذهنيا و لكن من المعاياة إدراكها ، و إن سر متانة نسيجها و موطن قوتها ، كامن في ميزتها هذه : ( خلعت بنفسجة ثياب الغيم ، / و انتبذت مكانا من رماد .. / و توضأت بدم النجوم .. و فضضت ورد الندى / و رمت أجنتها البلاد ! – ص 44 )
يلاحظ هنا أن إسناد الفعل ( خلعت ) إلى ( بنفسجة ) قد ترتبت عليه أنسنة الأخيرة ، و إن سوق ( ثياب ) بصفتها مفعولا للفعل نفسه ، يبدو منطقيا في الظاهر ، إلا انه يفقد سمته هذه بإضافته إلى ( الغيم ) الذي ينتقل بالمضاف من حقل الأشياء الملموسة إلى المجردات ، ينسحب ذلك على الجملة الثانية المعطوفة حيث نجد أن وصف المفعول به ( مكانا ) بالفضلة من الجار و المجرور ( من رماد ) قد أدى إلى إحداث انحراف في سيرورة المنتوج الدلالي المحمول في طياتها ؛ على النحو نفسه ، يلاحظ أن اكتناز العبارة الشعرية و شحنها بطاقة إيحائية ، متأت من هذه التعالقات الاسنادية التي تخرج على نطاق المألوف لتدخل في حقل الصياغة اللغوية الاستثنائية ، فيترتب على هذا خضوع النسق اللغوي لمنطق خاص ، تتبلور في ضوئه فنية الخطاب الذي يصبح ، في هذه الحالة ، مكتفيا بذاته ، حيث اللغة لا تحيل إلى أي شيء خارجها ، بل إلى ذاتها فحسب ! هذا من جهة .
و من جهة أخرى ، فقد توافرت في هذه الأسطر سمات فنية أخرى ، تعزز البناء الشكلاني للقصيدة ؛ من نحو ذلك ، مثلا ، ابتداء الجمل بأفعال ماضية خلقت متوالية تمثلت فيها بنية إيقاعية ، كان يمكن أن تزداد تبلورا لو أنها تحررت من ثقل واو العطف ، تعززها موسقة الأبيات و تنغيمها من طريق عدد من التماثلات الصوتية الواقعة في أواخر المفردات ، مثل التاء في : ( خلعت ، انتبذت ، توضأت ، فضضت ، رمت ) ثم استعمال كلمات ذات أحرف لينة قابلة للمد ، يسرت عملية تنغيم الجملة الشعرية و إدامة التدفق الموسيقي فيها ، من نحو الألف غير المكفوفة عملا ، في ( ثياب ، مكان ، رماد ، الندى ، البلاد ) و كذلك الواو في ( النجوم ) .

معين جعفر محمد / العراق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: حفني مش بيعمل جناس عا


.. عوام في بحر الكلام-الريس حفني ترك المعمار واتجه إلى الغناء..




.. عوام في بحر الكلام - أسطورة شفيقة ومتولي .. الشاعر محمد العس


.. رواية جديدة حول مكان السنوار




.. عوام في بحر الكلام -ليه نظلم شفيقة.. الشاعر جمال بخيت يحكي ق