الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سموم اللغة الثورية الهابطة

مصطفى مجدي الجمال

2012 / 9 / 5
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


لا تتعجب من عنوان هذا المقال.. ولا تتعجب من إثارتي لهذا الموضوع في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة حيث يوشك أن يندلع صدام مروع أو صفقة انتهازية كبرى بين قوى الإسلام السياسي والسلطة العسكرية المتحالفة مع فلول النخبة المتسلطة المزاحة..

فمن الواضح أن تأزم الوضع القائم وتعقيده يضع القوى الثورية في حالة "موضوعية" من الحيرة والانفعال والتقلب في المواقف.. وإذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي (مثل فيسبوك وتويتر) قد لعبت ولا تزال تلعب دورًا محوريًا في "التعبئة الثورية" من خلال التوعية وتنسيق التحركات والحوار بين النشطاء.. فإنها ليست كافية وحدها بالطبع، بل يمكن أيضًا أن تتسبب في أضرار كبيرة..

إننا نناضل من أجل توحيد القوى الثورية في جبهات ومرنة وتتفاوت في عرضها، ولا شك أن الخلافات التنظيرية وكذلك التكتيكية من طبائع الأمور، إلا أنها لا يجوز أن تعوق الوحدة الجبهوية أو تنسيق الأنشطة الثورية على الأقل.. لكن إدمان النضال من وراء لوحة المفاتيح وحدها يغري البعض من المناضلين بالهبوط بلغة الخطاب إلى حالة لا نرضاها حتى لو أشبعت رغبة كاتبها "العليلة" في السخرية والتهكم على من يختلفون معه والحط من شأنهم.. أفترض أننا نريد توعية الجماهير الشعبية بأفضل ما في عصرنا من ثقافة سياسية ثورية.. ومن ثم لا يجوز أن نغرق في السفاسف والمهاترات والكيد.

إن رفيق النضال الحقيقي هو من يهديك أخطاءك ويساعدك على التخلص من عيوبك، دون استمتاع مَرضي بـ"تجريسك".. ويكون في الوقت نفسه على أتم الاستعداد لتلقي النقد الرفاقي منك.. فكل منا يكمل الآخر من أجل بناء علاقات نضالية صحية بين ماضلي الثورة، وخاصة بين تيارات اليسار المصري العريض والحركات الشبابية الجديدة..


بالطبع من الواجب إدانة وفضح هذا الموقف الانتهازي أو ذاك.. ولكن يجب أن نكون أول من يعلم أن الموقف السياسي السليم قد يخسر الكثير من الأنصار لو صاحبته مثل هذه النزعة العدوانية والتسيب اللفظي الذي قد يشفي غليل صاحبه ويخرج ما بداخله من كبت وإحباط.. ولكن ليس له أي علاقة بالنشاط السياسي الثوري.. هو أسلوب سيكلوجي أكثر من كونه أيديولوجيًا أو سياسيًا.. قد يعجب هذا التجاوز بعض الشباب المراهق سياسيًا ويجمع المزيد من الأنصار حول مطلقه.. ولكنه سيكون للأسف جمعًا قد تربى على هذا الأسلوب الممجوج، ومن الممكن جدًا أن يستخدمه حتى ضد الرفاق.. فمن سيكون المستفيد من هذه الأجواء الموتورة وتعويد الشباب على التسافل وسوء الخلق؟

ربما يبادر البعض باتهامي بالتمسك بالشكليات، وهي في الحقيقة ليست شكليات تمامًا، لأن الوعاء الذي نصب فيه خطابنا الثوري لا ينفصل عن مضمون الخطاب نفسه.. وقديمًا قالوا "الإناء ينضح بما فيه".. هذا وإلا ما كان لنا الحق في الغضب والتقزز من تلك الأبواق الجاهلة والمغرضة التي تكيل السباب والاتهامات الجزافية بالكوم لليسار والوديمقراطيين الثوريين عامة.. أما إذا سايرناها في هذا النهج السقيم فماذا سيفرقنا عن أعدائنا؟ وأي ثقافة سياسية تلك التي سندعيها لأنفسنا؟

اتهمني البعض بأن اعتراضي وتحفظي على هذا الأسلوب نابع من إعجاب بـ"الأخلاق البرجوازية"، ولا أعرف لماذا يبادرون بمنح البرجوازية هذه الهدية الكبيرة.. وهل يتصور بعضنا أن الأخلاق البروليتارية تتساهل مع الشتائم.. أقول لهم: أبدًا إن هذا الأسلوب خليق بالبرجوازية التي تتسلح بالتخوين والتكفير، بل وبالقدرة على إطلاق الرصاص على مواضيها هي نفسها أولاً بأول من أجل تبرير مواقفها المتذبذبة والمتناقضة.. وربما يكون خليقًا بأخلاق البروليتاريا الرثة كما أسماها ماركس، والتي لا ترتبط ارتباطًا واضحًا ثابتًا بجهاز أو عملية إنتاجية.. فلا تجيد سوى اللعن والسب.. حتى أنها لا تتورع عن سب نفسها!! فهي لا تعرف التحليل السياسي ولا تجيد حتى إطلاق الاتهامات السياسية مثلما تفعل البرجوازية الصغيرة التي قد تستطيع التحليل ولكنها تتلاعب به من أجل تبرير تقلباتها..

ومن خلال متابعتي لتدوينات كثير من النشطاء الثوريين الذين أعجب بهم إعجابًا شخصيًا لم يصادفني الحظ أن قرأت لبعض منهم تحليلاً معمقًا ومستقرئًا للواقع ومسببًا للمواقف المتخذة أو المدعو إليها.. فلا نجد منهم سوى عبارات قصيرة بها أحكام قاطعة.. قد نتفق مع معظمها ولكن ليس من الديمقراطية أو احترام الجمهور في شيء أن يكتفي كاتب التدوينة بإصدار الأحكام القاطعة بإدانة هذا الموقف أوذاك ثم يلصق بمتخذه كل ما بوسعه من اتهامات وتشبيهات مذلة، بما في ذلك التوصيفات "الجنسية" وشتم الآباء والجدود والاتهام في الذمة المالية..

ربما يذكرني هذا بكتابات عالم الاجتماع الفرنسي "جوستاف لوبون" (وخاصة كتابه: روح الجماعات) الذي رأى القائد/ الزعيم هو من يتجنب إثبات صحة أفكاره، والذي ينطلق من أفكاره وشعاراته على أنها صح مطلق، وبدون هذا لن يكسب ثقة الجمهور.. أخشى أن تجرفنا النزعات الخطابية الحالية إلى تخوم الغوغائية، ونحن فيها الخاسرون بالتأكيد.. فـ"مهارة" السباب ليست حكرًا على أحد.. وربما كنا نحن اليساريين من أضعف الناس فيها.. وحتى لو كنا "متفوقين" فيها فإن هذا لا يمنحنا أي ميزة أمام أنفسنا على الأقل ونحن نقف أمام المرآة..

إن العمل الثوري لا يقف بالطبع عند مجرد إجادة الهتاف أو تنظيم مظاهرة أو إضراب أو إصدار منشور.. أو التفرغ للتدوين الإلكتروني (وهو ما يذكرني بظاهرة "مناضلي الفاكس" في التسعينيات).. إنه عمل متكامل يقوم أولاً على نظرة علمية للعالم وانتماء طبقي ثوري للكادحين.. وهناك تخصصات بالطبع.. ولكن الهجاء لا يمكن أن يكون تخصصًا في العمل التنظيمي الثوري، ولا في العمل الجماهيري..

وبالمناسبة لقد كان التشدد والتفنن في مهاجمة الخصوم والمنافسين وحتى رفاق الدرب وإلصاق أقذع الاتهامات بهم من أهم الميكانيزمات (الآليات) التي استخدمت لاصطناع خلافات كبيرة بين صفوف اليسار المصري بما يؤدي إلى الانقسام وتبريره وتعميقه.. وبإمكانك أن تتعجب لذلك اللدد في الخصومات إذا راجعت وثائق اليسار المصري.. ومع ذلك فقد طغت على الاتهامات وقتها سمة سياسية أو أيديولوجية (مثل تهم: الانحراف اليساري المغامر، أو اليميني التصفوي أو التردد الانتهازي..)..

إلا أن ما تسمى "لغة الفيسبوك" أضافت المزيد من الصفات السلبية:
أولاً : هناك تلك النزعة الفردية في "امتلاك الفضاء السيبري"، فلكل الحق في أن يتخذ ما يشاء من المواقف، ولا اعتراض على هذا، ولكن "دون إبداء الأسباب" (حسب الصيغة السخيفة في العطاءات الحكومية)، ودون احترام للمختلفين مع هذا الموقف، وباستطاعة المدون أن يلصق بهم ما شاء من اتهامات.. فهو موقف فردي في الأول والآخر، ولا يخضع لحساب أو مراجعة من جماعة منظمة.. وبالطبع فإن السبب في هذا يرجع إلى ضخامة أعداد الملتحقين بالثورة ولم يستطع النشاط الحزبي المنظم استيعابهم بعد..

ثانيًا : نتيجة لهذا فإن "ثقافة الفيسبوك" الفردية تخلط بين الموقف موضع الهجوم وبين شخص صاحب هذا الموقف، فأصبح التقييم هو من منطق الشجاعة والجبن، وتوجيه البذاءات الجنسية.. ومن المفترض أن الأهم هو القضاء على الفكرة المعادية وليس "اغتيال" شخص وشرف صاحبها.. والأخطر أن هذا المستوى في العداء والهجاء لا يتغير أيًا كانت الاختلافات تكتيكية أو استراتيجية.. بل إن التهجم على الرفاق والحلفاء كثيرًا ما يكون الأكثر قسوة وربما الأكثر فحشًا..

ثالثًا : يشعر كثير من الجالسين وراء لوحة المفاتيح بالراحة "السيكولوجية" بعدما أن يكونوا قد نفثوا ما بداخلهم من ضغوط وإحباطات (وهي طبيعية) عبر تقنيات الإسقاط والإزاحة والعدوان اللفظي.. بعدها يشعر واحدهم بالراحة ثم يدلف إلى فراشه مع بشائر الصباح..

رابعًا : تسبب هذا كله في تردي لغة الحوار السياسي العام في المجتمع، بل وفي الأسرة وأماكن العمل والمواصلات والأسواق...، ويغلب عليها الزعيق والسب والتشويه وانعدام الالتزام بتقديم الحجة.. وبالطبع ليس هذا هو المناخ الذي نتصور أن ثقافة ديمقراطية ومدنية ومتحضرة يمكن أن تنتعش فيه..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عندك حق يا أستاذ مصطفى
بشير صقر ( 2012 / 6 / 7 - 13:30 )
لك كل الحق فما يجب الاهتمام به هو:
من حيث الهدف هو الفكرة التى يتم الاختلاف بشأنها وليس الشخص
ومن حيث الأداة أن تكون وتظل متحضرة وراقية لكى نتمكن من استئناف الحواربرغم الخلاف
وجميل أن تهتم بمثل هذا الأمر فى ظل المعمعان الذى نعيشه
بشير صقر


2 - الثورات سموم ,, فماذا نسمي الحكُّام ؟
سامي بن بلعيد ( 2012 / 9 / 6 - 03:27 )
تقصد إننا نبقى جامدين تحت رحمة الحكام ومن يحرّكهم ؟

اخر الافلام

.. ??مجلس النواب الفرنسي يعلق عضوية نائب يساري لرفعه العلم الفل


.. الشرطة الإسرائيلية تفرق المتظاهرين بالقوة في تل أبيب




.. مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في تل أبيب وسط مطالبات بإسقاط


.. نقاش | كيف تنظر الفصائل الفلسطينية للمقترح الذي عرضه بايدن؟




.. نبيل بنعبد الله: انتخابات 2026 ستكون كارثية إذا لم يتم إصلاح