الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهادة القطرس

صبحي حديدي

2005 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


في برنامجه الممتاز «شاهد على العصر»، على قناة «الجزيرة»، يبدو أحمد منصور وكأنه لا يُشهِد بطرس بطرس غالي على عصره فحسب، بل يصارع من أجل اعتصار حكم قيمة على صفحات محددة في تاريخ الرجل، ذات صلة بعهد أنور السادات تحديداً، وباتفاقية السلام بين مصر والدولة العبرية. وفي يقيني أنّ منصور محقّ تماماً في هذه المقاربة الأخلاقية إذا صحّ القول، خصوصاً وأنّ العالم العربي ــ وفي القلب منه مصر، بالطبع ــ يعيش اليوم أيضاً عواقب تلك الحقبة ومآلاتها ومفاعيلها.
وأعترف أنني لم أشاهد كامل الحلقات، إلا أنّ ما شاهدته حتى اليوم يقودني إلى ترجيح أن تكون هذه بين أخطر ما أنجزه منصور من شهادات على العصر، لأسباب تتصل أيضاً بالروحيّة «الهجومية» التي يعتمدها منصور، وبراعة غالي في تنظيم الهجوم المضادّ، وقدرة الرجلين في المناورة وردّ الصاع.
والمرء هنا يتذكّر كتاب غالي «طريق مصر إلى القدس: قصّة دبلوماسي عن الصراع من أجل السلام في الشرق الأوسط»، الذي صدر سنة 1997، خصوصاً وأنّ فصول المذكرات تلك تقتصر على سنوات عمله مع أنور السادات، وصولاً إلى زيارة الأخير للقدس وإلقائه الخطاب الشهير في الكنيست. وبالطبع، عزاء القارىء أنّ تلك السنوات لم تكن عجافاً البتة، أو هي لم تكن أقلّ خصوبة من سنوات تناطح غالي مع وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت، والتي تنطوي بدورها على «ألغاز» مثيرة، وإنْ من نوع آخر.
وقراءة مذكرات غالي تجلب الكثير من المتعة (خصوصاً حين تمتزج بالمفارقة السوداء أحياناً)، والقليل من الألغاز، وبعض التعاطف المتأخر مع شخصية تبيّن أنها تراجيدية في نهاية الأمر، في حين أن المرء كان يملك كلّ الأسباب للظنّ بأنّها كانت أقرب إلى الميلودراما. كيف لا، وها هنا رجل يجرّنا منذ الصفحات الأولى إلى نبوءة تقشعر لها الأبدان، حين يقول: في مطلع القرن أقدم متطرفون مصريون على اغتيال جدّي (رئيس وزراء مصر آنذاك) لأنه تساهل مع الاستعمار البريطاني؛ ولو أنني كنت إلى جانب السادات يوم مصرعه لكان المنطق يقتضي أن أخرّ إلى جانيه برصاص المتطرفين أنفسهم، حتى ولو اختلفت التواريخ وتباعدت الأزمنة! وماذا نقول له حين يخبرنا أنّ ضمير السادات كان مع انتزاع الحدّ الأدنى من حقوق الفلسطينيين في دولة مستقلة، وأنّ عقله لزم جادة الصواب ففاوض من أجل مصالح مصر وحدها، وطنّش عن الجميع بمن فيهم مستشاره الأمين بطرس بطرس غالي؟
ولكن... هذا رجل يدين بصعود نجمه السياسي إلى أنور السادات، الذي عيّنه وزير دولة للشؤون الخارجية لكي يرافقه في رحلته «التاريخية» إلى القدس عام 1977 بعد استقالة اسماعيل فهمي ومحمد رياض. وهذا هو الرجل الذي ورث كامب دافيد وأصبح رمزها وشبحها المقيم بعد رحيل السادات. فأين كان حين استسلم السادات لهذا الاختلاط المرعب بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي في رحلة اختراق المحرّم و«الصلاة» في القدس الشريف؟
المذكرات تنبئنا أنّ غالي بلغ الهرم الأعلى من السلطة، وأنه كان يراكم الإحباط فوق الإحباط لأنّ السادات كان يصغي إلى دراسات وتحليلات الإسرائيليين، أكثر بكثير من تلك التي ينجزها مساعدوه ومستشاروه، بعد مشقة تمتدّ من آناء الليل إلى أطراف النهار. هل كُتب على الرجل أن يكون ضحية قوة ميتافيزيقية عليا، أياً كان المنصب الحساس الذي يشغله؟ ربما، خصوصاً حين نتذكّر أنه مُني بأقدار متتالية وضعته وجهاً لوجه أمام بشر أقرب إلى الأرباب والأساطير: السادات بوصفه فرعون مصر والعقل الوحيد البراغماتي في العالم العربي، أو جورج بوش الأب بوصفه الملك آرثر ومخلّص عالم ما بعد الحرب الباردة من نماذج هتلر كما يعيد إنتاجها أمثال نورييغا وصدّام حسين وفرح عيديد، أو مادلين أولبرايت بوصفها ميدوزا أواخر القرن العشرين، ربّة الأفاعي التي تحيل من ينتهك حرمة مملكتها إلى تمثال حجري؟
من الثابت أنّ الرجل لم يتمكن من حيازة صورة برسيوس، البطل الإغريقي الذي أجهز على ميدوزا بالحيلة، سواء في سنوات صعوده الساداتية، أم في سنوات صعوده وأفوله في أروقة الأمم المتحدة. صورته، على العكس، كانت صورة القطرس Albatross، الطائر الجنوبي التراجيدي الذي ينهك قواه بالتحليق قريباً من البشر في عرض البحر دون سبب مفهوم... ودون نتيجة ملموسة أيضاً! وكان الصحافي الأمريكي مايكل ليند، رئيس التحرير التنفيذي لمجلة National Interest، قد اكتشف القرابة اللفظية بين القطرس والبطرس Alboutros، فاستخدم اللقب في مقالة شهيرة ضدّ هذا الطائر الغريب الذي يعتمر القبعة الزرقاء ويُكثر من الرطانة حول علاقة الشمال بالجنوب، ويستخدم لغة لا تستسيغها الصقور والجوارح.
مع شخصية مثل هذه ليست مهمّة أحمد منصور يسيرة، ولكنها على الأرجح لن تكون عسيرة. إذا لم يكسر بطرس بطرس غالي الصمت اليوم، ويميط اللثام عن الألغاز، معظمها إنْ لم يكن جلّها، فمتى سيفعل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل حسن نصر الله.. هل تخلت إيران عن حزب الله؟


.. دوي انفجار بعد سقوط صاروخ على نهاريا في الجليل الغربي




.. تصاعد الدخان بعد الغارة الإسرائيلية الجديدة على الضاحية الجن


.. اعتراض مسيرة أطلقت من جنوب لبنان فوق سماء مستوطنة نهاريا




.. مقابلة خاصة مع رئيس التيار الشيعي الحر الشيخ محمد الحاج حسن