الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قبض .... قصة قصيرة

سماح عادل

2005 / 2 / 2
الادب والفن


قبض
قصة قصيرة
سماح عادل

خرجت قبله تساءلت وهي لا تذكره .
- امشي يعني .
- أيوه .
سارت بخطوات بطيئة . وهي ما تزال لا تفهم . تمسك هاتفها المحمول- وشال الرجل الأبيض ما زال على كتفها – هي وحدها في الشارع . تستطيع أن تجري . أو تتوقف عن السير . نظرت للناس . لا احد يراها. ركبت الأتوبيس . غير مصدقة أن هناك أناس تركب في سكون . وتنظر إلى اللاشيء عبر النوافذ المحطمة . وتمتليء خلايا مخها بمتطلبات كثيرة حياتية .
هاتفت صديق . ولم تستوعب انه يرفض مقابلتها , متحججا بالرغبة في النوم .

* * *

وسط الزحام الشديد, وصلت إلى باب الدخول , بعد طابور طويل, تمهلت قليلا في السير, رغم الهاجس الذي يدور داخلها .
- يا آنسة يا آنسة .
نظرت إلى الخلف . فهمت . استمرت في السير . وكأنها لم تسمع . جرى ورائها . آثرت الوقوف .
- وريني البطاقة .
- مش معايا .
-طب لو سمحت اطلعي معاه خمس دقايق .
أدركت انه لا مفر . صعدت السلم لترى حوائط حديدية . وشبان يقفون في رهبة – هي الفتاة الوحيدة – وجدت ضابط وسيم. لم تكن تعرفه ,لكنها سمعت عنه كثيرا . قال لها في كبرياء وسخف:
- طب مش تقولي السلام عليكم, ولا صباح الخير .
ردت في هدوء :
- السلام عليكم وصباح الخير.
اخذ الحقيبة من يدها . وفتشها بنفسه, رغم انه ذا رتبة – لا تعلمها جيدا, لأنها لا تفهم في ذلك – وجد علبة سجائر .وعلق على ذلك بسخرية . جاء من يعلوه في الرتبة , ليساعده في التفتيش . سألت عن سبب احتجازها . راوغ قائلا أنها تعلم جيدا .
وجدوا في حقيبتها ورقة مكتوب فيها ((السؤال عن مكان الجامعة الأمريكية ومن المسئول عنها )) كتبها مندوب دار النشر العربية ,التي تعمل فيها مؤقتا في معرض الكتاب, لكي تسال له عن إصدارات الجامعة الأمريكية, اعتبرها الضابط وسيده تكليفات لها. أمروا بترحيلها إلى لاظوغلي. بدأ الخوف يتسرب .
- اقفي بعيد .
أخذت الحقيبة. أسندت ظهرها على الحائط في ثقة ظاهرية . بدأت تستوعب المكان . حوائط حديدية ,كالتي تغلق بها المحال, مقسمة إلى خانات لاحتجاز الأفراد , ومكتبين احدهما للطابط الوسيم ,والآخر لرجل لا تخلو ملامحه من صرامة . رأت رجلين ملتحيين , وشبانا آخرين , يبدو من مظهرهم أنهم لصوص كتب ,أو ضبطوا بمواد مخدرة..
لأول مرة تقع في قبضتهم كمحتجزة .المرة السابقة تم استدعائها , واجبرها عمها أن تذهب , حيث رافقها إلى هناك , كانت غير مبالية , تمتلكها جرأة الشباب وحماسهم , الذي يختلط بفخر التضحية في سبيل المباديء . لذا فقد أخذت تسخر في إجاباتها عليه , ولم تبال بتهديدات المحقق ,الذي اجتهد في جعل وجهه مخيفا .
تحقيقات الجامعة , بالنسبة لهذا الاستدعاء - الذي أرعب أسرتها- تعد لا شيء , تقوم بها موظفة عجوز , تضع باروكة مضحكة , ونظارة كبيرة , تأكل نصف وجهها الدميم . هذه المرأة , التي تدعى رئيسة قسم الشئون القانونية, بكلية الآداب , جامعة القاهرة , تصنع المحضر , ثم تفصلها لمدة 21 يوم , وتجعلها تنصرف , دون أن تتكلم أية كلمة..
أما الاستدعاء فكان لا يخلوا من بعض الرعب ,لأن المكان وحده يبعث على الفزع , بهدوئه وبعده عن المنطقة السكنية. كان ذلك منذ فترة طويلة .
- دخلوها جوه الحجز .
ادخلوها إحدى الخانات . وجدت رجل جالس على الكرسي الوحيد بالمساحة الضيقة . أوشكت أن تتبادل معه الحديث – رغم انه كان مرتابا – حينما أمر الضابط أن يخرجوه من عندها . لم تفهم سبب غضبه . اندهشت من إصراره على أن يعطيها نقودها – القليلة – وكذلك هاتفها المحمول , وحقيبتها . ظنت أنها خدعة .
الساعة تجاوزت الثانية عشرة . تأخرت عن موعد العمل ساعتين . لابد أن موسى , مندوب دار النشر, سوف يقلق عليها .الآن ليس لديها رصيد . أمسكت الهاتف بيديها الاثنتين . رأت رقم موسى , وقبل أن يسمع صوت الاتصال , ردت هامسة:
- أنا مقبوض عليا امن دولة . بلغ صحابي .
أغلق سريعا . ارتاحت لأنها أبلغته . فقد كانت تخاف ألا تتمكن من إبلاغ احد – اكتشفت بعد ذلك انه ظنها تمزح , لتهرب من العمل – نزلت مع رجل , تكلف بإيصالها للمكان المحدد . أمره آخر بكلبشة يديها . مدت يدها مستسلمة . صرخ رجل كبير , يبدو انه عقيد أو ما شابه:
-لاء ما تكلبشهاش , أنت فاكرها إيه , اتفضلي معاه . ما تعقدهاش مع الرجالة .
أحست بالامتنان . تقززت فورا من ذلك .
اندهش المرافق , الذي يبدو عليه انه مخبر , ونظر لها باستخفاف , وجاء آخر:
- أنت ممسوكة في إيه يا بت .
فكرت أن السكينة أفضل حل للموقف , فأي انفعال قد يؤدي لنتائج عكسية .
- مظاهرات .
ضحكت لفكرة أنها تعترف بنفسها . لكن هذا أفضل من أن تعامل كعاهرة , أو لصة . سكت الرجل , الذي لم يفهم . مشت خطوات كثيرة . يحوطها الرجلين يمينا ويسارا . فكرة الجري ,أو الصراخ , جنون . الناس , في ساحة المعرض , قريبين جدا .والمكتبات لها رؤية مختلفة عن رؤية كل يوم ,تأتي فيه للعمل .فكرت لو صرخت ,وأعلنت أنها مقبوض عليها ظلما, هل يجدي ذلك؟ هل يتحرك هذا الزحام الشديد لفعل شيء ؟ تذكرت تجارب الرفاق . ضرب احدهم بوحشية , بعد أن أعلنوا انه تاجر بانجو..
فتح الباب الخلفي لعربة زرقاء مهولة .كانت ترى الناس فيها يطلون من كوات ضيقة جدا ,ومغلفة بأسلاك حديدية . حتى هذه المتعة لم تتح لها . فقد وضعوها في خانة صغيرة , في مؤخرة العربة ,أغلق البابا . أخرجت علبة السجائر ,التي خططت أن تبقيها لأيام - كخزين شهي للنيكوتين - رمتها تحت الكرسي . وهي تتمنى لمن يأخذها الشر . جلست على الكرسي الحديدي . هناك كوة عالية .لا تستطيع منها تحديد ملامح الشوارع . العربة تسير في تخبط , يجعل جسدها ككرة تتراوح بين جدرانها .جلست على الأرض , متشبثة بها . لا يعلم احد أنها هنا .حتى لو علموا ماذا سيفعلون ؟ لقد تركت العمل العام منذ سنوات . وتلاشت علاقاتها بالجميع . والمظاهرة ,التي أعلنت منذ أيام ,لم تكن تنوي حتى مشاهدتها .ظنت أنهم لن يأخذوها ,لأنها تعمل في المعرض ,وتأتي كل يوم ,كما أنها لم تحضر جلسات اللجان , المتشابكة والمهومة ,التي يعقدونها , ويعلنون فيها عن مظاهراتهم الاعلامية - علمت بعد ذلك أن إحدى المناضلات ,العظيمات ,اعلنت في جلستها المريحة ,أن مظاهرة معرض الكتاب سوف يتم اعداد اشياءها ,وادخالها بواسطة الشباب ,الذين يعملون في المعرض ...
