الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العولمة وأفول الدولة القطرية

معقل زهور عدي

2005 / 2 / 5
العولمة وتطورات العالم المعاصر


بدون ريب فقد دشن احتلال العراق من جانب الولايات المتحدة الأمريكية عصرا جديدا في المنطقة العربية والعالم ، وفي حين شكلت هجمات الحادي عشر من ايلول ( سبتمبر) عام 2001 صدمة ذات بعد استراتيجي – نفسي فقد تم توظيف تلك الصدمة بسرعة كوقود لمحرك قاطرة العولمة ، واستبدلت المفاعيل السياسية- الاقتصادية المدعومة بالقوة العسكرية بالقوة العسكرية المجردة ، لالشيء سوى لاختصار الزمن الذي لم يعد يحتمل الانتظار .
ومنذ احتلال العراق غدت كل تلك البنى الاجتماعية التي أقيمت هياكلها بعد الحرب العالمية الثانية في المنطقة العربية مكشوفة لمدافع العولمة التي هبطت فوقها كالأقدار دون سابق إنذار، وفي هذا المشهد المروع والذي مازلنا نعيش في بداية فصله الأول ثمة مسارات تزداد وضوحا :
الأول : اضمحلال الدولة العربية القطرية .
الثاني : اضمحلال الاقتصاد المحلي .
الثالث : انبثاق الفروقات الأثنية والمذهبية .
تأسست الدولة القطرية العربية في ضوء التوازنات الاستراتيجية العالمية الناجمة عن الحربين العالميتين الاولى والثانية ، حيث عملت الحرب العالمية الأولى على إنهاك الدولة العثمانية وتفكيكها ، بينما أفرزت الحرب العالمية الثانية انتهاء عصر المستعمرات لصالح القوة الأمريكية الجديدة والتي قيد تطلعاتها للهيمنة انبثاق المعسكر الاشتراكي ، لقد عاشت الدولة العربية القطرية ضمن هامش الصراع بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي ، وحين انتهى ذلك الصراع بانتهاء المعسكر الاشتراكي فقدت الدولة العربية القطرية أحد مرتكزاتها الأساسية وبدأت تعاني من أعراض فقدان التوازن ، فالصراع بين المعسكرين كان مرتكزا ليس للدولة العربية ( شبه الاشتراكية ) فقط ، ولكن أيضا للدولة العربية ( شبه الرأسمالية ) ، وفي الحقيقة فان الفروق بين الدولتين أقل بكثير مما قد يخيل للمرء ، ويكفي لاظهار التماثل بين الدولتين رسم نموذج تخطيطي للدولة القطرية حيث يوجد في القمة حاكم فرد سواء أكان ملكا أم رئيس جمهورية مدى الحياة ، وفي النسق الثاني هناك العائلة الحاكمة والقبيلة أو الطائفة ، وهناك الغطاء الإيديولوجي ( ايديولوجيا الدولة ) سواء كان إسلاميا أم قوميا أم اشتراكيا ، وتتشكل قاعدة الارتكاز من جهاز أمني واسع ومعقد تتجمع خيوطه لدى عدد محدود من القادة الأمنيين ، ويستند ذلك الجهاز الى جيش تم توسيعه بصورة مبالغ فيها .
وبتأمل هذا الهيكل التخطيطي للدولة العربية القطرية يتضح التماثل ، كل ما في الأمر أن أعراض فقدان التوازن بدأت بالظهور أولا لدى الدولة القطرية ( شبه الاشتراكية ) بسبب قربها النسبي من المعسكر الاشتراكي وتأثرها بانهياره دولة اثر دولة .
لكن الخلل سرعان ما انتقل الى الدولة القطرية ( شبه الرأسمالية ) بمفاعيل وسيطة ، وهذا يعكس الروابط الداخلية العميقة التي تشد المجتمعات العربية بعضها الى بعض ، ولعبت القضية الفلسطينية دور حلقة الوصل بين مصائر الدول القطرية ، فقد أفرز تصاعد الصراع في فلسطين وماترتكبه قوات الاحتلال من مجازر ردود أفعال واسعة ضمن المجتمعات العربية راحت تختمر في العمق لتنفجر بعد حين في وجه الولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة العربية المتحالفة معها ، وشيئا فشيئا يتحول صاعق الغضب المتفجر الى نهر تصب فيه روافد آتية من منابع شتى فهناك الاستبداد والاستئثار بالثروة ، وتخلف العقلية الحاكمة ، وتدهور الأحوال المعيشية ، والفشل في تحديات المواجهة مع الخارج وبناء دولة عصرية في الداخل ، ومن جهة أخرى هناك الغضب ضد الخارج الذي يدعم الاستبداد العربي ، ويدعم الوحشية الإسرائيلية ، ولا يريد الاعتراف بالحقوق العربية والهوية العربية – الإسلامية ويسعى إلى سحقها .
هكذا وجدت الدولة العربية القطرية ذاتها تترنح تحت وطأة الضغط من الخارج والداخل .
لاتكترث العولمة بما تعانيه الدولة القطرية وهي غير معنية بايجاد المخارج والحلول لها بقدر ما هي معنية بتدميرها وتصفيتها ، فالدولة القطرية العربية فاشلة ومفلسة وعقبة في وجه الاستثمارات والأسواق ، وهي مرتع خصب لنمو الحركات العنيفة والنزعات الأصولية ( تقول وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لسنة 2002 : أمريكا الآن ليست مهددة من قبل دول منتصرة وغازية بمقدار ما هي مهددة من قبل دول مفلسة ومخفقة ) لكن مايهم العولمة هو إرساء البديل لتلك الدول القطرية .
والبديل هنا لايمكن أن يأتي بسرعة ، كما أنه ليس تطبيقا لنماذج نظرية ، ومع ذلك فهناك رؤية للعولمة في هذا المجال تتضمن الآتي :
أولا : الجيوش الجرارة ذات التسليح الثقيل سوف يتم استبدالها بجيوش خفيفة ذات تسليح محدود .
ثانيا : بدلا من أجهزة الأمن الأخطبوطية والمرعبة سيكون هناك جهاز أمن عصري ومحدود الصلاحية مرتبط مباشرة بمرجعيات دولية ذات تنسيق فائق .
ثالثا : بمتابعة الصعود إلى أعلى هرم الدولة سيكون هناك إنتاج لطبقة سياسية جديدة ذات رؤية ليبرالية تنسجم كليا مع شروط هيمنة العولمة وتمتلك جذورا اجتماعية أوسع تمنحها الشرعية والاستقرار .
رابعا : تؤمن العولمة حماية استقرار النظام السياسي وعدم خروجه عن دائرة الهيمنة بصورة مباشرة باستخدام أدوات سيطرة عسكرية وأمنية عالمية ( أمريكية الى حد كبير ) ، وبالتالي لاحاجة بعد الآن لوكلاء اقليميين ، وتلك هي إحدى أهم ميزات نظام العولمة حيث لم يعد التحكم بالأطراف بحاجة لأدوات سيطرة وسيطة ، ويشكل نزع الأدوار الإقليمية للدولة القطرية جزءا من عملية إعادة إنتاج تلك الدول ، وقد نجم هذا التغيير بصورة رئيسية عن ما يسمى بالثورة في الشؤون العسكرية ( RMA) والتي شملت تطويرا هائلا للتحكم عن بعد ودقة الإصابة وجمع المعلومات وتنسيقها وسرعة النقل وتنوع الأسلحة وكثافة التدمير ، ( في رؤيا 2002 المشتركة صادق رؤساء هيئات الأركان المشتركة الأمريكية على الفكرة التي تقول ان ثورة المعلومات الجارية على قدم وساق ستفضي الى تحول عميق في ادارة العمليات العسكرية )
تميزت الدولة القطرية العربية بدمج مفهوم السيادة الوطنية مع مفهوم أمن النظام الحاكم ، اما العولمة فهي تعمل على تخفيض مفهوم السيادة الوطنية التقليدي عبر اختراقه بذرائع شتى منها : التدخل لنشر الديمقراطية وحماية حقوق الانسان ، والتدخل لمنع امتلاك الدول المارقة أسلحة التدمير الشامل ، والتدخل لمكافحة الارهاب ، وكما رأينا سابقا في يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق واليوم في لبنان فان النتيجة واحدة وهي تخفيض مفهوم السيادة الوطنية الى حد يقرب من تصفيته وهذا يفضي الى إنهاء أحد مرتكزات الدولة القطرية.
ليست الدولة القطرية العربية سوى شكل مؤقت ونسبي وتاريخي للإدارة والحكم وتنظيم العلاقة بين الداخل والخارج ، ولكون إفلاسها أصبح يهدد بصعود قوى خارج السيطرة فان مزيدا من التدخل الخارجي لقوى العولمة أصبح مؤكدا .
لقد تم خرق التوازن العالمي الذي احتضن الدولة القطرية ، ثم تم خرق التوازن الاقليمي الذي رافق تاريخها ، واليوم وبعد ان تم اختراق نموذجها ذاته في العديد من الدول وكان احتلال العراق أعظمها دويا حيث انهيت الدولة العراقية بصورة فائقة التدمير فان نماذج الدول القطرية العربية الأخرى قد تسقط كالثمرة اليانعة ( نظرية الدومينو ) .
يفضي إنهاء الدولة العربية القطرية القسري بواسطة التدخل الخارجي الى تشكل كيانات أخرى مختلفة بالكلية ويوحي النموذج البديل بدولة مفككة الأوصال ( فدرالية على أساس قومي أو مذهبي ) مع سيادة وطنية منقوصة وفتح الباب على مصراعيه للاستثمارات العالمية والانفتاح التام على السوق العالمية .
وبالتدريج فان تحكم الشركات العالمية بالاقتصاد المحلي سوف يتعمق ، وسوف تنبثق طبقة من رجال الأعمال ذوي الثروات الضخمة الذين يجدون مصالحهم ضمن مصالح تلك الشركات العالمية وليس خارجها ، وبالتالي فان برامجهم السياسية ستكون محكومة بالتبعية لرؤوس الأموال العالمية والشركات متعددة الجنسيات ، واذا أخذنا بالاعتبار نموذج الحالة العراقية فان الدلائل تشير الى أن عملية اعادة اصطفاف واسعة لمختلف طبقات المجتمع وفئاته هي قيد التشكل ، ولا أحد يعرف بالضبط متى وكيف ستنتهي هذه العملية ، لكن الملامح الأولى توحي بانهيار واسع للطبقة الوسطى وانحدارها نحو الأسفل كما توحي بولادة طبقة جديدة من رجال الأعمال الذين تربطهم بالاحتلال روابط خاصة ، ومن غير المستبعد حدوث انتعاش اقتصادي وأن تبدأ رؤوس الأموال بالتدفق .
ما يستحق الوقوف عنده أن القوى التي تعمل لهدم الدولة العربية القطرية ليست عسكرية وسياسية فقط ، وحالما تتوقف المدافع عن القصف فان القوى الاقتصادية تبدأ بالتأثير وتقوم باتمام مهمة القوة العسكرية وتوسيعها نحو الخارج .
ترغب العولمة في إنهاء الطابع الايديولوجي للدولة القطرية ( إسلامي ، قومي ، اشتراكي ) ودفعها لتكون محايدة ومفتوحة الأسوار للثقافة الغربية ، ويغدو ملحا موضوع مراجعة نظم التعليم ، والإعلام ، وأدوات التوجيه الثقافي والفكري .
يقتضي تفكيك الدولة إلى شبه دولة ليس فقط تفكيكها الى كيانات فدرالية ولكن شطب جزء كبير من وظائفها الراهنة ، وضمن هذا السياق تأتي تصفية القطاع العام من أجل حرمان الدولة من أي مقومات اقتصادية ، هكذا فان مفهوم الدولة الجديد الذي تدفع نحوه العولمة بقواها العسكرية والسياسية والاقتصادية هو الدولة – البلدية بدلا عن الدولة – الأمة ، ليصبح رئيس الدولة رئيس بلدية كبيرة ، ويصبح الجيش مفهوما موسعا قليلا للشرطة .
لقد عملت الدولة العربية القطرية بدأب ونجاح على إبعاد المجتمع بصورة تامة عن السياسة ، وبفعل عقود طويلة من الاستبداد فقد انصاع المجتمع لارادتها ، واليوم ليس أمام الشعوب سوى التفرج على دولهم العتيدة وبناؤها ينقض حجرا اثر حجر ، وفي حين يشعر المجتمع بخطورة شديدة لكون عملية التغيير القادمة لامحالة من الخارج لاتهتم في شىء لمصالحه وأمنه وآماله وأهدافه بل هي تسير باتجاه سحق هويته الحضارية والثقافية فانه يشعر في الوقت ذاته أن الفرصة لوقف تلك الموجة العاتية والهجوم متعدد الجبهات تتقلص بسرعة مخيفة مع بقائه خارج دائرة الفعل ، وتبدو الدولة القطرية مصممة على أن تغرق مع مجتمعها دون أن تفكر بجدية في إطلاق ذلك المجتمع من سجنه ولو كان في إطلاقه الأمل الوحيد في تجنب مصيرها المحتوم .

معقل زهور عدي









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة