الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : القمر الفضّي ( 2 )

محمد بقوح

2012 / 6 / 7
الادب والفن


-3-
فتح الباب الخشبي الكبير بمفتاحه القصير. باب تتوسطه، في أعلاه، حلقة معدنية. مثقلة بما يشبه يد خماسية الأصابع. وضعت خصيصا لإحداث الدق المسموع، على الجزء المعدني في أسفلها. تنبيها أهل الدار بوجود طالب الدخول خارج البيت. مثل هذه الأبواب القديمة غير موجودة في المنطقة اليوم. أشبه بثحف في طريقها إلى الانقراض.
جد عبّون، الحاج العربي بلمهمدي، الذي لا يزال على قيد الحياة، بسن ناهز المائة سنة، أطال الله عمره، يقيم مع زوجة ثانية، و مع أبناء آخرين كثر، مع العلم أن ابنه الوحيد، مع زوجته الأولى، التي هي أم عبّون، و المسمى الهاشم، توفي في العام الماضي، و هو في السن السبعين، على إثر سقوطه المفاجئ في بئر عميقة، بإحدى حقول ترغا. و يعتبر جد عبّون هذا، من أهم رجال المقاومة الأشداء، الذين حاربوا المستعمر الفرنسي، في ريعان شبابه. و قد حاولت معه مؤخرا، لجنة من الدولة، لكي يبيع لهم هذا الباب التحفة و المتميز، الذي نعتوه بالتراث البشري. الحاج عبون العربي بلمهدي لم يفهم في البداية، ماذا قالوا له، في ذلك اليوم المشؤوم. لم يسمع في حياته الطويلة تعبير " التراث البشري"، لكنه كان أذكى منهم، و فطن إلى كذبتهم المزينة. رغم أنه تحدث معهم في البداية بأدب. حيث قال لهم، أنه لا يعقل أن يبيع لهم الباب، و يبقى بيته ( مشرعا ) بدون باب. يعني يبقى بيته عاريا و مكشوفا، في زقاق الحي. ثم أنه، غير متعود على بيع أشيائه بالمرة. لكنهم، لم يقتنعوا بكلامه، فطردهم من داره شر طردة. فكر عبّون، الإبن في كل هذه الأمور، و هو يدخل بهو الدار، متخفيا بالظلام. استقبلته أمه العجوز قائلة :
- أعرف يا عبوني.. أنك ستعود إليّ ( محتضنة رأس عبّون..).
- نعم يا أمي عدت، لأن الله و رضاك كانا معي.( أخذ رأس أمه بكلتي يديه، و قبله بحرارة ) ، ثم قالت له و عيناها في عينيه :
- الله إعطيك الخير يا ابني.
- إني متعب يا أمي العزيزة.. أريد أن أنام.
-.. و العشاء.. ألا تتناول عشاءك..؟ إنه مازال دافئا و جاهزا.
- شكرا أمي.. ليست لي رغبة فيه..

-4-
في الصباح الباكر، أشرقت شمس المدينة. يسميها عبّون سفينة الحياة. نظرا لتواجد منازلها البسيطة، على مجرى الوادي. لقد باتت حكاية هروب عبّون، و نجاحه في الإفلات من أيدي البوليس.. حكاية الليلة الماضية، على طرف كل لسان ساكنة حي ( جمافو ). حتى الصغار منهم، باتوا يلهون، و يطرحون أسئلة خطيرة، و أكبر من سنهم، حول البطل سي عبّون، هكذا يلقبونه. كيف استطاع هذا الرجل البسيط و القوي، و المتواضع و الكريم، أن يهزم، من جديد، رجال البوليس المدربين، و الأقوياء، بأسلحتهم و شراسة ( كلابهم ) ؟ و ككل مرة، يخرج من الامتحان ناجحا، كعهد حيّه به. يعود إليه ظافرا و قويا و سليما، بدون جراح في جسده، و لا بأسنان مكسرة.. كما حصل، بالنسبة لبائع الحشيش بوقلمون، في الحيّ المجاور. إنهم حولوه إلى شبه جثة هامدة، بفعل الضرب المبرح، و الرفس بالأرجل و اللكم.. قبل حمله داخل سيارتهم إلى الكوميسيريا، حيث أشبعوه المزيد من الضرب و السب و الشتم.. و قيل أنهم أقعدوه على قنينة في المرحاض، الذي أمضى فيه ثلاثة أيام، قبل تقديمه أمام وكيل الملك، و يحاكم بسنة نافذة بعد ذلك.

المثير للإعجاب بالنسبة لساكنة حيّه، أن سي عبّون، عاد في نفس الليلة، التي طاردوه فيها، عبر أزقة المدينة، التي يعرفها، كما يعرف أشياء غرفته، و استطاع أن ينام في فراشه الشخصي، بين جدران بيته، حتى الصباح. إنه بطل حقيقي بالنسبة لأطفال و شباب حومته. و مهما كانت قوتهم البدنية، و قوة ( طول ) آذان كلابهم المفترسة، و عيون حساده الكثيرين، الذين ينقلون للبوليس كل صغيرة و كبيرة، عن أنشطته و تحركاته، إلا أنهم يفشلون دوما في خططهم، أمام قدراته التوقعية الهائلة، و يقظته الكبيرة، و ردة فعله الذكية و السريعة، التي لا تقهر، كلما أخبره حدسه العجيب، باقترابهم الوشيك، إلى حيث هو موجود..

-5-
أما المرأة العجوز ميمونة، و التي يلقبها أطفال و صبيان الحيّ بالحمقاء حينا، و بالحكيمة حينا آخر، فهي الأخرى، لم تخف إعجابها، بما قام به سي عبّون، خاصة أن الأمر يتعلق بمراوغة البوليس، الذين تمقتهم حتى النخاع، لأنهم كانوا السبب المباشر، في مقتل ابنها يوسف. فلم تتحمل صدمة الحدث. فأصيبت بحالة من الجنون القاسية. مازالت تعيش ويلاتها حتى اللحظة. بل تعتبر من الزبناء الأوفياء لمشروب عبّون. تقول أنها تريد أن تنسى محنة ابنها مع المخزن.
قالت، و عصاها الخشبية، تلوح بها في السماء بعيدا، رغم انحناءة ظهرها البارزة :
- و سَمْعو.. يا لّي عيونهم مسدودة.. سْدي عبّون، طلّع لكم الرّاسْ لفوقْ.. سدي عبّون، قمرة هاذ الحي العظيم.. و كتب اسمكم ( جْمَافّو ) في دفتر تاريخ هاذ المدينة المقاومة. البارحْ، حاربنا النصارى الماكرين.. و اليومْ هاحنا كنحاربو المخزنْ.. الأسف، كنحاربو المخزن ديالنا.. ولادنا هم حرّاس هذا المدينة. و المخزن.. لايعميها ليه..
( صفق الأطفال، و بعض الشباب لميمونة العجوز، لأنهم أدركوا بعض الحكمة، في قولها كالعادة دائما، عندما تعلق على إحدى المواقف المستجدة في حيّهم.. جمافو ). عادت لمخاطبتهم :
- صحيح .. سي عبّون كيبيعْ الشرابْ.. لكن، كيبيعو لولاد الشعب، بثمن رخيص.. واش غير هما ليبغاو يشربوا، و ينشطوا، في لوطيلات و البيران.. ولادنا لا.. ويلا كيمنعو علينا الشراب، علاش هما كيبيعوه في البيسريات.. وينّي بلاد.. د الحكرة هذي...!!
( جلست على صخرة ملساء، كانت تتخذها دوما للجلوس، كلما تقدمت في التخاطب.. موجهة كلامها، إلى من يستمع إليها، من أبناء الحي الحاضرين.. و بعد لحظة صمت، وقفت على الصخرة، و كأنها ستلقي بخطاب.. أو كلمة رسمية.. قائلة ) :
- عرفت، بأن الله كيبغي سدي عبّون. و يكفيه حبّ الله.. و حبنا حنا.. دكشي علاش ماقادينش يشدّوه، و يديوه الحبس. سدي عبّون.. مرضي د الولدين. بحالو بحال ولدي يوسف. ( بدأت تبكي كطفل رضيع.. حاول أحد الشباب الاقتراب منها، لكنها ضربته بعصاها، التي كانت بين يديها. تراجع الشاب إلى الوراء، لكنه ظل بالقرب منها ).
- ولدي سدي يوسف، ما كان كيبيع لا الحشيش.. و لا الشراب.. و قتلوه.. قتلو المخزن.. ولدي يوسف.. مجرد بحّار.. و عزيز عليه البحر.. و عزيز عليه الحوت.. واش حتى البحر، ممنوع نمشيو ليه ؟ قالوا ليّ : ولدك كيهضر فالسياسة.. و كيفهم كثير مالقياس.. قلت ليهم : إوا بغيتو ولدي يكون حمار.. بش ديرو ما بغيتو فلبلاد.. أولاد الهمّ.. ( عاود الحضور التصفيق. لكن، ظلوا مع ذلك مندهشين و مستغربين، أمام كلمات العجوز ميمونة الحكيمة.. و القوية، هذه المرة. و لأول مرة، تتحدث في موضوع ابنها يوسف، بكل هذا الوضوح و الدقة، و الجرأة النادرة.. ).

بعدها، هبطت من أعلى الصخرة، و هي تبتسم في وجه الحاضرين. تقدمت إليهم أكثر، ثم قالت لهم، بأن ابنها يوسف و سي يعبّون.. كانا شقيقين.. بل توأمين. و قد أنجبتهما هي في يوم واحد، دون أن يعلم بهذا الحدث أهالي حي ( جمافو ). و قد أخفت هذه الحقيقة، لأنها كانت في علاقة، غير شرعية، مع أب سي عبّون، المرحوم الهاشم.. الذي كان عاشقا لها حين كانت فتاة. عندما بدأت تبكي و تنتحب، علم الجميع أنها الآن، انتقلت إلى مرحلة حالة الهذيان، و الدخول و الخروج في الكلام. و في أحيان كثيرة، تنهي حالتها هذه، بإلقاء الحجارة على الصبيان و الأطفال. أما الشباب و الرجال و النساء، الذين حضروا لمختلف أطوار الخطاب الحكيم، للعجوز ميمونة.. فيفضلون أن ينسحبوا، بهدوء و بصمت ملفت، دون إزعاجها أو التكلم معها.. ينسحبون إلى منازلهم، و قضاء أغراضهم.. قاصدين اتجاهات مختلفة.. كل و وجهته التي يريد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في