الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية - الملخص والخاتمة

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2012 / 5 / 31
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


خاتمــة

عندما وطأ المستوطنون البيض الأوائل أرض جنوب إفريقيا في أواسط القرن السابع عشر، جلبوا معهم كل ما كانت تمثله الحضارة الأوروبية آنذاك، من نزعات الاستعمار والتوسع، وما تتضمنه من قيم العنف والتعصب والاستعلاء، وما تحمله معها من وسائل وأدوات حربية متقدمة. وفي المقابل، كان شعب جنوب إفريقيا الأصلي يعيش حياة المشاع. وإذا كانت بين الطرفين فجوة حضارية هائلة؛ إلا أن السكان الأصليين كانوا يمثلون الجانب الإنساني؛ بما يحملونه من قيم التعاون والإخاء والبساطة، وقبول الآخر، مع اعتداد عالي بالكرامة، واستعداد للتضحية دفاعا عن النفس.

وعندما جاء البريطانيون لدعم البوير ضد السكان الأصليين، جلبوا معهم جيوشا كبيرة مزودة بالخيول، وبأسلحة حديثة تلفظ النيران، بهدف فرض سيطرتهم على كل جنوب أفريقيا؛ وقد أدى ذلك الخلل الفادح في موازين القوى إلى إضعاف قوة الممالك الإفريقية تدريجيا، وصولا إلى انكسارها في مطلع القرن العشرين. بعد ذلك تم تشكيل ما عُرف باتحاد جنوب أفريقيا في عام 1910، وقام البريطانيون بإسناد السلطة للبوير الهولنديين والمستوطنين البريطانيين؛ ليقيموا نظاما عنصريا استغلاليا غاية في البشاعة والوحشية، لا يعطي السكان الأصليين أية حقوق مدنية أو سياسية؛ لا بل يضعهم في مرتبة أقل من البشر.

ويصف أحد شعراء جنوب إفريقيا واسمه "أمقهاي" احتلال البيض لبلاده بأنه صِدام بين حضارتين؛ يرمز الرمح في هذا الصراع إلى تاريخ إفريقيا المجيد، وإلى المحارب الإفريقي الفنان، أما سلاح الرجل الأبيض الفتّاك فيرمز إلى التطور الصناعي، لكنه سلاح قاسي وبلا روح، وبالتالي فإن ما يحدث هو صدام شرس بين ما هو فطري وجميل وما هو أجنبي وقبيح. ويضيف الشاعر قائلا: "لقد استسلمنا طويلا لإلهة الرجل الأبيض المزيفة، ولكن هذا لن يدوم؛ وسننتصر عليهم، وسننفض عنا كل أفكارهم الدخيلة".
كان هذا الوصف الدقيق الذي أطلقه الشاعر في مرحلة مبكرة من الصراع، أي قبل أن يتصاعد نضال الإفريقيين ضد من ظلموهم، بمثابة نبوءة صادقة، واستشرافاً ليومٍ لم تكن ملامحه واضحة آنذاك؛ فقد انتصر الشعب أخيرا على مغتصب حقوقه، وانتصرت قيم الإنسانية على قيم التعصب والعنصرية، انتصر المحرومون والفقراء على مستغليهم؛ لكنهم قدّموا للعالم نموذجا رائدا ونادرا في حسم الصراع؛ فقد كان حسماً إنسانيا، أُنـجِـزَ بروح التسامح، وبأفق وخطاب إعلامي عقلاني، وببرنامج سياسي حكيم، وبرؤية تقدمية حضارية، لا تسعى لإقصاء الآخر أو القضاء عليه، بل لتحريره من شروره، والإمساك بيده ليتحد الجميع معاً في تحرير البلاد من الظلم والجور والطغيان، ولصناعة مستقبل مشرق واعد؛ فيه لكل فرد نصيب ومكان محترم، يليق بإنسانيته.

فعلى مدى أكثر من ثمانية عقود؛ خاض شعب جنوب إفريقيا بقيادة المؤتمر الوطني الإفريقي تجربة كفاحية متواصلة وشاقة، من أجل الإطاحة بنظام الفصل العنصري، ونيل الحرية والكرامة، وإنشاء دولة ديمقراطية غير عنصرية. وهذه التجربة الكفاحية الغنية والمريرة والتي تُوِّجت في النهاية بالانتصار على نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد"؛ تحتوي على الكثير من الدروس الهامة والملهمة، لكل شعوب العالم.

لعل من بين أهم هذه الدروس أن مجموعة من القبائل المتناثرة والمتنازِعة والتي كانت تعيش مرحلة ما قبل الحداثة، تمكنت من التوحد، والتغلب على الكثير من الصعاب، وتنحية التناقضات الداخلية، وخوض غمار النضال الشعبي والمسلح، والانتصار على دولة كانت تعتبر نفسها ذروة الحضارة والتقدم التكنولوجي، وتعتد بقوتها العسكرية والاقتصادية، وبقبضتها الأمنية.

لم تكن المعركة نزهة بين الورود؛ بل كانت سنين حالكة من المعاناة والتضحيات. ولم يكن العدو سهلا؛ بل كان في منتهى الشراسة. ولم تكن الجبهة الداخلية حالة مثالية؛ بل كانت مضطربة ومتقلبة، وقد اعترتها كثير من الصعوبات والتشويهات، خاصة في المراحل الأخيرة التي سبقت انهيار النظام. ومع ذلك أمكن التغلب على كل شيء، وتجاوُز كل العراقيل.

كان تصميم الشعب وقواه السياسية على مواصلة الكفاح، وخوضه إياه بكل شجاعة وذكاء، واستخدامه كافة الأساليب النضالية بدءً من الحوار مع الحكومة، مرورا بالمقاومة السلبية وحملات التحدي، ثم تصعيد المقاومة الشعبية المدنية، إلى جانب المقاومة المسلحة، بالتوافق مع الحملات الإعلامية والدبلوماسية على الساحة الدولية، وانتهاءً بالمفاوضات المباشرة، دون أن يطغى مسار نضالي على آخر، إلا وفق تكتيكات قيادية كانت تتسم بالمرونة والحكمة والنضج السياسي؛ كل هذه الأشكال النضالية الشاملة والمتنوعة كانت السبب الأساسي والجوهري في إحراز الانتصار الكبير.

كان من الممكن أن يدوم الصراع لأمد طويل، وأن تُسفك فيه أنهار من الدماء، وأن تُزهق على عتباته أرواح كثيرة .. خاصة في قارة اشتهرت بالصراعات الدموية العنيفة، وفي قرن كان الأكثر دموية في تاريخ بني البشر .. لكن حكمة وشجاعة القيادات حالت دون ذلك. واختصرت طريق الآلام على الجميع، ومنحتهم عوضا عن ذلك، نظاما ديمقراطيا يجري فيه تداول السلطة عبر صناديق الانتخابات، بينما دول الجوار تشهد باستمرار انقلابات عسكرية، يصاحبها في أغلب الأحيان مذابح مروعة، وحملات مجنونة من التطهير العرقي.

وباعتقادي أن الدرس الثاني، والذي لا يقل أهمية يكمن في روح وجوهر "ميثاق الحرية"، وهو الوثيقة التي اعتمدها المؤتمر الوطني الإفريقي برنامجا سياسيا له، والتي تنادي بالسلام والمحبة والتسامح، وتعايش الكل معاً بأخوّة واحترام وكرامة، دون تمييز على أساس اللون أو العرق أو الدين. ولئن كانت هذه المبادئ العظيمة مدرجة في كثير من دساتير الدول، إلا أن شعب جنوب إفريقيا أضاف عليها درسا في كيفية تجاوز الماضي، ودمل الجراح، والغفران لمن اعتدى عليهم، ونكّل بهم ثلاثة قرون متوالية. وأعطى درسا في التسامح والتعالي على الآلام، والبحث عن الجانب الإنساني في شخصية العدو؛ ورصْد بقعة الضوء مهما كانت صغيرة في محيط الظلام. عبّر عن ذلك القس توتو حين كان يطلب الغفران لقتلة بيكو، والغفران للشهداء وللخونة على حد سواء، وعبّر عنها بيكو عندما قال "العنف ينزع الإنسانية عن القامع والمقموع، فلتكن تجربتنا في النضال بوجه أكثر إنسانية"، وعبّر عنها مانديلا حين قال "لقد أصبح تحرير الظالم والمظلوم رسالتي في الحياة".

انتصرت الإرادة الشعبية في جنوب إفريقيا، وحققت ما كان يراه الكثيرون معجزة، أو حلما مستحيلا، وأثبتت أن الحق لا يضيع، وأن الحرية والكرامة أثمن كنز في الوجود. وطُويت بذلك صفحة مظلمة مخزية من صفحات التاريخ، لا نريدها أن تتكرر في أي مكان من العالم.

كان وراء هذا الانجاز التاريخي العظيم كل الناس الطيبين في جنوب إفريقيا، وكان يقودهم ويلهمهم قائد عظيم، دافع عن قضاياهم حين كان محاميا، ورفض مقايضة حريته
بوقف المقاومة حين كان سجينا .. لقّبه أبناء شعبه بــــِـ ماديبا ، وتعني العظيم المبجل , وهو اللقب الذي أصبح مرادفا لاسم نيلسون مانديلا.

كان مانديلا يعتبر أن المهاتما غاندي المصدر الأكبر لإلهامه في حياته وفلسفته، حول نبذ العنف والمقاومة السلمية ومواجهة المصائب والصعاب بكرامة وكبرياء. ولكن، ومن
سخرية الأقدار أن شخصا ترأس الولايات المتحدة في واحدة من أسوأ مراحل تاريخها المعاصر، يُدعى جورج بوش، قرر تزامناً مع يوم ميلاد مانديلا التسعين، في تموز 2008 شطب اسم مانديلا من على لائحة الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاستاذ الفاضل عبد الغني سلامه المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2012 / 6 / 1 - 05:45 )
تحيه وتقدير
احسنت فيما قدمت واجدت فشكرا
وهم يستعدون لتلميع اوباما رفعوا اسم المناضل مانديلا من قائمة الارهاب...كل العالم يستقبله كثار و مناضل و قائد وانسان الا راعية الحريه تقول عنه ارهابي عندما كانوا يصنعون الارهاب الحقيقي
مانديلا اخذ من غاندي الصدق والاصرار والروح الفدائيه الحقه واظاف اليها ما يناسب
كان صِدامْ بين قبيح حيواني وجميل انساني نعم قول الشاعر(أمقهاي) لن يدوم الاستسلام لأله الغزات...ومصير هذا الاله المزبله التي توقعها الشاعر وهذا مصير الاخرين ان عاجلا ام اجلا
اكرر التحيه لكم اخي العزيز

اخر الافلام

.. رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر يلتقي الملك تشارلز


.. خريطة تفاعلية تشرح مراكز الثقل الانتخابي في إيران




.. الدعم السريع يسيطر على منطقة استراتيجية في ولاية سنار جنوب ش


.. عاجل | وزارة الداخلية الإيرانية: فوز مسعود بزشكيان بانتخابات




.. الجيش المكسيكي يوزع طعاماً للمتضررين من إعصار بيريل