الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أن تقتُلَ طَفلاً - قصة قصيرة مترجمة عن السويدية

كريم راهي

2012 / 5 / 29
الادب والفن


أن تقتُلَ طَفلاً

ستيغ داغرمان (1923-1954)

ترجمها عن السويدية: كريم راهي

إنَّهُ ليومٌ جميلٌ، الشمسُ مائلةٌ على السهلِ. سُرعانَ ما ستُقرَعُ الأجراسُ، فاليومُ أحد.
بينَ حقلَيْ جودار يجِدُ يافعانِ ممراً لم يسلُكاهُ من قبلُ، وفي قرى السهلِ الثلاث، تنوسُ الشبابيك. يحلقُ رِجالٌ ذُقونهم قِبالة المرايا على موائد الطعام، بينما تُقطِّعُ نسوةٌ الخبزَ لأجلِ القهوة مُترنماتٍ ويُقعي أطفالٌ على البلاطةِ وهم يُزرِّرونَ أثوابَهُم.
إنه الصباحُ البهيجُ ليومٍ مُكْفَهِرٍّ. لأنَّ طِفلاً في القريةِ الثالثةِ سيُميتهُ رجلٌ جَذِلٌ. لا يزالُ الطفلُ على الأرضِ يُزرِّر ثوبَهُ والرجلُ الذي يحلقُ ذِقنهُ يقولُ أنهم سينزلون اليومَ في جولةٍ بالقاربِ في الجدولِ والمرأةُ تترنَّمُ وتضعُ الخُبز الُمقطَّع تواً في طبقٍ أزرق.
لا ظِلَّ يُخيِّمُ على المطبخِ بعدُ، بيدَ أن الرجلَ الذي سيُميتُ الطِفلَ يقفُ عند مِضَخَّةِ وقودٍ حمراءَ في القرية الأولى. إنه رجلٌ جّذِلٌ يصوِّبُ عدسةِ الكاميرا إلى عربةٍ زرقاءَ صغيرةٍ تقفُ إلى جِوارها صبيَّةٌ تضحكُ. وبينما تضحكُ الصبيَّة ويلتقطُ الرجلُ الصورةَ الجميلةَ، يقفلُ البائعُ غِطاء خزانة الوقود ويقولُ فلْيَكُن نهارُكُما سَعيداً.
تجلسُ الصبيَّةُ في العربةِ ويستلُّ الرجلُ الذي سيُميتُ طفلاً مِحفظةَ نُقودِهِ من الجيب ويقولُ أنَّهما سيمضيانِ إلى البحرِ وعند البحرِ سيستعيران قارَباً ويُجدِّفانِ بهِ أبعَدَ البُعدِ.
من الزجاجِ المفتوحِ تسمعُ الصبيَّةُ في المقعدِ الأماميِّ ما قالهُ وتُغمِضُ عينيها وترى في إغماضَتِها البحرَ والرجلَ معها في القارَبِ. لم يكُن غاضباً، بل سعيداً وجذِلاً وقبلَ أن يركبَ في العربةِ يقفُ للحظةٍ أمامَ الرادياتور الذي يلمعُ في الشمسِ مستمتعاً باللمعانِ وبرائحةِ البنزينِ والكرَزِ معاً. لا ظِلَّ يسقطُ على العربةِ ولا انبعاجَ في دعامتِها، ولا حمرةَ دمٍ حتى.
في ذاتِ الوقتِ الذي يغلقُ فيهِ الرجلُ في القريةِ الأولى بابَ العربةِ إلى شمالِهِ ويسحبُ زِرَّ التشغيل تفتحُ المرأةُ التي في المطبخِ في القريةِ الثالثةِ خِزانَتها ولا تجدُ سكَّراً. الطفلُ الذي كانَ قد زرَّر ثوبَهُ وعقَدَ حِذائَهُ يجثو برُكبتَيهِ على الأريكةِ وينظرُ إلى الجدولِ المتعرِّجِ بين شُجيراتِ الصُفصافِ وإلى القوارِبِ السُودِ المسحوبةِ إلى العُشبِ.
يفرغُ الرجلُ الذي سيفقِدُ ابنَهُ من حِلاقتَهِ فيُطوي الِمرآة. على المائدةِ تستقِرُّ أكوابُ القهوةِ والخُبزُ والقِشدةُ والذبابُ. السُكَّرُ فقط ما كان ينقصُ فتطلبُ المرأةُ من طِفلِها أن يعبُرَ مُهَروِلاً إلى آلِ لارسون ويقترضَ بعضَ القِطعِ.
بينما يفتحُ الطِفلُ البابَ يحُثُّهُ الرجلُ على الإسراعِ لأنَّ القارَبَ بانتظارِهِمْ على الساحلِ وإنهم سيُجذِّفونَ بعيداً كما لم يُجذِّفوا قبلاً. وعندما يعدو الطفلُ بعدئذٍ بينَ الحدائِقِ يُفكِّرُ طِيلةَ الوقتِ بالجدولِ والقارَبِ والأسماكِ التي تخبطُ وليسَ هنالك ما يُوحي بأن ثمانيَ دقائقَ فقط تبقَّت من حياتِهِ وأن القارَبَ سيبقى مطروحاً هناك لذلكَ اليومِ، ولأيّامٍ أُخَر عديدة.
ليسَ الطريقُ لآلِ لارسون ببعيدٍ، عُبورُ الشارِعِ فقط، وبينَما يقطعُ الطِفلُ الشارِعِ مهروِلاً، تسرعُ العربةُ الصغيرةُ الزرقاء في القريةِ الأولى. إنها قريةٌ صغيرةٌ بمنازلَ حمراءَ صغيرةٍ والناسُ المُبكرونَ الذين يجلسونُ في مطابِخِهم بأكوابِ قهوةٍ مرفوعةٍ يرَوْنَ العربةَ الُمندَفِعةَ عَرَضاً في الجهةِ الأُخرى مُخلِّفَةً وراءَها غيمةً من الغبارِ. يحدثُ ذلك سريعاً، أشجارُ التفّاحِ وأعمدةُ التلغرافِ المنصوبةِ تلوحُ للرجلِ الذي في العربةِ كظلالٍ رماديَّة.
تهبُّ نسماتُ الصيفِ من الكُوى، يندفعانِ خارجَ القريةَ، يمضيانِ بهدوءٍ وأمانٍ وسطَ الشارعِ، ولا يزالان وحدَهما في الطريق. جميلٌ أن تمضِيَ بإنفرادٍ تامٍ في طريقٍ منبسطٍ وعريضٍ، وأن تمضيَ أبعدَ في السهلِ المنسرح فذلك أجملُ. كان الرجلُ جَذِلاً وذا بُنيةٍ قويّة ، مُطوِّقاً جسدَ فتاتِهِ بذراعِهِ اليمين. غيرَ ممتعضٍ من شيءٍ، مُتعَجِّلَ الوصولِ إلى البحرِ. ليس بنِيَّتِهِ إيذاءَ دبّور. لكنَّهُ سُرعانَ ما سيُمِيتُ رُغمَ ذلك طفلاً.
وفيما يندفعانِ للأمامِ صوبَ القريةِ الثالثةِ تكفُّ الفتاةُ بصرَها لاهِيةً بأنها لن تفتحَ عينيها قبلَ أن يكونَ بوِسعِهِما أن يريا البَحرَ، وتحلُمُ وانحرافَ العربةِ في المنعرجاتِ السلسَةِ ، كم سيكونُ البحرُ منسرِحاً.
ولأنَّ الحياةَ قُدِّرَ لها أن تكونَ غايةً في القسوةِ، فإنه لدقيقةٍ ما قبلَ أن يميتَ رجلٌ جذِلٌ طِفلاً جَذِلا كذلك، وقبلَ أن تصرخَ فتاةٌ هلعاً،كان بوِسعِها الإغضاءَ وأن تحلُمَ بالبحرِ، وفي الدقيقةِ الأخيرةِ من حياةِ طفلٍ كان بوِسعِ والدَي الطِفلِ الجلوسَ وانتظارَ السُكَّرِ والحديثَ عن أسنانِ صغيرِهِما البيضِ وعن رحلةِ تجديفٍ بقارَبٍ، وسيكونُ لذاتِ الطفلِ أن يغلقَ بوّابةً ويُشرِعَ في عبورِ شارعٍ وفي يمينهِ قِطعٍ عِدَّةُ من السكَّرِ طيَّ ورَقةٍ بيضاءَ، وأن لا يرى طِوالَ تلكَ الدقيقةِ الأخيرةِ غيرَ جدولٍ لامعٍ طويلٍ عظيمِ الأسماكِ وقارَبٍ عريضٍ صامتِ المجاديف.
يأتى بعدها كُلُّ شيءٍ مُتأخراً.تنحدرُ بعدئذٍ عربةٌ زرقاءُ على جانبِ الطريقِ، وتكممُ فتاةٌ صارخةٌ فمَها بِيَدٍ فيما الأخرى تنزِفُ. ويفتح بعدَها رجلٌ بابَ عربةٍ مُحاوِلاً الترجُّلَ رُغم هلعِه.
تتناثرُ بعدَها قِطعُ سُكَّرٍ بيضاءَ في الدَمِ والحَصى و ينطرَحُ على بطنِهِ بلا حراكٍ طفلٌ ووجهُهُ مضغوطٌ بقوةٍ إلى الشارعِ. يهرَعُ شخصانِ لم يُتَحْ لهما أن يشرَبا قهوَتيهِما، من خِلال زُقاقٍ ليَرَيا مشهَداً لن ينسياهُ أبداً. ولأَنَّ الزمنَ، واقِعاً، لا يُداوي كُلَّ الجِراحِ، لأنَّ من أماتَ طِفلاً لم يصل البحرَ، من أماتَ طِفلاً يعودُ ببُطءٍ لمسكنِهِ تحتَ الصمتِ وإلى جِوارِهِ صبيَّةٌ بكماءُ بيدٍ مُضَمَّدة وفي كل القرى التي يقطعانها لا يريانِ أبداً إنساناً فرِحاً. الظِلال قاتمةٌ كلُّها،وعندما يفترقان يكونُ الصمتُ مازالَ مُخيِّماً ويُدركَ الرجلُ الذي أماتَ طِفلاً أنَّ هذا الصمتَ عدوّهُ وأنَّهُ سيحتاجُ أعواماً من عُمرِهِ ليهزمه بصراخِهِ بأنَّه لم يكُن خطَأَهُ.
لكنَّهُ يُدرِكُ أنّ ذلك محض هُراءٍ ولَكم تمنّى في أحلامِهِ الليليةِ أن يستعيدَ دقيقةً وحيدةً من حياتِهِ ليكونَ بوُسعه جعلها مختلفةً. لكنّ إرادة القدرِ مع من أماتَ طِفلاً كانت من القسوةِ بحيث جاء كلُّ شيءٍ متأخراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد