الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشيوعيون الأنصار صفحة أخرى تقاوم النسيان

نصير عواد

2012 / 6 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


سؤالٌ طالما رددته وتهربت من الاجابة عنه بسبب كمية المرارة المتكدسة فيه وتفضيل عدم الخوض بتفاصيله حتى لا يُساء الفهم، وهو لماذا غادر أغلبية الأنصار الشيوعيين تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي؟ مع أن الجميع أشادوا بتجربة الأنصار بجبال كردستان العراق ورأوا فيها آخر التجارب الناصعة والعميقة والدامية في تاريخ الحزب. هل سبب ذلك أن البديل الذي انتظره الأنصار طويلا وضَّحوا من أجله بأجمل سنين العمر جاء مقيتا ومعمما؟ أم أن عقود المنفى الثلاث أضعفت خيوط ارتباطهم بحزبهم وجعلتهم غير واقعيين وغير مدركين جيدا لمتطلبات التغيير؟ أم أن الأنصار أطالوا الوقوف على يسار حزبهم حتى ظنوا أنهم متقدمين كثيرا عليه؟ أم أن المبادئ الحقيقية ولّت مع الأوائل والمؤسسين؟.
"النضال، الماركسية، الثورة" أفكار جميلة ومقدسة ألقاها في شوارع الفقراء "شاطر" ثم اختفى بين الدكاكين تاركا خلفه الثوار الطامحين لتغيير مجتمعاتهم يدورون في فلك النظريات المنجزة، غير قادرين على هضم حقيقة أن الظواهر السياسية مآلها التغيير والتراجع والنسيان حتى لو كان صنّاعها من الأبطال والقديسين، ونظن تجربة الأنصار الشيوعيين بكردستان العراق واحدة من تلك الظواهر والتجارب السياسية التي تصارع النسيان والتهميش. في الجبال قدّم الأنصار أفضل ما عندهم وخسروا الكثير من أوراقهم الصحية والاجتماعية والمادية من دون أن يشعروا أنهم أصحاب فضل على أحد، فلقد ذهبوا بقناعة للدفاع عن أفكارهم ومعتقداتهم واستشهد الكثير منهم كما يحدث عادة في الحروب. دراويش كانوا، مزودين بشعارات ساخنة وقادرين على الموت بشكل رائع ليس فقط من أجل أفكارهم وشعاراتهم ومعتقداتهم بل وكذلك من أجل الدفاع عن بعضهم البعض، عن الرفقة والمحبة والخلافات الصغيرة. كان يؤخذ عليهم أفراطهم في حب الوطن والشعب والحزب وعدم اجادتهم اللعب في الجانب الآخر من طاولة السياسة، ثم انتهوا إلى ما هم عليه في عزلتهم يلقون باللوم تارة على المنفى وتارة أخرى على الاحتلال وثالثة على الانقسام الطائفي البغيض، غير مصدقين أن الحركات والتجارب العظيمة قد لا تكون من اهتمامات وأولويات المجتمع العائد إلى قبيلته وطائفته، غير مصدقين أن تضحياتهم كذلك سيعلوها الصدأ وستدخل دفاتر التاريخ مبكرا حتى لو كانت رائعة وحقيقية وأبطالها أحياء يرزقون. فما الجدوى أذن من تجربة لم تستمر ولم يستطع أبطالها توظيفها في المتغيرات السياسية لخدمة الوطن، ما الجدوى من تجربة لا يستطيع "النصير" روايتها لأطفاله الذين ولدوا وترعرعوا في المنفى خوفا من أن يربك حياتهم وبراءتهم. البعض من الأنصار أقتنع بعزلته وعَدّها من اكتشافات المناضلين الحقيقيين وأنها معركة من معاركه، قد تكون الأخيرة، ولا يفكر بأي حال من الأحوال بالتراجع والاساءة إلى تاريخه وقناعاته في رحلة حياة لم يتبقَ منها الكثير. في حين منع كبرياء البعض الآخر من الأنصار وجسامة ما قدموه من تصديق واستيعاب النهاية ولم يقنعوا بأسباب الصمت الذي احاط بهم وحاولوا التواجد والتحرك في غير محفل، ولكنهم ما أن يغلقوا الباب من خلفهم حتى يحل صمت من نوع آخر، تتحول فيه الأسئلة الصغيرة إلى سكاكين عمياء، ثم تتكفل الذكريات المؤلمة والأغاني الحزينة والقصائد القديمة في ترتيب خرابهم وانهيارهم.
الفتية الصوفيون لم يعد أحدا يتذكرهم أو يسأل عنهم. فبعد أن عبروا بوابات الخمسين صاروا يتصيدون المناسبات القليلة لغرض اللقاء ونفض الغبار عن الحكايات أو يسهرون عند موقع "الينابيع". يحركهم شيء باتجاه القراءة وتطوير الأدوات ومتابعة ما يجري في الوطن، يتسلون بالذكريات ويُعَزّون أنفسهم بأنهم وطنيون من دون وطن، شيوعيون من دون حزب شيوعي. فالحزب الذي عَلّقوا احلامهم عليه وضَّحوا من أجله ووقفوا إلى جانبه أمسى ليس بحاجة إليهم، ولا بحاجة إلى مواقفهم ووضوحهم وملامحهم، ويفصح صمته المعلن عن أنهم، الأنصار البيشمه ركَة، صاروا مصدر احراج له في سياساته وخططه وعلاقاته بعد الاحتلال.
الخشية من الأنصار الشيوعيين تعود بداياتها إلى أواسط الثمانينيات من القرن الفائت بعد خروج الدفعات الأوْل من المرضى والشيوخ أثر مجزرة بشتأشان المروعة. ففي الشام لم تستقبل منظمة الحزب رفاقها القادمين من الجبال بشكل لائق ولم يدخلوهم إلى بيوتهم خوفا على العائلات الهانئة من آكلة الحجر، في حين كانت المنضمات الحزبية بأوربا أكثر وضوحا وذهبت إلى التحذير المعلن من الأنصار القادمين من جبال كردستان وصورتهم جلفين ومتطرفين لا هم لهم سوى الاستحواذ على منضمات الحزب في الخارج وإزاحة قياداتها القديمة. هذا الاستقبال دفع بالأنصار يومها للسؤال إنْ كان الحزب الشيوعي العراقي حقا مقتنعا بالنضال المسلح لمواجهة الديكتاتورية؟ وهل ثَقّفَ أعضائه ووجه كوادره بذلك؟ وهل هو أقنعهم أم أكرههم عليه؟ ، فلقد شهدنا أسلوب المنضمات الحزبية في الخارج عندما تهدد أحد أعضائها أو تريد التخلص منه تلوح له بالذهاب إلى كردستان. وإذا كان لابد من كلمة حق فإن الشيوعين بالخارج كانوا أكثر "شطارة" من المتصوفين الأنصار، وأكثر مرونة ودراية بدهاليز العلاقات الشخصية التي لمضتهم فكرة أن هناك من يذوبون في الحزب ويستمرون في مواقعهم، وهناك من يُذوبهم الحزب وينشر حطامهم في الصمت، بين الذكريات والأسماء والرسائل القديمة.
الأنصار الشيوعيون ليسوا هم العهد الذهبي للعزلة والنبذ فلقد سبقهم إلى ذلك كثيرون على مدى تاريخ الصراعات الفكرية للحزب، فبعد كل خلاف داخلي يُلقى بالمناضلين إلى الهامش، والشارع العراقي مليء بالأسماء والمواقف والحوادث التي تأخذ بخناق وحسرة أي وطني حقيقي. فمن يتجول في شوارع مدينة الديوانية، على سبيل المثال لا الحصر، سيلمس الهيبة التي يتمتع بها "ساجد حمادة" بين أبناء المدينة وسيرى الاحترام الواضح للأستاذ "جليل جبار" وسيرى شذرات الود والمحبة لـ" صباح كاظم وهادي ابو ديه وناصر عواد .. وأسماء أخرى كثيرة". ولكن حين نقترب نصطدم بحقيقة أن هذه الأسماء المناضلة خارج صفوف الحزب، لم يتبقَ لهم سوى اللجوء للعزلة والصمت، فعند المناضلين الأوائل الانتساب إلى قضية حقيقية مشكلة، والتخلي عنها أكبر من مشكلة. ولكن رغم خَيار العزلة القاسي بقي الحزب وشما في لغة المنبوذين الأوائل يستطيع فقراء المدينة تحديد خطوطه وتراكيبه، لم يفكر أيا منهم بالتخاذل والاستكانة او الانتساب إلى حزب آخر بسبب أن حزب "فهد" في رؤوسهم مجبول من المطلقات، من الشهداء والسجون والنضال. فلقد علمهم الحزب على الرفقة وبذر فيهم المعرفة ونكران الذات وحب الوطن لكنه أخفق في أدارة الصراع الفكري وألقى بأصحاب الرأي المخالف خارج المعبد. كان المنبوذون الأوائل يمسكون بأيدينا نحن الشباب عندما نلتقي بهم في شوارع المدينة المتربة ويقولون لنا بهمس "نعوّل عليكم في مستقبل حزبنا وبلدنا" ولم يعرفوا أننا سنسير على دربهم وأن أساليب العزلة والنبذ متوارثة في الاحزاب الثورية. كان الشهيد أبو سحر "ناصر عواد" لطيف المعشر لا يميل إلى العزلة ولا يطيق الابتعاد عن التنظيم وكأنه خرج من رحم أمه إلى الحاضنة الشيوعية، ولذلك فكّرَ بعد تجميد عمله التنظيمي في أواسط السبعينات بمغادرة العراق إلى ليبيا بعد أن ترك عمله وطلق زوجته وودع اصدقائه. كان الشهيد قبل سفره يردد جملة مؤلمة (لا أستطيع تصور حياتي من دون الحزب). وبسبب تعقيد الحالة السياسية وتعرض الحزب الشيوعي العراقي إلى ضربة غادرة ومميتة في اواخر السبعينات ترك الشهيد عمله مرة أخرى في ليبيا متوجها إلى بيروت ثم إلى كردستان لحمل السلاح ضد الديكتاتورية، وحين سألته عند سفح "راوندوز" عن رحلة العودة قال (لا أستطيع تصور الشارع العراقي من دون الحزب). ثم استشهد "ناصر عواد" بمعارك بشتأشان وهو يعاني بحرقة من اهمال وعزلة تنظيمية بسبب مواقفه السياسية القديمة الرافضة لدخول الجبهة الوطنية، فماذا يريد الحزب الشيوعي العراقي أكثر من التضحية بالنفس برهانا على صدق النوايا الوطنية الحقيقية؟. لِمَ كل هذه القسوة بحق رفاق الدرب؟.
الاحزاب السياسية العراقية بعد عصر الاحتلال، وبسبب ضعف القيم وشيوع مفاهيم الغنيمة والكسب، صارت تشتري الذمم وتتصيد الاخطاء وتبذل الأموال والاغراءات لجذب الاعضاء والمؤازرين الجدد لأحزابهم، في حين يبذل الحزب الشيوعي العراقي الجهد والحبر والوقت لأبعاد ناسه ورفاقه ومؤيديه، وخصوصا ذوي التاريخ البطولي منهم. وبالطبع عندما يتحوّل الحزب من حاضنة لصنع المناضلين إلى بيئة طاردة لهم، مصحوبة بنسيان وتهميش متعمدين، نستطيع فهم أحد أسباب غياب الحزب عن شوارع الفقراء. وأقرب دليل على ذلك نلمسه في تنادي المئات من المناضلين والوطنين والكتاب في الأسابيع القليلة الماضية لتدارس أحوال اليسار العراقي والبحث في أمكانيات التواصل والتحاور، بعد أن يأسوا من انتظار مبادرة الحزب لتجميع قوى اليسار والديموقراطية. ورغم استمرار وتجدد وتنوع اللقاءات بين الوطنين والديموقراطيين واللبراليين نجد الحزب الشيوعي العراقي غير مهتم بهذا الحراك وينظر إلى الأسماء والتواريخ والمواقف القديمة بمزاج بدوي لا ينم عن حس وطني حريص على مصلحة الشعب العراقي وقواه الديموقراطية. سبق للأحزاب الكردية أن انتبهت لهذا الحراك وساهمت فيه واستعانت به في صراعاتها السياسية ضد قوى التعصب القومي والطائفي. وكلنا يتذكر اشادة القادة الكرد، عن حق أو باطل أو مصلحة، بتجربة الأنصار الشيوعيين الذين جاؤوا من وسط وجنوب العراق للقتال إلى جانب اخوتهم الاكراد، معلنين عن دعم واحترام حقوقهم أسوة بـ"البيشمه ركَه" الأكراد، ويحاولون بشتى الطرق ربط التجربة الناصعة بنضالهم القومي والوطني. في حين يتمنى الحزب الشيوعي العراقي لو أنه أحتفل بموت آخر نصير "بيشمه ركَه"" منهم لكي يطرح عن ظهره حمل الاحراج والتبرير والصمت السلبي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال موجع
سمير طبلة ( 2012 / 6 / 10 - 04:06 )
يأتي حواره قريباً. مع الود


2 - نعم ، قلت الحقيقة
منير العبيدي ( 2012 / 6 / 10 - 07:02 )
لا يحتاج مقال كهذا الى اي تعليق ففيه من الحقائق ما لا يستطيع نكرانه حتى الجاحدون . على ان التعليق قد يعني من وجهة نظري على الاقل الافصاح عن المساندة و التصريح بأن كتاب الحقيقة رغم الثمن الباهض يجب ان يشعروا انهم ليسوا وحدهم، بات من الضروري اضفاء لمسة من الاخلاق على السياسية، و يدخل ضمن ذلك عدم التنكر للمناضلين القدامي الذي قدموا كل شيء في سبيل ما يؤمنون به.. عدا ذلك فإن محاربة المخالف بات تقليدا راسخا في الحزب للاسف. شيء أخير ، لقد تم استبدال الاحتياطي الضخم من الشيوعيين من الذين يتفوقون ايضا نوعيا ببديل انتهازي نفعي سرعان ما سيتنكر للحزب في اول منعطف صعب او حالما تؤول المغانم الى النضوب..ولكن من يكترث لذلك طالما الجميع منشغلون بالمغانم


3 - تحية
كريم كطافة ( 2012 / 6 / 10 - 22:14 )
صديقي نصير.. أرسلت لك شيئاً عبر الحوار المتمدن لكن قبل الهجوم على الموقع وتخريبه والواضح ما كتبته كان من الخسائر.. أعود وأكرر أني أسمع في نصك صوت الغراب الأبيض.. هذا الذي ظننته لن يتكلم ويكتفي بالوقوف على غصن شجرة تآكلها الزمن ينتظر شبيهاً له.. لكنه تكلم وباح بكل ما في جوانحه.. لقد عبت علي مسك العصا من الوسط وها أنت تحملها هراوة وترفعها بوجوه كل الذين توافقوا ولا أقول تآمروا.. نحن في زمن التوافقات وليس المؤامرات.. توافقوا على كبت صوت هذا النادر الجميل في زمن القبح.. حتى ارتضى هو نفسه شتاته وعزلته
لك من شبيهاً لك تلويحة أمل


4 - التجربة والتسجيل
أحمد الناصري ( 2012 / 6 / 11 - 07:19 )
عزيزي نصير هذا أقل واجب لكل من يقرأ ويكتب أو حتى من لا يستطيع أن يكتب وله قدره على الكلام أن يسجل وجوده الطبيعي والإنساني اليومي، فكيف بمن خاض في تجربة طويلة ومعقده وصعبة، شارك فيها عشرات الالاف من البشر، يراد لها النسيان حتى من داخلها لأسباب غير مفهومة وغير معقولة على الأقل؟ بينما يحاول البعض الآخر التقليل من أهميتها وقيمتها دون معرفة بتفاصيلها واحتمالاتها وامكانياتها الحقيقية لكن غير المنجزة، وتقع المسؤولية لأدبية على كل من خاض تفاصيل تجربة مقاومة الفاشية أن يقول روايته ولا يتلكأ أو ينتظر بغض النظر عن وجهات النظر والمواقف المختلفة من التجربة بأعتبار ذلك أمر طبيعي بل ضروري!

اخر الافلام

.. اليمن.. حملة لإنقاذ سمعة -المانجو-! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. ردا على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين: مجلس النواب الأمريكي




.. -العملاق الجديد-.. الصين تقتحم السوق العالمية للسيارات الكهر


.. عائلات الرهائن تمارس مزيدا من الضغط على نتنياهو وحكومته لإبر




.. أقمار صناعية تكشف.. الحوثيون يحفرون منشآت عسكرية جديدة وكبير