لن يبحث عنها احد . ربما رفيق أو اثنين , ممن احتفظت بصداقتهم . ورغم أن منهم محاميا , إلا انه لن يصل ابدا للداخل . فالمحامون مسموح لهم فقط بالدخول للاقسام , أو للنيابة .وهذا أيضا حق مشكوك فيه لكثيرين .
الرعب يزداد . هي تخاف الالم . تستعيد كل تجارب الاخرين . والتي لم تكن تتلهف لسماعها – خاصة الفتيات – اقصى ما حكي لها , بعض صفعات على الوجه والقفا , واحتجاز لساعات حتى الليل . لا تذكرت , فقد قبض على صديقتين لها , وتم ايداعهم في سجن النساء بالقناطر , في عنبر الدعارة . وامتد ذلك لاكثر من اسبوعين . رحبت بالفكرة . فالسجن ارحم من الاحتجاز في القلعة المحصنة . كما أنها تجربة قد تمتعها , وتدخل لحياتها, الرتيبة , شيئا مسليا . والاهم , هو الفخر ,الذي سيلتصق بها طوال العمر . حينما تحكي أنها سجنت كمناضلة .
فكرت أن كفرها بجدوى المباديء ,وصدق الرفاق , ونزاهة العمل العام ككل ,هو ما يضعفها الآن . عندما كانت في الجامعة , كان احساس الانتماء لجماعة سحرية , يملأ كل فراغات حياتها. يقويها تجاه ابيها العنيف , الذي يصر على أن تقضي ايام الفصل ,كنتيجة لتحقيق الجامعة , في البيت . رغم انه يحتفظ بخطاب الفصل. يفتخر به أمام زملائه في العمل .
نزلت من العربة, بعد مقاومة احساس التقيؤ ,فتح الباب الرئيسي للعربة .رأت وجه مالوف . لشاب من جامعة عين شمس . لا تذكر اسمه . ورجليين ملتحيين .أحست ببعض السكينة .
- وشكوا للحيط .
أخذت تنظر للشارع . لا احد قريب . لكنه شارع عادي . سارت فيه مرات .كيف لم تلاحظ وجود لاظغولي فيه .
- غموا عنيكوا .
أعطت للشاب شالا, كانت تضعه على صدرها, لتخفي تضخم حجمه. لمست ذراعه, لتشجع نفسها. لم يكترثوا لعينيها المكشوفة.دخلت إلى المبني المجهز حديثا. فكرت أن بعض اللامبالاة قد تكسبها قوة . ركزت على التشبث بهاتفها المحمول . والذي كان لا يساوي شيئا , لان الجهاز قديم جدا . ألحت في التساؤل عن مصيره .كوسيلة لإعلان تجاهل الخوف من مصيرها . دخلوا جميعا لممر طويل . على جانبه حمام تفوح منه رائحة البول . وفي آخره مكتب حديدي . يجلس عليه موظفون , منهم عجوز يبدو عيه سمات موظفي الحكومة . أجلسوها في ممر جانبي . أمام مكتبه . على كرسي متهالك .اكتشفت أنها أمام باب ,تقع خلفه زنزانات ,لمحتجزين إسلاميين , تشبه السجن , الذي قرأت عنه في الروايات فقط . سألها موظف عن سبب احتجازها . أجابت :
- مظاهرات .
رفت جفونه .واخذ يتحدث عن المظاهرات .تبادلت هي حديث محايد ,مختلسة , بين حين وآخر ,نظرة للشاب , الذي كان يغمز بعينيه مشجعا ,فترد عليه بابتسامة طفولية..
سألها الشاب عن حلوى ,لان الهبوط فاجأه .سألت الموظف عن شراء طعام .أرسل في طلب ( عيش وحلاوة ).أعطاها منه . وأعطى الشاب والرجلين . نظرت لطعام السجن , ورغم أنها لم تكن جائعة تناولته ,وهي تنظر لقطة تحتضن أطفالها ,في كرسي مواجه .
