الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصحافة وطبيب الأسنان

منى زكي

2005 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


المفكر الأمريكي الكبير نعوم تشومسكي اقتنع ذات مرة بأن اضطراره إلى مراجعة طبيب الأسنان كثيراً لم يكن بسبب نخر الأسنان أو اهتراء اللثة أو تصدع الفك، ببسبب مطالعاته في صحف الصباح، وخصوصاً موعده اليومي مع صحيفة «نيويورك تايمز» تحديداً! وتشومسكي كان يقرأ حتى قبل الإفطار، فلا يجد نفسه إلا وهو يصرّ على الأسنان غضباً وغيظاً من هذه الصحافة التي تشوّه الاحداث أو تقلبها رأساً على عقب.
ونحن في العالم العربي نملك، ولله الحمد، عشرات نماذج الـ «نيوروك تايمزات» المصغّرة التي تفعل بنا الأعاجيب، مع حفظ الفارق طبعاً بين صحافتنا وصحافتهم، وبغض النظر عن اعتراضاتنا على الإعلام اليانكي. وعذاباتنا تزداد في المناسبات الخاصة، حين يتوجب على الصحافة أن تتحلى بالحد الأدنى من الحرص على احترام عقول القراء، فيحدث العكس تماماً: المزيد من الأكاذيب، والمزيد من التشويه، والمزيد من الافتراء.
وهذا ما وقع اليوم، 30 يناير، موعد الانتخابات في العراق.
غسان شربل رئيس تحرير صحيفة "الحياة" اللندنية، ولكن النيويورك ـ تايمزية بالمعنى التشومسكي، كتب يحلل هذه الانتخابات، فأعاد إنتاج السلسلة ذاتها من الكليشيهات الرائجة في سوق تحليلات العراق (وهذا لا يدعو إلى كثير من الصرّ على الأسنان)، لكنه انتهى إلى هذه النتيجة الميلودرامية: «إنها انتخابات أوسع من حدود العراق، فهي تطرح مسائل كثيرة أولاها قدرة العراقيين على تنظيم رقصة التعايش في عراق موحّد»...
نعم: تنظيم رقصة التعايش! لا نعرف، بالطبع، ما إذا كانت الرقصة المطلوبة من النوع الذي يبدأ حنجلة، أم هي رقصة التانغو التي تشترط وجود شريكة، أم هي رقصة التويست التي لا تبدأ حنجلة ولا تحتاج إلى شريكة! وفي كلّ حال، هل الرقص هو الكناية المناسبة في سياق تمثيل الانتخابات العراقية؟
خالد القشطيني، كاتب العمود الثابت في صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، وهي للإنصاف واشنطن ـ بوستية أكثر منها نيويورك ـ تايمزية، لم يستلهم من هذا اليوم الأغرّ ــ الذي يُفترض به أن ينقل العراقيين خطوة جوهرية على طريق الديمقراطية وإنهاء الاحتلال والتعددية والتسامح ــ إلا فتح نيران المدفعية الثقيلة على مَن يخالفونه الرأي: «أينما تذهب في هذه الأيام تسمع الكثيرين من القومجية والوطنجية والإسلامجية يرددون: إلم نقل لكم؟ غزو العراق وإسقاط صدّام حسين سيكون كارثة ما بعدها كارثة؟»... والحال أنّنا نحتار في فهم الفارق بين «القومجية» و«الوطنجية»، لولا «الشرائح» التي يضيفها الكاتب إلى اللائحةً، فيبدد حيرتنا حين ندرك أنه يلقي الكلام جزافاً: «يشاركهم في ذلك بالطبع الكثير من اليساريين والليبراليين في الغرب، ولا سيما التروتسكيون...»! مَن الذي تبقى، إذا كان الليبراليون أيضاً في السلّة؟
ولو كانت "القدس العربي" تصدر يوم الأحد، يوم الانتخابات، فإننا نتخيل بسهولة افتتاحية رئيس تحريرها عبد الباري عطوان، بالمفردة والنقطة والفاصلة، وذلك رغم أن هذه الصحيفة تزعم أنها لا تحبّ "واشنطن بوست" وتكره "نيويورك تايمز". وفي كل حال، قبل يوم واحد كان عطوان قد تنبأ لنا بالويل والمصيبة، وكتب يقول: "العراق يتحلل.. ويتجه بسرعة قياسية نحو التفتيت على أسس طائفية وعرقية، مما يؤكد ان نبوءة الكاتب اليهودي برنارد لويس، التي أطلقها في مجلة فورين افيرز الأمريكية، وباتت العمود الفقري لاستراتيجية المحافظين الجدد في المنطقة، أصبحت على وشك التحقق عملياً"!
فإذا غادرنا السياسة، وانتقلنا مثلاً إلى الثقافة، فإننا سنكتشف أنّ عبدو وازن، المحرر الثقافي في "الحياة" يصحو على رواية نورما خوري «الحبّ المحرّم»، فيمتدحها لأنها «رواية جميلة ومؤثرة»، و«رواية ذات طابع ميلودرامي عميق»، و«رواية عاطفية جداً» و«ذكية جداً». وهذا التثمين يظلّ حقّه الشخصي المطلق الذي لا يُنازعه فيه أحد، إلا حين يقول إنّ الرواية «واقعية جداً!»...
واقعية جداً؟ هل هي واقعية بمعنى المصطلح الأدبي، وفي هذه الحال ما معنى «جداً» هنا؟ وما معنى إشارة التعجّب التي تعقب الـ "جداً" وكأنها تسخر وتشكك؟ وكيف تكون واقعية بمعنى المصطلح، وهي في الآن ذاته ميلودرامية، وعاطفية... بمعنى المصطلح الأدبي أيضاً؟ أم هي واقعية لأنها مستمدة من الواقع، بدليل الإحصائيات التي يردفها الكاتب حول أرقام جرائم الشرف؟ ولكن... ألم تجد نورما خوري نفسها مضطرّة إلى الإعتراف، على رؤوس الأشهاد، أنها كذبت حين زعمت أنّ الحكاية واقعية، وأنها هي البطلة الحقيقية؟
في الصحيفة ذاتها يوحي خالد المعالي أنه سيطرح أسئلة كبرى عن "أحوال المثقف العربي"، وسرعان ما نكتشف بسهولة أنه لا يتعامل مع القراء إلا كتلاميذ في مدرسة، مفترضاً اننا لا نعرف من المعلومات أكثر ممّا يلقننا. إنه يقول مثلاً: " لننظر إلى هذه الأسماء، من يعرفها خارج البلدان العربية: عبد الله العروي، علي حرب، فتحي بن سلامة، حسين أحمد أمين، عزيز العظمة، كنعان مكية، محمد سعيد العشماوي، سعد الدين ابراهيم"؟ وهذا طبعاً تهويل وتجهيل، لأن معظم هذه الأسماء معروفة في الغرب وأعمالها مترجمة أو مكتوبة أصلاً بلغات أجنبية، خصوصاً العروي والعظمة وابراهيم. وعلى الأقل، ألا يعرف خالد المعالي أنّ كنعان مكية مشهور في أمريكا وبريطانيا، ومقالاته تُنشر في أكبر الصحف والمجلات الغربية؟
ويبقى أنّ تمويل هذه الصحافة يأتي في معظمه من مصادر خليجية، ولهذا فإنّ من الهامّ أن نتذكر استطلاع رأي أجراه مركز الدراسات والأبحاث الاستراتيجية في الإمارات، وأفاد أنّ 75% من شباب وشابات منطقة الخليج العربي يفضّلون مشاهدة الأقنية الأجنبية وقراءة الصحف الاجنبية، لأنّها على الأقلّ لا تكذب أو تشوّه أو تستغفل عقول القرّاء كما تفعل معظم وسائل الإعلام العربية.
وهذا من جانب آخر أفضل من الحلّ الذي يجعل القارئة أو القارىء يدمن على مراجعة طبيب الأسنان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب: ما الغاية من زيارة مساعدة وزير الدفاع الأمريكي تزامن


.. روسيا تنفي ما تردّد عن وجود طائرات مقاتلة روسية بمطار جربة ا




.. موريتانيا: 7 مرشحين يتنافسون في الرئاسيات والمجلس الدستوري ي


.. قلق أمريكي إيطالي من هبوط طائرات عسكرية روسية في جربة التونس




.. وفاة إبراهيم رئيسي تطلق العنان لنظريات المؤامرة • فرانس 24 /