الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : القمر الفضي

محمد بقوح

2012 / 6 / 6
الادب والفن


-1-
.. تعثر.. ثم توقف عن الجري فجأة. أنفاسه تتوالى.. قلبه يكاد يقفز من صدره. وجهه، الواسع و الملتحي، يتصبب عرقا.. كان متعبا جدا. فهو لم يسبق له أن بذل مثل هذا الجهد البدني منذ وقت طويل. ربما منذ زمن الطفولة و الصبا. حين كان يطارد رفقة أقرانه، في ملعب الحي، الكرة البلاستيكية. تلك التي اشتروها بأموال إعانات المارين في الشارع العام. فكر في الجلوس. لكنه تردد. الشارع أمامه طويل. يكاد يخلو من الحركة. عدا حركة بعض الكلاب الضالة التي تحتك فيما بينها.. هنا و هناك.

البرد قارس جدا. التفت عبّون إلى الوراء. لا وقت للجلوس. في آخر الشارع تبين له نور مصباحين يدويين يتحركان. تأكد عبون أنذاك أن الشرطيين لايزالان وراءه.. يطاردانه.. ( تبا لهما ) قالها بانفعال. انطلق من جديد. يعدو كحصان هائج. تابع جريه بكل ما لديه من قوة. مال بعد لحظات إلى يسار منزل كبير من طبقتين. دخل زقاقا مظلما و ضيقا. إن عبّون ابن منطقة حي ( جمافو )، يعرف دروبها و أزقتها، كما يعرف ملابسه. و قد سبق له أن زار هذا الزقاق فقط في بداية الأسبوع الجاري. حين التقى بأحد معارفه هنا. في حفل قيام هذا الأخير من فراش مرض، إثر تعرضه لحادثة سير.. هذا ما تمت إشاعته في المدينة. اختفى عبّون نهائيا في الظلام الدامس و الكثيف. بعد قليل، سمع حديث الشرطيين الواقفين، بجوار عمود كهربائي.

- الأول : قد يتيه بين تلك المنازل هناك.. فلنسرع.. إليه.
- الثاني : ( بعصبية و انفعال ).. ولد الكلب.. كأن الأرض ابتلعته..
- الأول : إذن.. فلت منا.. من جديد، كجميع المرات.. لايمكن أن يحدث هذا..
- الثاني : ( يلتفت، باحثا بعينيه الوهاجتين يمينا و يسارا ). لو كنت أقدر على دفن رأسي، تحت هذه التربة ( ضرب الأرض برجله اليمنى ) لفعلت.. أحسن لي من العودة.. هكذا إلى المخفر، بدون هذا الملعون التعيس، و خالي اليدين..
- الأول : ابن الزانية.. كل مرة يفلت من قبضتنا.. و كأنه يشغّل معه الشياطين..

-2-
حين هدأ الجو، و أدرك عبّون بحسه المرهف المعهود، أنه نجح بالفعل، في هزم الشرطيين، للمرة الثالثة على التوالي، و أنه نجا من قبضتهما التي كانت وشيكة، هذه المرة ككل المرات، ظهر بجسده القوي، و قامته الصلبة و الطويلة. تنفّس الصعداء. شعر بنوع من الارتياح، يسري في داخله. لكنه، ارتياح غير مأمن. فعيناه المشعتان في حركة دائمة. لأن الشرطيين، قد يقفان أمامه في أية لحظة. أخذ يفكر، و هو يمشي في اتجاه الغابة، كما يفعل دوما، بعد كل هروب ناجح، يحققه من قبضة البوليس. لكنه، هذه المرة، أخذ يفكر جديا ( لماذا لا يتركونني و شأني. لا أسرق. و لا أتعرض لطريق الناس. إني أكسب قوتي بالكيفية التي أقدر عليها. أعرفهم. لن يروا ذلك اليوم، الذي يحلمون به. أفضل الذهاب إلى الزنزانة، من الخضوع لتهديداتهم.. أنا القمر الفضي، الذي يظهر و يختفي. أنا القمر المسكون، بكل الأشجار و الوديان و الجبال و الأمطار.. بكل طيور العالم. أنا أقوى منهم قالها بانفعال.. ( و قدماي، أسرع و أطول من آذان كلابهم، التي لاتنام ).

عندما وصل قرب شجرة الكاليبتوس الكبيرة و الضخمة.. جلس، ثم أخرج سيجارة، من جيبه مع قطعة حشيش.. فشرع في تحضير سيجارته المركبة المختارة. بعدها، أشعلها، فأحس بنشوة فريدة و نادرة، لم يشعر بها من قبل. استحضر شريط الأحداث، التي وقعت له خلال هذه الليلة.. ليلة تواجدهم، وراء باب منزله، من أجل القبض عليه. شعر بحدسه أن الدقات العنيفة، على الباب هي دقاتهم بلا شك. تأكد بالفعل، من هوية الطارق العنيف، بعد أن وصلت إليه، كلمات الشرطيين الصاخبة، و حديثهما المستفز، مع والدته المسنة أمام الدار، في زقاق الحيّ.

قفز عبّون كالضبي، على مائدة العشاء الخشبية، و ارتدى معطفه الأسود، في سلم الدار. كان يقفز من درجة إلى أخرى، غير مبال بالعدد الكبير، من الدرجات التي يحلق فوقها أحيانا، ليجد نفسه في النهاية، بعد دقائق معدودة، بين سطوح منازل الجيران. فأخذ يتنقل من سطح إلى سطح. عيونه عيون ذئب، و جسده القوي، لا يتعب من الحركة و الجري. ذكاءه كان ذكاء طفل حذر.. و مجازف، و الذي لا يعرف معنى للخوف و الاستسلام. أما الليل، فقد كان أكبر مستبد، على أشياء و فضاء المدينة ككل. لسوء حظه، أو ربما لحسن حظه، القمر أظهر في وجهه، خلال هذه الليلة اللعينة، شحّه غير المتوقع منه. يسود ظلام دامس جدا. لكن من ناحية أخرى، ساعده هذا الظلام، ليختفي عن أنظار الشرطيين المطاردين، و كذا أنظار كلابهم، المتربصين به دائما. إنه لا يشك أبدا، أنهم كانت لهم اليد الطويلة، في عملية هذه الليلة. لكنه يتحداهم.. كما تحداهم في العمليات السابقة . فكر ( لي كل الحق، في أن أعيش حياتي بالطريقة، التي أقدر عليها، بالتعاون معهم.. هم أنفسهم. إنهم يضربونك بنفس اليد، التي يمنحونك بها الهدايا.. نحن في غابة مفترسة.. و لابد أن تكون لي معهم أسلحتهم، التي يحاربون بها أمثالي، من المغضوب عليهم.. رغم أنني "كنخلّص" لهم بطريقتي.. إنهم جياع و لا يشبعون ).

تابع عبّون، وحيدا و قويا، هروبه الخارق، متسلقا الجدران المثقوبة، و كأنه هيأها من قبل، لهذه الغاية بالذات.. يبدو كقط متوحش.. لينتهي في آخر المطاف، إلى رصيف الشارع الطويل.. بالقرب من حي ( جمافو )، المعروف بمنازله الوضيعة، حيث تباع الخمور.. خموره، بأثمان رخيصة.. كل أنواع الخمور، يمكنك إيجادها هنا، لكن خمرة عبون هي الأجود و الأشهر.. إنها من صنع يده الخبيرة. فقط، يجب عليك أن تعرف، كيف بإمكانك الوصول، إلى نوع من الكائنات البشرية، التي يعتبر وجودها في الحي، شرطا أساسيا لتحقيق هدفك.. ينعتون بسماسرة العسل. و لفظة العسل يطلقونها على خمرة عبّون. و هو تعبير مجازي، للإسم الشعبي الذي تعرف به، في الحي و ما جاوره..هو( الماحية ). إنه اللقب الذي يعرفون به خمرة عبّون، حتى في خارج حدود حي ( جمافو ).

حين تجاوز العتبة الأولى للحي، بدت على شفتي عبّون ابتسامة المنتصر الماكر. ألقى بمصفاة السجارة، التي بقيت مطفأة بين أصابعه. توقف.. فكر قليلا، ثم مشى كالنخلة السامقة، مخترقا سواد الليل تجاه بيته البسيط.. بيت مبني بقطع صخر الوادي، الممزوج بالطين و التبن المطلي باللون الأبيض الناصع. وقد بناه بكلتي يديه، بالتعاون مع ثلة من أصحابه الأوفياء.

( يتبع )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في