تبدد الرعب . استعادت عاديتها . مدعمة ذلك بنظرات للشاب .اخذ الشاب والرجلين ,بعد أن أمروا بتغطية عينيهم . تأخروا قليلا . جاء رجل قصير ليأخذها . سأله الموظفون ,الذين يحادثونها ,
- في إيه.
- شيوعية.
نظروا لها باحتقار أرعبها ,لأنها فهمت أن إمكانية التعاطف معها مستحيلة.احضروا شالا ابيض, من إحدى الزنازين, تفوح منه رائحة عرق رجل. تأكد المرافق من إحكام ربط الشال. امسك بيدها لتصعد سلم حديدي . تخاف من فكرة كسر عظامها .
- ما تخافيش .
تشبثت بذراعه. عدم رؤية الخطر المحيط أفظع من الوقوع فيه .وقفت أمام غرفة التحقيق .فهمت ذلك من الأصوات .
- ياابن الوسخة . بتكدب يا ابن المتنا...
صراخ المحقق يوحي انه يستخدم يديه. دق قلبها .بكت دون صوت . نزلت الدموع على خديها . همس المرافق مع احد يبدو عليه التعاطف .
- هي مالها .
- شيوعية .
كررت لنفسها انه ضعيفة , لأن ظروفها الانية سيئة . لا لأن ذلك أحد سماتها الشخصية . فهي بدون عمل ثابت , مما يعني احتمالية طردها من مسكنها المؤجر . ولا تعلم , بعد ذلك, النتيجة النهائية لانسياقها وراء المناضلين .
صوت المحقق هاديء , يكاد يمتليء ترغيبا .
- تعرفي تروتسكي .
- لاء ما اعرفوش .
- أنا شوفتك من سنة ونص قدام نقابة المحامين, في مظاهرة, وكنت بالامارة لابسة بلوزة برتقاني . أنت مش لابساها ليه ...صمتت .
- ردي .
- علشان عندي هدوم تاني .
- أنت قصيتي شعرك ...صمتت .
استحثها آخر , يجلس أمام مكتب المحقق ,على الرد .
-هو أنت جايبني علشان تسالني على شعري .
- ردي على البيه الضابط كويس, لاحظي انه بيحترمك لحد دلوقت .
- ايوه قصيت شعري .
سالت عن هاتفها المحمول . فقال انه سيعطيه لها عند الخروج .لكن للاسف لقد صدر بشانها خطاب اعتقال , لمدة لا تقل عن شهور . ثم اخذ يسالها عن اشياء جعلتها تكتشف زيف قوتهم . فهم لا يعلمون عنها شيئا . كانت تتخيل أنهم يعلمون كل شيء . ويصلون لكل شيء – تلك التصورات الخرافية , التي بثها بعض الرفاق – خاصة وان تفاصيل حياتها مكشوفة للجميع . بررت ذلك بانها أمام جهة لا تتبع لها . فهي , بحكم جامعتها المتخرجة منها, تتبع جهة أخرى . عرض أن يجد لها عملا . وطلب منها أن تأتي يوما آخر , للحصول على بطاقة تحقيق الشخصية .
- لاء ممكن اطلع بدل فاقد .
- يعني مش عايزة البطاقة .
- لاء شكرا .
تركوها فترة طويلة. ثم ادخلوها مرة أخرى .كانت لهجته مهذبة وحنونة .
- أنا خايف عليكي .. أنت بنت .. وحرام تضيعي مستقبلك .
فهمت أنها ستخرج . تضايقت لفكرة أنها لم تقض لحظات تستحق الحكي . والتفاخر . الحدث كله لا يساوي شيئا . هي هكذا دوما . حتى في القبض عليها . تؤخذ دون أن تفعل شيء . ودون أن تستطيع أن تتباهى ........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نابر سعودية وخليجية وعربية كرمت الأمير الشاعر بدر بن عبد الم


.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24




.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو