الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخيار المر ومسئولية الإختيار

السيد نصر الدين السيد

2012 / 6 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


يمنعنى تكوينى الأكاديمى، فى أغلب الأحيان، من التعرض الآنى لما يحدث من أمور ويدفعنى دفعا لإستخدام "برودة العقل" لمواجهة "سخونة الأحداث". إلا أن ما تواجهه أمتى، الأمة المصرية، اليوم من "وطأة الإختيار" لايترك لى مجالا للتريث أو الإنتظار. فلقد شهدت هذه الأمة منذ 25 يناير 2011 أحداثا متلاحقة تمثل فى مجملها، وعلى الرغم من تنوعها الشديد وتعدد أبطالها، تجليات للصراع الرئيسى الذى يدور فى المجتمع المصرى منذ عشرات السنين. وهو الصراع الذى كانت بدايته منذ حوالى 200 سنة عندما بدأ محمد على تحديث بعضا مكونات الدولة المصرية. إنه الصراع بين تيارين رئيسيين فى المجتمع المصرى. تيار القوى الداعمة لـ "الدولة الحديثة" (التى يطلقون عليها إسم الدولة المدنية) وتيار القوى الداعمة لـ "الدولة الدينية" (التى يطلقون عليها تقية إسم الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية).

والدولة الحديثة هى الدولة التى تقوم على ثلاثة أسس تتكامل سويا هى: "العلمانية" و"المواطنة" و"الديموقراطية". فالعلمانية تؤكد تعنى "الفصل" التام بين كل ماهو "دنيوى"، يتعلق بـ "سياسة" شئون المجتمع البشرى، وكل ماهو "دينى (أو "أخروى")"، يتعلق بعلاقة الإنسان بربه وبما يرجوه فى عالم الآخرة. أما المواطنة فتعنى وعى الفرد بإنتمائه إلى كيان محدد الملامح هو "الوطن"، يتجاوز محدودية الإنتماء إلى الأسرة أو القبيلة أو الطائفة أو الملة. وهو الوعى الذى يعززه كلا من إحساسه بـ "المساواة" أمام القانون وبقدرته على "المشاركة" فى صناعة القرارات التى تؤثر فى أحواله كفرد وأحوال وطنه ككل. وأخيرا الديموقراطية التى تقوم على مبدأ "الشعب مصدر السلطات". وهو المبدأ الذى يعززه مبدأ المواطنة الكاملة الفاعلة لكل فرد من أفراد المجتمع، ومبدأ العقد الإجتماعى الذى يتم تجسيده فى دستور تلزم بنوده كافة القوى الفاعلة فى المجتمع. ويخبرنا تأمل أوضاع المجتمعات المعاصرة بنجاح الدول التى تتبنى هذه الأسس الثلاثة فى الإرتقاء المستدام لأحوال مواطنيها، وفى تحقيق مستوى مرتفع من الرفاه الإجتماعى لهم.

وفى المقابل تقوم الدولة الدينية على ثلاثة أسس هى "الإسلام دين ودولة" و"الأممية الإسلامية" و"الحاكمية لله". وعن الأساس الأول، "الإسلام دين ودولة"، يقول لنا الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، فى كتابه مذكرات الدعوة والداعية أن: "الإسلام:عبادة وقيادة، ودين ودولة، وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، وطاعة وحكم، ومصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". أما الأساس الثانى، "الأممية الإسلامية"، فيوضحه لنا الشيخ قائلا: "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطني عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم" (مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، رسالة دعوتنا، ص21-22). وآخر أسس الدولة الدينية، "الحاكمية لله"، فيعنى أن "مملكة الله فى الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية فى الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة كما كان الحال فيما يعرف باسم الثيوقراطية، أو الحكم الإلهي المقدس، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة … وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية" (سيد قطب: معالم فى الطريق، دار الشرق،1983 ص 68). هذه كانت لمحة عن الأسس الفكرية لما يطلقون عليه إسم الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية والتى تقع على طرف نقيض من تلك الأسس التى تقوم عليها الدولة الحديثة.

و"الدولة الحديثة" هى الدولة التى سعى شباب ثورة 25 يناير لتعزيز تواجدها ولتخليصها مما شابها من أوجه قصور وجسدتها شعاراتهم: "حرية"، "كرامة إنسانية"، "عدالة إجتماعية". "الحرية" بما تتضمنه من حقوق سياسية ومدنية وإجتماعية. وتشمل الحقوق السياسية الحق فى التصويت، الحق فى تكوين الأحزاب والتنافس من أجل الحكم. أما الحقوق المدنية فتشمل على سبيل المثال الحرية الشخصية، ضمان الأمن، حماية الخصوصية، الحرية الدينية، الحرية الفكرية، الحق فى التعبير عن الرأى، حرية التجول والإستقرار، حرية ممارسة الشعائر الدينية. وأخيرا نصل إلى مجموعة الحقوق الإجتماعية التى تضم بالإضافة الحق فى الملكية الخاصة الحقوق المتعلقة بالتوظف وبالأجر العادل. و"الكرامة الإنسانية" بما تعنيه من تمتع كافة المواطنين بكافة الحقوق والواجبات ومساواتهم أمام القانون بدون الأخذ بعين الإعتبار الوضع الاجتماعى أو المركز الإقتصادى أو العقيدة السياسية أو العرق أو الدين أو الجنس أو غيرها من الإعتبارات. وأخيرا "العدالة الإجتماعية" بما تعنيه من توزيع عادل لموارد الوطن الإقتصادية والإجتماعية، مثل الرعاية الصحية والتعليم، لصالح كافة أفراد المجتمع.

واليوم بلغ الصراع، الذى طال مداه، بين هذين التيارين ذروة غير مسبوقة وتجسد فى وضوح لاتخطئه عين وحانت ساعة الإختيار. وهو إختيار، بين بديلين، لايتعلق فى المقام الأول بأسماء أشخاص يسعون لمنصب الرئيس ولكنه يتعلق بمستقبل أمة. البديل الأول هو إستكمال بناء "الدولة الحديثة" التى بدءها محمد على سنة 1805 وعملت النخب المصرية على تطوير مؤسساتها منذ ذلك التاريخ. دولة تواكب متغيرات العصر وتحمل فى صلب تكوينها آليات مراجعة نفسها وتصحيح مسارها. أما البديل الثانى فهو هدم ما بناه أجيال من المصريين من مؤسسات الدولة الحديثة وإزالة أسسها من ثقافة الأمة المصرية. وعلى الأنقاض تُقام "الدولة الدينية" فى محاولة لإعادة إنتاج ماضى مكانه الوحيد هو كتب التاريخ لاالواقع المعاش.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غموض يلف أسباب تحطم مروحية الرئيس الإيراني؟ • فرانس 24


.. التغير المناخي في الشرق الأوسط: إلى أي مدى مرتبط باستثمارات




.. كيف يسمح لمروحية الرئيس الإيراني بالإقلاع ضمن ظروف مناخية صع


.. تحقيق لـCNN يكشف هوية أشخاص هاجموا مخيما داعما للفلسطينيين ف




.. ردود الفعل تتوالى.. تعازى إقليمية ودولية على وفاة الرئيس الإ