الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جنون الأسمر

احمد مصارع

2005 / 2 / 4
الادب والفن


قصة _ صور من البلدة الكبيرة
كان عمي شيحان أحد أفراد عشيرتنا المنتشرة في البرية الواسعة حول بلدتنا الكبيرة وشمال البلدة ,قضى معظم حياته يرعى قطيعاً صغيراً من الأغنام وينتقل من مرعى لآخر مع عجوزه وخيمته السوداء والمنسوجة من شعر الماعز, بصحبة حماره وبسطه وظروف الجلد, فمن النادر مشاهدته في سوق البلدة يقضي بعض حوائجه أو يبيع شيئاً ليستبدله بآخر . كان عمي شيحان عجوزاً سبعينياً نحيفاً وطويلاً وبقامة صلبة وأيدي خشنة ووجه صارم, بسمرة داكنة ,لا تفارقه عباءة الصوف الملحه صيفاً أو شتاءً واشماغه أزرق اللون, وعقاله غليظ وثقيل الوزن .
وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يحفظ حتى قصار السور من القرآن العظيم ولا يصلي أبداً, وليس ذلك لجهالة فيه, بل لجهل بأصول الدين وبعد دائم عن العشيرة وعن بلدتنا الكبيرة, يردد بعض الأحيان كلمات وجمل من مثل:
الله أكبر .. استغفر الله .. أشهد أن لا إله إلا اله.. ( بصلاة أمحمد ) وهذا تقريباً كل ما يعرفه من شؤون الدين 0
ويقال أن أحد الرجال المتكسبين من الدين, زاره مرة فدهش من جهل عمي شيحان وأقسم ألا يتركه حتى يتعلم الصلاة, وبين شد ومد, بين الحفظ و النسيان وحركات الصلاة التدريبية, تسلل قطيع الغنم الصغير ولساعات طويلة, وكانت خالتي هنوف منشغلة بالطبخ والنفخ وغسل القدور وقد نامت من التعب00 ساعات من الغفلة والتعبد, وضاع القطيع وشرد وكان يوماً مشؤوماً انصرف فيه رجل الدين مذموماً, ظهر فيه كوجه للشؤم واستقر الخوف في قلب عمي شيحان منعكساً شرطياً, فالصلاة في البرية تؤدي إلى ضياع الحلال وخراب الخيمة ,ومع الأيام غدت الفكرة طريفة ومهجورة بالنسبة له لأنه يتحدث عنها بمرح في كل خمس سنوات مرة .
(يوم جاء هذاك الشيخ .. تلك السنة.. من الوقوف و القعود.ضاع الحلال 0)
كان الفصل ربيعاً حين حمل عمي شيحان بعض الفائض من الخاثر والجبن والسمن والفضل ,لخالتي هنوف, فقد وضعت كل شيء في ظرف جلدي خاص واستقل حماره وقصد البلدة في الصباح الباكر حتى يصل وقت الضحى الأول من حركة السوق, وقبل الضحى الثاني يكون قد عاد إلى خيمته محملاً بما يحتاجه لموسم كامل,وعندما وصل إلى أطراف المدينة تقابل وجهاً لوجه مع الشاب الأزعر عوجان ,كان عوجان قد غادر المدرسة يائساً من النجاح في الشهادة الابتدائية لعدة سنوات وعن قريب سيلحق بالعسكرية كمجند, كان عوجان يحمل في سترته زجاجة خمر وبيده عليجة فيها ملحقات الشراب وبادره بالهتاف 00
مرحباً يا عم 0
أهلاً بابن أخي 0
(كأنك تقصد البلدة ؟ علوم خير( إنشاء الله )
(نعم والله.. ( علمك .. شغيلات صغيرة .. )
سأله عمي شيحان وهو يتفرسه ..
( أنت منين أبن أخوي )
رد عليه عوجان أنا من عيال الجربة
وتهلل وجهه الشديد السمرة
( والله أنا يا أبن أخي.. عمك.. ( عمك اللزم )
ثم سأله عمي شيحان متوددا :
(أبن أخي خذ بعض الخاثر وبعض الجبن.. ( والله إلا تأخذ )
وأغدق عليه وأوشك أن يكمل طريقه مسروراً بعطيته لولا أن عوجان سأله
ألم تسمع يا عم بموت الشيخ طليبان ؟ البارحة
واضطرب عمي شيحان بين السرور والحزن
...لا .. يا أبن أخي.. صحيح ؟.. ( بالله عليك صحيح ؟ ) الله يرحمه
-والله يا عمي لا أكذب عليك أبداً.
-هل ستذهب إلى عزائه يا عم..؟
قال عمي شيحان : العذر من الله .. والله أنا ما أعرف العزاء ..
عمك أمي .. ما يفك الخط ..
وقف عمي شيحان حائراً بينما راح عوجان يفهمه كيف يتصرف بالعزاء كيف يدخل , وماذا يقول, بينما عمي شيحان لا يفقه شيئاً وقال شاكياً :
العذر من الله يا ابن أخي .. أنا والله لا أعرف ماذا أتكلم.. وماذا أقول ؟ قال عوجان : قل أي شيء يا عم ..
•ماذا أقول ..؟ وانفعل عوجان وضاقت حوصلته فقد آن وقت جرعة الخمر وراح يشرح له ما يتوجب عليه فعله :
- اذهب إلى السوق, أكمل قضاء حاجياتك ثم انطلق نحو السور العتيق شرقاً وعندما تصل باب بغداد تجد هناك خيمة عزاء كبيرة ,ثم قف بالباب وقل :السلام عليكم بصوت عالٍ وبعد أن يردوا عليك السلام قل بصوت عالٍ: وهم سيردون عليك جميعاً بصوت عال :
يا عيوني
كررها كلما قدرت على ذلك .. وهذا باختصار 0
لقد فعلها عمي شيحان وساد العزاء المهيب ضحك جريء, وعرف القوم أن ( عجياً ) ملعونا هو من لقنه الدرس وألقاه في أتون موقف محرج للغاية, وظل عيال الجربة لمدة طويلة يستقصون عن شكل هذا الشاب الملعون طوله وعرضه وملابسه, ولأن عوجان كان قد سمع قصة الضحك في عزاء الشيخ ووصفه بالعجي الشيطان, فقد ظل هارباً عن أنظار الناس لئلا يتعرفون عليه بفراستهم العربية المعروفة ولكي يتجنب, ضربة دبوس قد ينشبها أحدهم بين ضلوعه تنخلع منها الضلوع .
احمد مصارع
الرقه - 2003

المجموعة القصصية ( صور من البلدة الكبير ه )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غادة عبد الرازق: الساحة الفنية المصرية لم تعد بنفس قوة الماض


.. الفنان درويش صيرفي.. ضيف صباح العربية




.. -بحب الاستعراض من صغري-.. غادة عبد الرازق تتحدث عن تجربتها ف


.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف




.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال