الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 17 اختطاف الثورة قبل الأخيرة

عبد المجيد حمدان

2012 / 5 / 29
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


17
اختطاف الثورة - قبل الأخيرة
في ثلاثينيات القرن الماضي ، وفي جبل العلويين ، شمال غرب سوريا ، ظهر شخص ادعى الألوهية . كان اسم هذا الشخص سليمان المرشد . إقطاعي كبير ، وأحد زعامات الطائفة العلوية . وصلت أخبار ألوهية المرشد إلى حاكم المنطقة الفرنسي . أصدر الحاكم أمرا بالقبض عليه ، وحرك قوة عسكرية للتنفيذ . كان المرشد في استقبال القوة . وفي ديوانه سأله الضابط الفرنسي أن كيف له إدعاء الألوهية ، والتصرف كرب لرعيته ؟ طلب المرشد إمهاله بعض الوقت ليقدم ردا شافيا على السؤال . أمر بعضا من أتباعه بإحضار كميات من نباتات شوكية – شوك البلاَّن ، القتاد أو شوك الجمال في بعض اللهجات - وفرشها على بيدر ، يستخدم لدرس الحبوب . ثم أمرهم بالصعود حفاة على الشوك ودرسه كما لو أنه القمح أو الشعير . فعلوا ما أمرهم به ، دون أن تند عن واحد منهم آهة تذمر ، رغم أن أرجلهم كانت تسيل دما ، من فعل وخز الشوك . التفت المرشد إلى الضابط الفرنسي وسأله : هل تستكثر علي أن أكون ربا لمثل هؤلاء ؟ تركه الضابط وعاد . واستمر ربا لرعيته بضع سنوات ، حتى كان عهد حسني الزعيم الذي نُفِّذ فيه حكم الإعدام .
ظلت هذه الحكاية ، التي كنت قد نسيتها ، تقفز أمامي ، وتلح على ذهني ، في كل مرة شاهدت فيها احتجاجا ، أو اعتصاما ، أو تظاهرة ، للمرشح الرئاسي المستبعد ، الشيخ حازم أبو إسماعيل . ولكم ساءلت نفسي أن كيف لحدث من هذا النوع ، وقع في مطلع القرن الماضي ، وحيث الجهل والفقر والأمية ضاربة الأطناب ، أن يتكرر في القرن الواحد والعشرين ، ومن أتباع بينهم الطبيب والمهندس والمحامي ، وحتى أستاذ الجامعة ؟!! كان مفهوما ، أو مبررا ، نشوء مثل هذه الظاهرة بين أتباع من الطائفة العلوية النصيرية . فكر هذه الطائفة قائم على حلول الله في جسد إنسان . وعندهم حدث آخر تجسيد لله في شخص الإمام علي بن أبي طالب . وعليه يكون غير مستغرب ، أو مقبول عقلا ، تجسد الله في شخص سليمان المرشد ، فالتعامل معه ، والخضوع له ، بصفته الرب ، الواجب تنفيذ مشيئته ، بكل الطاعة ، وبعيدا عن أي رفض أو تذمر . لكن أن يحدث هذا عند السنة ، وفي القرن الحادي والعشرين ، وفي مصر ، فهو العجب بعينه .
صحيح أن الشيخ أبو إسماعيل لم يَدَّعِ لا الألوهية ولا حتى النبوة . لكن أتباعه أغدقوا عليه من صفات الأخيرة الكثير . وهو لم يتبرأ ، وحتى لم يستهجن ولم يستنكر . وطريقة تصرف أتباعه ، في اعتصامهم في ميدان التحرير ، ثم أمام وزارة الدفاع ، لا تختلف كثيرا عن طريقة تصرف أتباع المرشد ، في الانصياع لأوامره . فرغم أنه كذب جهارا نهارا ، بخصوص جنسية أمه ، إلا أن هؤلاء الأتباع أصروا على أن كذبه وتدليسه لا ينقص من أهليته لاعتلاء عرش رئاسة الجمهورية شيئا . وأكثر من ذلك ، أن هذا الكاذب المدلس هو وحده المؤهل ، في رأيهم ، لاستعادة دولة الإسلام وتطبيق الشريعة .
ملاحظات :
هذه الحالة المستجدة تدفعنا إلى التوقف عند ، فالتمعن في ، سيل التحليلات السياسية ، التي تناولت الحالة العامة في مصر، التي تجري الانتخابات الرئاسية في ظلها . ولا أظنها تفيد القارئ ، الإشارة إلى حقيقة أنني ، يوميا ، أطالع ، أسمع ، أشاهد ، عشرات منها ، في الصحافة المصرية غير القومية - فما زلت لا أثق في الأخيرة - ومن الإذاعة – صوت العرب على وجه الخصوص - والفضائيات غير الحكومية . ونتيجة لهذه المتابعة تشكلت لدي الملاحظات التالية .
1. رغم أن التيار السلفي ، وأنصار حازم أبو إسماعيل قدموا ، بوضوح لا يقبل اللبس ، نموذجا صارخا على عمى التعصب ، وبالتالي خطورته ، وليس على مستقبل مصر وحدها ، ورغم تشكيل هذا التيار للكتلة الكبيرة الثانية في البرلمان ، بمجلسيه ، فإن حظوته باهتمام الكتابات والتحليلات السياسية ، لا تتناسب مع كل من حجمه ، 25 % من البرلمان ، أو مع نفوذه وتأثيره في البرلمان وخارجه . ويمكن القول ، وبعيدا عن السقوط في أخطاء التقدير ، أن الكتابات والتحليلات " تجاهلت " دور هذا التيار ، وتأثيره الحالي والمستقبلي ، على الحياة العامة ، خاصة الشقين الاجتماعي والسياسي منها .
2. الجانب الأهم ، والملفت للانتباه كما أرى ، تمثل في أن الكتابات والتحليلات دأبت على تجاهل فعل تأثير فكر وطروحات ومواقف هذا التيار ، على فكر ومواقف الإخوان المسلمين ، وحزبهم الحرية والعدالة . يحدث ذلك رغم أن المتابع لا تفوته ملاحظة أن هذا التأثير يبرز فعله في اتجاهين على الأقل : الأول يتمثل في دفع حزب الإخوان للتراجع عن مواقف مرنة ، تجاه قضايا اجتماعية ، اتخذها في وقت سابق ، نتيجة تأثره بعوامل مختلفة ، قادمة من المحيط الإقليمي ، أو أبعد من ذلك ، من المحيط العالمي . يقوم حزب الإخوان بهذا التراجع حرصا منه على شعبيته ، وعدم خسارة مؤيدين له ، لصالح هذا المنافس السلفي . ومثلا كان الرجوع عن موقفه المعلن من نسب تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور ، وتبني نسبة الخمسين بالمئة من داخل البرلمان ، والخمسين من خارجه ، مثالا واضحا على الخضوع لابتزاز السلفيين . والاتجاه الثاني ، وهو الأهم ، يتمثل في تسريع وتيرة خطوات الاستيلاء على الحكم ، أو التكويش على السلطات ، حسب التعبير الدارج في الكتابات والتحليلات .
3. لا يفوت أي مراقب يقظ رؤية أن حزب الإخوان يرى في حزب النور ، على وجه الخصوص ، والتيار السلفي على وجه العموم ، منافسه ، والأصح خصمه ، الرئيسي المستقبلي . وإذا كان يركز اهتمامه الآن على إقصاء خصمه المباشر ، التيار المدني ، الليبرالي ، اليساري ، القومي ، العلماني ، فإنه يعرف ، وعلى وجه اليقين ، أن معركته التالية ستكون مع هذا التيار السلفي ، بكتلته الأكثر تراصا ، والأكثر تحديا فكريا . ولأن التاريخ الإسلامي زاخر بالأمثلة على نوعية هكذا صراع ، فإن الإخوان يريدون الوصول إليه ، وهم في أقصى حالات القوة ، لضمان حسمه لصالحهم . ولأن أمثلة التاريخ شديدة الدموية ، فإن السيطرة المبكرة على مفاصل الدولة ، وأجهزتها الأمنية في المقدمة ، تغدو للإخوان ، ولحزبهم الحرية والعدالة ، أكثر من ضرورية ، لحسم هذا الصراع الذي يطل برأسه من الآن .
4-غلب على الكتابات والتحليلات ما يمكن وصفه بالإفراط في إظهار حسن النوايا ، وبالمغالاة في الإعراب عن الثقة ، وبالإفراط مجددا في إعلانات الإخلاص للديموقراطية ومبادئها وقيمها . وظل كل هذا الإفراط يسبق أي تناول – نقدي أو غير نقدي - لمواقف ، أفعال وأطروحات ، أحزاب التيارات الإسلامية ، وفي مقدمتها الحرية والعدالة الإخواني ، والنور السلفي – بالمناسبة هي تتجاهل تماما الأحزاب الأخرى كالأصالة مثلا - . وتقول بديهيات العمل السياسي بأن هكذا ممارسة ، هي في واقع الأمر ، غريبة على الممارسة الديموقراطية . وبعد حيرة في توصيف هذه الممارسة ، لكونها تحمل خليطا من سمات البساطة – ولا أقول السذاجة – السياسية ، ومن الرومانسية الثورية ، والمثالية الأخلاقية ، سأكتفي ، وليعذرني القارئ ، بتوصيفها بالرومانسية السياسية . وكمثال لو أننا توقفنا عند الجدل الذي دار حول تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور ، لرأينا كيف أن منطلقات ومرتكزات النقاشات التي دارت ، قادمة من بيئة بعيدة عن البيئة المصرية خاصة ، و العربية على وجه العموم . فأغلب الكتابات ، إن لم يكن كلها ، افترضت وجوب تصرف هذه الأحزاب الدينية ، تماما كمثيلاتها في بلدان الديموقراطيات العريقة . هذه الفرضية تتجاهل حقائق هامة ، أولها أن أحزاب بلدان الديموقراطية تقف على قمة جبل تراث ضخم ، شكلته خبرات ، تجارب ومعارك حزبية وسياسية كبيرة وكثيرة ، عبر مسيرتها العملية الطويلة . وثانيها أن أحزاب التيارات الدينية المصرية ، بافتراض احترامها لهذا الجانب من الديموقراطية ، أي التعددية الحزبية ، واحترام قواعد العمل السياسي الحزبي ، تفتقر لمثل هذا التراث . فهي حديثة الولادة . ولم تعش بعد حياة حزبية فعلية . كما لم تخض معارك حزبية وسياسية ، أنتجت خبرات ، يمكن أن يشكل تجميعها مثل هذا التراث . وثالثها أن التراث المبني على الخبرات السياسية ، يتشكل في بيئة ، وممارسة ، ديموقراطية طويلة ، وهو ما لم يحدث في مصر . ورابعها ، وهو الأهم ، أن هذه الأحزاب لا تؤمن بالديموقراطية من الأصل ، وتراها كفرا ، وبالتالي لا تؤمن بأهمية وضرورة العمل الحزبي ، كمكون أساسي من مكونات الديموقراطية . وهي – تيارات الإسلام السياسي – حين شكلت أحزابها ، فعلت ذلك من منطلق استغلال الوضع القائم ، وانتهاز اللحظة ، للتحرك نحو هدف الوصول للحكم ، فإقامة دولة الإسلام الدينية . وعليه يكون من السذاجة السياسية ، تصور أن هذه الأحزاب الدينية ، يمكن أن تلتزم بقواعد العمل الحزبي ، حتى لو أنها امتلكت تلالا من تراثه .
5 - وفي ظني أن رومانسية الكتابات والتحليلات تجلت ، أوضح ما يكون ، في تناول مسألة كتابة الدستور . جرى حديث كثير عن أن الدستور عقد اجتماعي . ولأنه أب القوانين ، كيف يتوجب أن يكون توافقيا ، لا تكتبه ، أو تستأثر به أغلبية ، مهما كان حجمها ، ليأتي ضامنا لحقوق أصغر الفئات من السكان ، وللعدالة ومبدأ المواطنة ......الخ . وكان أن استهجنت الكتابات والتحليلات محاولات استيلاء حزب الإخوان ، ومعه أحزاب تيارات الإسلام السياسي ، الممثلة في البرلمان ، على لجنة وضع الدستور . واستنتجت الكتابات والتحليلات ، أن دستورا يخرج عن هكذا لجنة ، تمثل الأغلبية البرلمانية ، لن يكون توافقيا ، كما لن يكون عقدا اجتماعيا أو ناظما لحقوق الجميع . وفي تناول هذه المسألة الكاشفة ، لم تأخذ مواقف وأفعل حزب الإخوان ، على مدى الشهور الماضية ، حقها في الدراسة ، في البحث والتدقيق ، وفي الاستنتاج والاستخلاص ، وهو الأهم . فمنذ التصويت بنعم على التعديلات الدستورية ، وخروج الإعلان الدستوري ، تشكلت العديد من اللجان ، لبحث كيفية تشكيل لجنة لوضع الدستور ، والاتفاق على ملامحه ، فمبادئه الحاكمة ، أو فوق الدستورية ، في تسمية أخرى . حينها ظهرت نوايا من الإخوان ، تجاه الدستور ، أقلقت أكثر من فئة وطائفة في المجتمع . ولغرض التذكير ، شارك الإخوان آنذاك ، في عمل هذه اللجان . دخلوا وانسحبوا . وقعوا على ما تم الاتفاق عليه ، ثم نقضوا موافقتهم . تكرر هذا مرة بعد أخرى . ولكنهم ، للأمانة ، أعلنوا ، وبالصوت العالي ، أنهم شكلوا لجنتهم - وفعلت مثلهم أجنحة سلفية - وأنها وضعت دستورا . وأن هذا الدستور جاهز في الأدراج ، سيخرج إلى النور حين يحين موعده . وبدا واضحا أن تشكيل لجنة الدستور ، بالأغلبية الإسلامية ، ما هو إلا خطوة على طريق تقريب هذا الموعد . وكان مقدرا أن تقر هذه اللجنة ذلك الدستور ، في زمن قياسي قصير ، وليتم إقراره فيما بعد في استفتاء ، أعدت هذه القوى كامل العدة لتأتي النتيجة بنعم عليه . وكالعادة تقدم القضاء وتولى مهمة إحباط مخطط الإخوان ، وإنقاذ الشعب منه . فقد حكم القضاء بعدم دستورية اللجنة وبحلها . ومنذ ذلك اليوم ، ورغم ما وصف بانصياع حزب الإخوان لقرار القضاء ، واصلت أحزاب الإسلام السياسي لعبة تعطيل تشكيل هذه اللجنة ، ومن ثم عملية وضع الدستور . وسيصل الرئيس المنتخب إلى كرسي الرئاسة ، وهو لا يعرف صلاحياته بدقة . كما ستقع على عاتقه مهمة إدارة وضع لم تتحدد فيه العلاقات بين السلطات الثلاث . ولا يخفي الإخوان نواياهم . يعملون على خيار نظام برلماني ، إن لم يحالفهم الحظ والفوز بالرئاسة ، ونظام رئاسي برلماني مختلط ، وربما رئاسي ، إن حققوا حلم الفوز بالرئاسة .
6 - وبدا أوضح تجل للرومانسية السياسية ، في افتراض تجاوز الإخوان لتربية فكرية وأيديولوجية ، ترسخت على مدى سنوات وعقود طويلة . افترضت الكتابات والتحليلات ، أن الإخوان ، ومثلهم السلفيون ، وقد دخلوا ساحة الممارسة الديموقراطية ، بدلوا عقائدهم السابقة ، وقبلوا مبادئ الديموقراطية ، ولعبتها السياسية . ونسي الكتاب والمحللون ، أو تناسوا ، حقيقة أن هؤلاء تربوا على الاعتقاد ، بل الإيمان بأن الديموقراطية كفر ، وأن الدستور كفر ، وأن الانتخابات كفر . تربوا على أن القرآن هو الدستور ، وأن الحاكمية لله ، وليس للبشر . صحيح أن التطورات المحيطة فرضت عليهم مواءمات ، وأنهم أظهروا بعض المرونة ، في بعض القضايا ، لكن أحدا لم يسأل السؤال الأساسي : هل حدث لديهم تغيير فعلي ، تبديل ، في أسس تربيتهم ، لدرجة اعتبار أن ما كان كفرا فحراما ، قد أضحى إيمانا فحلالا ؟ لم يفعل ذلك أحد . وعلى العكس ، وفي الكتابات كثيرا ما يجري الاعتماد ، كنقطة انطلاق للحديث ، على أن مبادئ الإسلام تقوم على ، وتقر ، العدالة والمساواة والحرية . ويعتبر كثيرون من الكتاب أن ذلك يفرض إقرارا بمبدأ المواطنة ، فتكافؤ الفرص ، وضمان حقوق التعليم والصحة ، والمساواة أمام القانون .. الخ . ولم يسأل أحد نفسه هذا السؤال الحرج ، ولكن المفتاح في ذات الوقت : هل هذا الاعتقاد صحيح ؟ والجواب بالقطع لا . فالإسلام – وقد قدمت دلائل وبراهين قاطعة على صحة ما أقول ، في كتابي قراءة سياسية في العهدين المحمدي والراشدي - يقوم على مبدأ عدم المساواة . والمواطنة ليس فقط مبدأ غريب عليه ، بل هو بدعة ، وكل بدعة في النار . في الإسلام ، المسلم فوق غير المسلم . والمسلم الحر فوق المسلم العبد . وفي الخلافات الإسلامية المتعاقبة كلها ، كما في السلطنات والدول والإمارات ، ظل المسلم العربي فوق المسلم الأعجمي ، وحيث تطبيق " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى " مؤجل للآخرة ، وأمام الله ، وليس للدنيا وشؤونها . والإسلام بعد هذا ، وفي موضوع العدالة ، فهو يقرها للأحرار ، وحسب النسق السابق . وهو في الحقيقة والواقع ، كما وفي منظور المجتمعات الحديثة ، ومبادئ الديموقراطية ، يقوم على انعدام العدالة . فالمسلم العبد بلا أية حقوق ، لأنه شيء ، وليس أنسانا . أو هو إنسان منقوص الإنسانية ، لا حق له في أية متطلبات . هو شيء وناقص الأهلية ، وحتى أركان الإسلام لاتنطبق عليه . فلا زكاة ولا حج ولا جهاد عليه . وأما احتياجات غير المسلم فلا يجوز أن ترقى لاحتياجات المسلم وهكذا دواليك . أما المساواة التي يجري الحديث عنها ، والتكافؤ – ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى – فهي في الآخرة يوم الحساب كما أشرنا . ومن ثم لا يمكن أن يقبل أعضاء تيارات الإسلام السياسي بمبدأ المواطنة ، هذا المبدأ الذي طبقته الامبراطورية الرومانية قرونا طويلة قبل الميلاد ، ولدرجة أن اعتلى عرش الامبراطورية أكثر من امبراطور غير روماني – ثلاثة منهم من أصل سوري مثلا – وجاء الإسلام فنسفه من أساسه . ويمكن لأي متشكك أن يقرأ نصوص المعاهدات المفروضة على أهل البلدان المفتوحة ،ومنها المعاهدة التي أخذها عمرو بن العاص على أهل مصر ،والنوبة على وجه التحديد ، ليتأكد أن مبدأ المواطنة مرفوض جملة وتفصيلا في دولة الإسلام .
7 - تستهجن الكتابات والتحليلات محاولات الإخوان اختطاف الثورة ، بالاستيلاء على مقاليد السلطة الجديدة . وأي مُطلع ، ولو بقدر يسير ، على تجارب الثورات ، يرى بالضرورة أنه استهجان غير مبرر . إذ هي كثيرة تلك الثورات التي تم اختطافها . وعملية الاختطاف تمت إما على يد شركاء فيها ، وتلك أغلبية ، أو من أطراف خارجية ، وقفت على هامشها ، أو أنها لم تشارك فيها البتة . وما يعنينا أن نوايا الإخوان ظهرت مبكرا ، ومن لحظة انفضاض الميادين ، يوم 12 فبراير تقريبا . وازدادت وضوحا مع تشكيل لجنة تعديل الدستور ، ثم الاستفتاء على المواد المعدلة . وأي مراقب متمرس ، لا بد لاحظ أن الإخوان اعتمدوا شرعية صناديق الانتخابات ، ليس وسيلة فقط ، بل وإستراتيجية لتحقيق هذا الهدف . وفي الطريق لتحقيقه استخدموا تكتيكات استهدفت تطمين شركاء الثورة ، بالإعلان عن إقصار المنافسة على 30 % من مقاعد مجلسي البرلمان تارة ، وعدم الترشح للرئاسة تارة أخرى ، والمشاركة في الجان ، والموافقة على المبادرات العديدة ، لتشكيل لجنة ، ووضع الدستور . ومن وراء ذلك كله ، تم إبرام اتفاق سري مع المجلس العسكري الحاكم ، يساعدهم على الاقتراب ، بصورة أيسر ، من هدف الانقاض على الحكم . وهكذا تركوا الشركاء في الميادين ، يحاولون استكمال الثورة ، ويواجهون عنف البلطجية تارة ، وقمع أذرع المجلس العسكري تارات . وصبوا كل جهودهم على الفوز بشرعية صناديق الانتخابات . وكان بديهيا أن يغيروا التكتيكات ، وهو ما رآه الكتاب والمحللون تراجعا عن الوعود ، ونكثا للعهود . ذلك على الرغم من وضوح منهج الإخوان ، بأنهم يسيرون نحو هدفهم ، الاستيلاء على الثورة والحكم ، بكل عزم ومثابرة .
حلم قديم :
إذن وبعد ما تقدم من ملاحظات ، نصل إلى كشف جانب آخر من جوانب ما وصفناه بالرومانسية السياسية .إذ ينحو كثرة من المحللين والكتاب ، داخل مصر وخارجها ، إلى تقديم الإخوان – ومثلهم السلفيين - ، من خلال العودة لكتابات الإمام حسن البنا ، المبكرة ، كجماعة دعوية ، لا يشكل الوثوب على الحكم هدفا لها . ذلك مع أن أصغر سياسي يعرف تماما ، أن القفز على الحكم ، وتحويل الدولة إلى دولة دينية ، كخطوة على طريق استعادة الخلافة ، يتعدى كونه حلما قديما ، ليشكل بؤرة إستراتيجية الجماعة ، ومحور كل حركتها ونشاطاتها . هذا حلم راود الإخوان ، وبذلوا كل جهد لتحقيقه ،على مدى يزيد عن ثمانية عقود . ومع مثل هذا الحلم لا يستقيم لا حسن النوايا ، ولا الطهارة الثورية . وفي ظني أن هذا الحلم ، والسعي لتحقيقه ، لم يغب ، ولو للحظة ، عن نظر مشتغل بالسياسة ، في مصر أو في غيرها .
في العام 2006 عدت إلى الإسكندرية ، لأول مرة بعد 44 عاما على مغادرتها . وجدتها عابسة ، تفتقد الضحكة الصافية ، الصاخبة والمجلجلة . حزينة ، سقطت من على شفاهها البسمة ، وغابت عنها النكتة اللاذعة ، الكاشفة والجميلة . كئيبة ، كساها الحزن ، وغاب عن شوارعها صوت أم كلثوم وحليم وفريد وعبد الوهاب . وعن كورنيشها صخب المستحمين في مياه بحرها ، والمستلقين على رمال شواطئها . وركبني هاجس يقول :هذه ليست الإسكندرية التي غادرتها قبل أربعة وأربعين عاما . وليس بسبب أن شبابي الذي كان يرى للأشياء طعما آخر ، قد تسرب مني . فهذه ليست البلد الجميل المشرق المتفتح للحياة التي عرفتها وعشت فيها سنوات أربع ، هي الأجمل في عمري كله . ركبني الحزن ، بديلا للبهجة التي افتقدتها في فلسطين الجاثمة تحت كابوس الاحتلال ، والتي جئت الإسكندرية باحثا عنها – البهجة - ، ومن أجلها . تحت وطأة هذه المشاعر دخلت مكتبة عائلة مناضل عريق ، في الحي الذي تقع فيه كلية العلوم التي تخرجت فيها . مناضل ثوري مخضرم ، عرفته من جريدة الأهالي التي أداوم على قراءتها . حصلت على عنوان المكتبة – وهي مكتبة قرطاسية - من مقر الجريدة في القاهرة ، والذي هو مقر حزب التجمع أيضا . كانت تجربتنا في انتخابات المجلس التشريعي ، واكتساح حماس لها ما زالت طازجة . وكان تقديري ، استنادا لما رأيته في شوارع القاهرة والإسكندرية ، أن مصر مقبلة على مثل ما حدث لنا في فلسطين . طرحت مخاوفي ، بخصوص ما ينتظرنا في فلسطين ، على أيدي حماس وبرنامجها ، على صديقي المناضل العريق ، والذي قابلته لأول مرة . فاجأني الصديق بأن انهال علي ، بموعظة طويلة عن حق الإخوان في حرية العمل ، وفي الحكم ، إن اختارهم الناس ، وفي تجربة تطبيق برنامجهم ، وترك الحكم ، على نجاحهم من فشلهم ، لجماهير الناس الذين اختاروهم . لم يمنحني فرصة كي أوضح أنني لست ضد ذلك ، ولكن في السياسة من المحظور ، بل والمحرم ، الركون لحسن النوايا ، وبناء الموقف على ما تعرض له هذا الطرف أو ذاك ، من عسف السلطة وملاحقاتها وجرائمها . حاولت أن أقول أن الاحتكام إلى اللعبة الديموقراطية ، وأخذ الإخوان فرصتهم كاملة ، يقضي بوضع برامجهم تحت المجهر . بنقاشها . بالحوار معها . بعدم السماح ببقاء هذا الغموض الذي يلفها . بإزاحة غطاء القدسية عنها . حاولت أن أقول أن حماس حصلت ما حصلت عليه ، دون التعرض ولو بكلمة لعملياتها الاستشهادية ، التي انعكست خسارات سياسية ومادية على قضيتنا . دون مناقشة جادة ، كما يحدث في أية ديموقراطية ، لبرنامجها الذي ينتوي إعادتنا أربعة عشر قرنا إلى وراء . لم يستمع الصديق ، ولم يتح لي ، ولو مرة واحدة ، أن أكمل فكرة بدأتها . خرجت من مكتبة العائلة ، والحيرة تمسك بتلابيبي . فأنا أعرف هذا المناضل ، معرفة غير شخصية ، منذ سنين . سياسي محنك ، مناضل وثوري وصاحب تجربة وخبرة لا يختلف عليها اثنان . حيرتني المقابلة . ساءلت نفسي بعدها عما إذا ما كان التجريف السياسي ، السائد في منطقتنا العربية ، قد أوصل سياسيي مصر ومناضليها ، إلى حال مثقفينا – فلسطين - الذين لا يملون من التبشير بأن الحقبة القادمة لا بد أن تكون إسلامية ، وكقدر لا فكاك منه . وبعد مرور كل ذلك الوقت ، نجح صديقي ، الذي لم أره غير تلك المرة ، وحصل على عضوية مجلس الشعب بعد الثورة . ، ولدهشتي ، فإنه ، وبعد تجربته مع مجلس شعب ، يحكمه الإخوان ، قد تجاوز في مواجهتهم المدى الذي طمحت إليه ، في تلك المقابلة ، التي لا أدري إن كان هذا المناضل الكبير مازال يذكرها .
الخروج المبكر :
ولم تظهر نوايا ، أو خطط ، الإخوان لاختطاف الثورة ، فقط بتركهم لساحات استكمال الثورة ، وبتواطئهم مع المجلس العسكري ، وسكوتهم على الممارسات الإجرامية بحق الثوار . كانت هناك مواقف ، وسلوك كاشف آخر ، تجاه الأزمات المتلاحقة ، متقنة التصنيع ، التي أخذت بخناق مصر ، وألقيت مسؤوليتها على الثورة وشبابها . مواقف وسلوك ، بدت لي ، أكثر عمقا ، وأوضح تعبيرا ، عن نوايا الإخوان ومخططهم لاختطاف الثورة . مواقف تجاه أزمات اختبرنا بعضا منها ، عرفنا كيف نتعامل معها ، واجتزناها ، هنا في فلسطين ، أيام الانتفاضة الأولى . أزمات ، كالانفلات الأمني ، واستفحال ظواهر البلطجة ، والسرقات بالإكراه ، وخطف الأطفال ، فانعدام أمن المواطن وأمانه . أزمات أنابيب البوتاغاز ، والسولار والبنزين ، ورغيف الغلابة . أزمات انفجار العنف الطائفي وحرق كنائس ، وقطع خطوط المواصلات ، وشغب الملاعب ، ومراكمة جبال الزبالة ، وغير ذلك كثير . أزمات تفرض على القوى السياسية ، ليس التشخيص ، أو التنديد والشجب ، وإلقاء المسؤولية على هذه الجهة أو تلك ، بل إعداد برامج ، ووضع خطط ، للمواجهة فالحل ، بديلا للجهات المقصرة إن أحسنا النوايا . وعندما لا تفعل القوى السياسية ذلك . عندما تكتفي بالندب ، وإلقاء التبعة على الغير . عندما تتستر على الفاعل ، ولا تواجهه . عندما لا تخرج هي لتحمل المسؤولية . عندما لا تبادر إلى حفظ أمن المواطن وأمانه . عندما ترضى باستمرار عدم الاستقرار ، فإنها تكشف عن نواياها الحقيقية ، بأنها ستستغل كل ذلك لخطف الثورة ، ولكي تعيد بناء مؤسسات الدولة وأجهزتها ، أي لتبني دولتها هي ، على أنقاض أمن المواطن واستقراره .
البلطجة :
فإذا ما أخذنا ظاهرة البلطجة ، والموقف منها كمثال ، لوجدنا أنها برزت في كل بلدان الثورات العربية ، وتحت أسماء متقاربة : بلطجية ، بلاطجة ، شبيحة ، زعران ، وغيرها . والمدهش أن أقلام الكتاب ، وحوارات المحللين ، التفت لها ، وكرست لها جهدا كبيرا ، في البداية . لقد قيل الكثير عن أصل الكلمة ، ودور البلطجية ، وعن التطورات التي واكبت مسيرتهم . لكن ، حسب متابعتي ، لم يلق الدور السياسي ، الذي عُهِد به للبطلجة ، اهتماما موازيا ، أو مقاربا الكتاب . فالبلطجية ، أو البلاطجة ، أو الشبيحة ، ابتعدت بهم مسيرة تطور الظاهرة ، عن السياسة ودروبها . وهم حين يؤدون دورا في السياسة ، يكونون قد أعدوا أو هيئوا لدور بعيد عن دورهم الطبيعي . البلطجي يهتم بتحصيل رزقه من الآخرين ، باعتماد وسائل عنيفة ، تكون له الأفضلية فيها ، لحظة استخدامها . والبلطجي لا تعنيه حال البلد ، والصراع على الحكم ، إلا بما يعود على جيبه ، عبر استئجار هذا الطرف أو ذاك لخدماته . أما أن يتبرع بالذهاب إلى ميادين الثورة ، وأن يهاجم المتظاهرين ، فهو أمر أبعد من أن يخطر على باله .
والمعروف عن البلطجية ، أنهم أبعد ما يكونون عن جهاز منظم ، وقيادة مركزية ، موجهة لحركتهم وفعلهم ونشاطاتهم . قد ينتظم البلطجية في مجموعات صغيرة ، لها قيادات ، ربما تصل إلى مستوى الحي . لكن أبدا لن يكون لهم تنظيم ، وقيادة مركزية ، على مستوى مدينة كالقاهرة ، أو على مستوى قطر كسوريا . وحين يتحرك البلطجية بحجم وفعل ما حدث في موقعة الجمل ، في ميدان التحرير ، مثلا ، وكما حدث في صنعاء ، وفي أنحاء متعددة من سوريا ، تكون المسألة أكبر من مجرد مبادرة من أقطاب في الحزب المنحل ، لاستئجار هؤلاء .
لقد كشفت الأحداث أن البلطجية يشكلون نوعا من جهاز من أجهزة الأمن . لا تنطبق عليه بالضبط مواصفات الأجهزة الأخرى ، من حيث الراتب والدوام والمهمات ...الخ . لكنه جهاز يعمل وقت الحاجة ، وبتوجيه مباشر من جهة ما في جهاز الداخلية . والدليل استخدامه في مهام سياسية ، كمواجهة الثوار المعتصمين ، والاعتداء عليهم ، بالقتل والسحل ...الخ . ودليل آخر تمثل في حماية أجهزة الأمن لهؤلاء القتلة ، رغم انكشافهم ، وتقديم الدليل القاطع ، بالصوت والصورة ، على جرائمهم ، بعدم القبض عليهم وتقديمهم للعدالة . وحتى الذين قبض عليهم الثوار ، وسلموهم لأجهزة الأمن ، أو لقوات الجيش ، لم يتعرضوا للتحقيق ، ومن ثم لم يكشفوا عمن جمعهم وأناط بهم المهمة ، وأرسلهم ، ودفع لهم .
وكما أشرت واجهنا مثل هذه الظاهرة ، مع أكثر من وجه اختلاف لها ، في الانتفاضة الأولى ، ونجحنا في إيجاد علاج لها . واستنادا لتلك التجربة لم أفهم كيف أن تنظيما ، بحجم وقوة تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، تقاعس عن الإقدام على مواجهتها . فلظاهرة البلطجة ، ورغم أنها جهاز من أجهزة الداخلية ، نقاط ضعف أساسية ، تسهل على أي قوة معنية ، مواجهتها ، وتخليص المواطنين من شرها . فالداخلية ، وقبلها المجلس العسكري ، لا تؤدي ، ولا أقول تتقاعس عن ، واجبها في التصدي ل ، واجتثاث هذه الظاهرة . وهي لذلك لا تملك ، لا المبرر الأخلاقي ولا القانوني ، لمعارضة من يتقدم لتخليص المواطنين والثورة ، من آثامها . وفوق ذلك تستنكف الداخلية ، أو الدولة ، عن بسط حماية رسمية على البلطجية . و تتنصل علنا من العلاقة معهم . واستنادا لتجربتنا في الانتفاضة الأولى ، يمكن لحزب ، كحزب الإخوان المسلمين ، أو لحزب أصغر منه حجما ، وأضعف قوة ، كما فعلنا ، أن يصدر تعليمات للتنظيم ، أو أن يشكل منظمات متخصصة ، تتحدد مهامها بمواجهة البلطجية ، وبالقبض عليهم ، ومن ثم الاقتصاص منهم ، إما عبر تقديمهم لعدالة الدولة ، أو مباشرة للعدالة الشعبية . وحين يستنكف حزب الإخوان عن أداء واجب كهذا ، لا بد أن يفهم المراقب المتابع ، أن وراء الأكمة ما وراءها .
إعادة البناء :
وبهذا نكون قد وصلنا إلى ما كنا وعدنا به في الحلقة الماضية ، من الحديث عن إعادة بناء نظام الدولة ، بعد إطاحة الثورة ، أو هكذا افترضنا أن يكون ، بالنظام القديم . وكنا قد أشرنا أن الثورة أطاحت بالفعل ، ببعض أعمدة نظام مبارك : الدستور ، الداخلية والأمن ، البرلمان ، ثم بالحزب الحاكم . وكان أن بقيت أعمدة أخرى ، تتمثل في مؤسسات الدولة المختلفة ، كالوزارات ، المؤسسات المالية ، القضاء ، النظام الاقتصادي ، الإدارات المحلية ، النظام النقابي ...الخ ، على حالها . ورغم أن كل هذه المؤسسات ، بما في ذلك نظم الإدارة والعلاقات ، على كثرتها وتنوعها ، وذات العلاقة بالناس وشؤونهم ومعيشتهم ، تحتاج إلى إعادة بناء ، استأثرت الأعمدة الأساسية - الدستور والداخلية بأجهزة أمنها المتعددة ، ومؤسسة الرئاسة ، بجل الاهتمام . وفي الحلقة السابقة وقفنا على الكيفية التي تمت بها معالجة مسألة الدستور ، فيما تجري أمامنا عملية إعادة بناء مؤسسة الرئاسة .
فلقد حمل تعيين مبارك لوزارة شفيق ، تكليفا لها بإعادة بناء وزارة الداخلية . كلف شفيق أحد لواءات الداخلية – محمود وجدي - بهذه المهمة . واختار عصام شرف ، الذي تلا شفيق بعد إسقاط الثورة لوزارته ، لواء آخر ، هو منصور العيسوي ، لإتمام المهمة . وفعلت مثلهما وزارة الجنزوري ، باختيار لواء ثالث ،هو محمد إبراهيم ،لإكمال ما بدأه سلفاه . واتفق الألوية الثلاثة ، على استخدام ذات المنهج ، وذات الخطة ، في إعادة البناء . وهي الاعتماد على ذات العناصر المتوفرة ، مع إعادة للهيكلة ، ورفض ومقاومة فكرة التطهير . وهكذا لم يسمع أحد عن طرح تصور لإعادة النظر في مناهج كلية الشرطة ، أو في أساليب التدريس . ووجهت برفض قاطع أفكار تجديد ، مثل تعويض نقص الكادر بخريجي كليات الحقوق ، الذين ينتظرون قرارات وزارة القوى العاملة لاستيعابهم في وظائف جديدة . وهكذا كان من غير المنتظر أن تسفر جهود اللواءات عن بناء جديد ، لهذا العمود ذي الأهمية القصوى ، في أي دولة حديثة ، وغير العودة لإنتاج ذات الوزارة القديمة .
المدهش أن حزب الإخوان ، وحزب النور ، وباقي أحزاب تيار الإسلام السياسي ، لم تول اهتماما يذكر لهذه المسألة الحيوية . وأكثر من ذلك لم تول ما وصف بعجز وزارة الداخلية عن تحقيق الأمن ، ومن ثم مسألة الانفلات الأمني ، واستفحال ظاهرة البلطجة ، وظواهر التعديات الأخرى ، على أمان المواطن واستقراره ، أي نوع من الاهتمام . ولا يستطيع المراقب إلا أن يرى ، كيف انصب اهتمام حزب الإخوان على استغلال حاجة الناس – احتكار وتوزيع أنبوبة البوتاغاز مثلا - والتي خلقتها جهود إعادة بناء الداخلية ، بمنهج اللواءات السالف ذكره .
تجربتان :
وقلت أننا في فلسطين ، وعلى مدار سنوات الانتفاضة الأولى الخمس ، واجهنا أزمات ، قريبة من حيث المضمون ، من الأزمات والإشكالات ، التي واجهتها مصر بعد الثورة . وقلت أننا نجحنا في علاج أكثرها . ولدينا في الجانب السلبي أكثر من تجربة ، كان يمكن لثوار مصر الاستفادة منها . صحيح أننا شعب صغير لا يقارن بحجم شعب مصر . لكن قيمة التجربة تتحقق من مضمونها ، وليس من صغر أو كبر حجم أصحابها . وإذن سأسمح لنفسي بعرض تجربتين ، قد تقدمان نفعا ما ، إزاء مسألة إعادة بناء الداخلية المصرية.
بعد مضي قرابة ستة أشهر ، على بداية الانتفاضة الأولى ، انهار الجهاز المدني الذي كان الاحتلال قد أقامه ، بكل إداراته وفروعه . وكان على قيادة الانتفاضة أن توفر البديل ، للحماية ، وتوفير الأمن والأمان ، والحلول للمشكلات والقضايا الناشئة . وكانت اللجان الشعبية ، باختصاصاتها المتنوعة ، هي الحل . ونفذت هذه اللجان مهماتها بنجاح كبير . وقدم عدم وصول متقاضين إلى المحاكم الرسمية - كانت غير قائمة فعليا – وعلى مدى سنوات الانتفاضة الخمس ، برهانا ساطعا على هذا النجاح . لكن كان هذا هو الجانب الإيجابي للمسألة .
فقد لحق بانهيار أجهزة الاحتلال المدنية ، انهيار جهازها الأهم ، جهاز المخابرات ، أو تنظيم العملاء كما كنا نسميه . التجأ جزء من ذلك الجهاز ، ومباشرة إلى إسرائيل . واضطر الاحتلال إلى تجميع جزء آخر في معسكر للجيش ، على مقربة من مدينة جنين . وسلم جزء ثالث نفسه لنشيطي الانتفاضة . وحسب تقدير الجميع التزم أفراد ، من المهمين للجهاز ، والمحاطين بأسوار من السرية ، التزموا بيوتهم ، في انتظار تطور الأحداث . واحتفلت الانتفاضة بهذا النصر الكبير .
لكن فتح سارعت ، وبدون أي تنسيق مع حلفائها ، بإعلان العفو عمن سلم نفسه من العملاء ، أتبعته بضمان حمايتهم ، مقابل خروجهم والاعتراف علنا بجريمتهم ، عبر سماعات المساجد ، وإلحاق الاعتراف بإعلان للتوبة . كطرف في قيادة الانتفاضة ، رفضنا خطوة فتح هذه . وحاولنا ، بكل السبل إقناعها بالتراجع عنها . من بين ما قلناه أن استسلام هؤلاء العملاء وفر للانتفاضة فرصة ذهبية ، ينبغي عدم التفريط بها وإضاعتها . فالتحقيق معهم يوصل إلى كشف ذلك الجزء المهم المتبقي ، ويُمكِّن الانتفاضة من قلع هذا الجهاز المجرم ومن جذوره ، ويحرم الاحتلال من إمكانية إعادة إحيائه من جديد . رفضت فتح وأصرت على موقفها : العفو وضمان الحماية . استندت إلى تقدير أن النصر تحقق ، وأنه لم يبق غير القليل ، كي يحمل الاحتلال عصاه ويرحل . واستنادا لهذا التقدير ، خطت خطوة أبعد ، تمثلت بضم معلني التوبة من هؤلاء العملاء لصفوف الانتفاضة . لم يتبق أمامنا غير التعميم على رفاقنا وجمهورنا بعدم السماح لهؤلاء العملاء من الاقتراب من صفوفهم . وبهذا حمينا جمهورنا من احتمالية الغدر بهم وبنا .
بعد قرابة السنة صحت فتح ، والفصائل التي سايرتها ، على وقوع خسائر مؤلمة في صفوفها . ثم اتضح أن الاحتلال نجح في إعادة إحياء وتنظيم هذا الجهاز ، الذي أخذ يعمل بكفاءة أكبر . واضطرت هذه الفصائل لتشكيل تنظيمات خاصة ، تحددت مهامها في ملاحقة هؤلاء العملاء ، الكشف عنهم ، ثم سحبهم للتحقيق والمحاكمات الثورية . وتشكلت خلايا هذه التنظيمات من شباب في أوائل العشرينات من العمر ، بكل ما يتصفون به من جرأة وجسارة ونقاء ثوري ...الخ . في البدء تميز عمل هذه التنظيمات بكفاءة عالية . لكنه ككل عمل من هذا النوع ، ومواصفات لمسؤولياته وصلاحياته ، أخذ ينحرف نحو القسوة المفرطة شيئا فشيئا ، حتى بات خروجه على كل عرف ، وارتكابه لأبشع المخالفات أمرا عاديا ومألوفا . وكما كتبت ، في كتاب " الديموقراطية الفلسطينية في الممارسة " شكلت هذه الانحرافات ، وسخط المواطنين عليها ، أحد العوامل التي عصفت بالكثير من نجاحات الانتفاضة المتحققة . واليوم ونحن نراقب عملية إعادة بناء الداخلية في مصر ، وجهاز أمن الدولة وتسميته الجديدة ، الأمن الوطني ، نسحب من صدورنا نفسا عميقا ، ونحن نقول : لله دركم ما أشبه اليوم بالبارحة .
تلك إذن كانت التجربة الأولى . أما الثانية فتمثلت في موقف حركة حماس من بناء مؤسسات السلطة . ولا أظن أن القارئ بحاجة إلى التذكير بأن حماس ، ومنذ اليوم الأول لنشأتها ، وبعد بضعة أيام من نشوب الانتفاضة ، ودخولها الأول لمعترك النضال ضد الاحتلال ، وقفت رافضة للانضواء تحت لواء الوحدة الوطنية ، أحد أبرز مستحقات الانتفاضة . أنشأت قيادتها المعارضة للقيادة الوطنية للانتفاضة . حماس، بعد تحويل اسمها عن منظمة لجماعة الإخوان المسلمين ، طالبت بالفم المليان ، بأربعين في المائة ، بداية ، من مقاعد هيئات منظمة التحرير ، ثم بالحق في الانفراد بقيادتها ، أو على الأقل تجاوز فتح في المحاصصة على مقاعد القيادة . وأيضا لا أظن القارئ بحاجة للتذكير بأن فتح استنسخت النظم العربية ، خصوصا مصر ، في بنائها لمؤسسات السلطة الفلسطينية . وكان أن لفت الانتباه موقف حماس من عمليات البناء تلك ، والمصممة لضمان سيطرة فتح الدائمة ، رغم ما تضمنه الإعلان التأسيسي عن مبدأ تداول السلطة . لم تعترض حماس ، أو اكتفت بمعارضة لينة ، ثم بمحاولات لتسريب عناصرها إلى أجهزة المؤسسات المختلفة ، خصوصا أجهزة الأمن ، وفيما بدا وكأنه قبول بمنهج فتح . لكن بعد اكتساحها للانتخابات ، وتشكيلها لأول حكومة ، أخذت في تعيين أعضائها وأنصارها ، في مناصب موازية لتلك التي يحتلها أعضاء فتح وأنصارهم ، بدءا بوكلاء الوزارات ، ومرورا بالمدراء العامين ، وغيرهم من الموظفين الكبار . وكان واضحا أنها تنشئ في كل وزارة جهازا موازيا لجهاز فتح . والأهم أن وزير الداخلية الحمساوي ، بدأ ومن اليوم الأول ، في توظيف أعداد من الحمساويين في أجهزة الأمن ، وصل عددهم ، وبعد ستة أشهر فقط إلى أحد عشر ألفا . وحين نفذت حماس انقلابها ، كانت أجهزتها كاملة . وفي قطاع غزة ، وبعد طرد موظفي فتح ، سيطرت أجهزتها ، وبالكامل ، على كل مفاصل السلطة . وغني عن القول أن دولة غزة الآن دولة حمساوية صرفة .
والخلاصة :
تجربتنا هذه مع حماس ، وفرت لنا أدوات لرؤية وفحص مخطط حزب الإخوان في مصر . مصر بالطبع أكبر بكثير ، لكن التجربة ، في العادة ، حين تثبت صلاحياتها مع الصغير ، تعلن عن صلاحيتها مع الكبير . انظروا إذن لسكوت حزب الإخوان عن جهود الوزراء اللواءات في إعادة هيكلة الداخلية . وتوقفوا ، رعاكم الله ، عند مطلب حزب الإخوان بتخصيص حصة لهم من طلبة كليات الشرطة الجدد ، ومثله من المنتسبين الجدد للكليات الحربية .
وأختم بالقول : يصف كثيرون من الكتاب والسياسيين والمحللين ، سلوك الإخوان هذا بعدم الوفاء للثورة . بنقض العهود والتراجع عن الوعود . بالالتفاف على الثورة وسرقتها . وينسون كلهم أن الإخوان ، يرون ، ومنذ عقود ، أن نضالهم هو الثورة بعينها . وأن برنامجهم هو برنامج الثورة . وأنهم بتطبيق منهجهم سيسارع الله بإنقاذ مصر من أزماتها . وسيخرجها من كافة عثراتها . وبالتالي سيوفر الحل لكل مشكلاتها . وستنعم بالازدهار والتطور والعمران . لا تسأل كيف سيتم ذلك ، لأن الله هو من سيتكفل به . ألا تعي عزيزي القارئ معاني شعارهم : نحمل الخير لمصر . فقط ما عليك إلا أن تدخل في إسلامهم حتى يهل عليك وعلى مصر خيرهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جامعة كولومبيا تلغي حفل التخرج الرئيسي جراء الاحتجاجات المؤي


.. بالمسيرات وصواريخ الكاتيوشا.. حزب الله يعلن تنفيذ هجمات على




.. أسقط جيش الاحتلال الإسرائيلي عدداً كبيراً من مسيّراته خلال ح


.. أردوغان: سعداء لأن حركة حماس وافقت على وقف إطلاق النار وعلى




.. مشاهد من زاوية أخرى تظهر اقتحام دبابات للجيش الإسرائيلي معبر