الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة: الموت في إسرائيل

شوقية عروق منصور

2012 / 6 / 12
الادب والفن


قصة قصيرة: الموت في إسرائيل
شوقية عروق- منصور

شعر بأن صدره لم يعد يتسع للزمن المرتخي والمتمدد فوقه، توجه نحو الجندي الواقف ليستفسر عن موعد الوصول، قبل أن يصل صوب الجندي بندقيته نحوه، فتراجع إلى الوراء. فتش عن حجر ليجلس عليه حتى يرتاح من الوقوف، فقد تعب وشعر أن قدميه أصيبتا بالوهن والضعف عدا عن اليباس الذي بدأ يدب في شرايينه. لم يجد. لمح حجراً بعيداً مدهوناً باللون الأسود، قد يكون استعمل سابقاً كحد أو كعلامة للجيش. حمل الحجر المرمي بين الأشواك. وضعه على الأرض وزفر بألم. ناوله الشاب الواقف إلى جانبه سيجارة. وضعها بين شفتيه. لم يشعلها، ترك لعابه يمرغ أطرافها. أحس أنها ابتلت وأصبحت تنزف بقايا دخان مطحون. بصقها. تعمد أن تكون بصقته بصوت عال، ممزوجة بغضب يعتصر وجعاً في أعماقه. انه ضعيف، لا يستطيع أن يعمل أي شيء سوى الإنتظار. نظر حوله: هل يعتذر؟!! إن اعتذاره لن يكون سوى ثرثرة لملء الصمت, الذي تبرز منه همهمات وسرقة نظرات إلى الساعات التي تنبه أنها تسير وليست متوقفة. العيون تتجه نحو جهة الشمال، من هذه الجهة ستأتي السيارة. هكذا قالوا له. نظر حوله. راقب الوجوه، وجوها متعبة، تقاسيمها تدل على سئم الانتظار. لقد جاءت بمهمة وها هي المهمة تحشر داخل الزمن الذي لا يعرف كم سيطول. لم يعرف صاحب الصوت، لكن قال له: "أخوك وقع في جورة غميقة وأخذوه للمستشفى، إحنا ما بنعرف كيف حالتوا. أجا الإسعاف وأخذه. لما أخذوه كان فاقد الوعي، الله يشفيه", وأغلق الخط. صاحب الصوت لم يترك له المجال للسؤال. كأنه كان يحمل عبئاً على ظهره. حاول إعادة الاتصال على الرقم الذي ظهر على شاشة هاتفه النقال. وجد أن المتصل قد تعمد إخفاء رقمه. اتصل بشقيقه. الهاتف النقال يرن. لا احد يرد. اتصل بصديق له يعمل شقيقه معه، لا احد يرد، انه لا يعرف احد، عدا هذا الصديق. شقيقه عامل باليومية، بدون عنوان ثابت، أي عمل يعمل، لا تستعصي عليه أي شغلة". كان الخوف دايماً من الجيش والسجن لأنه معوش تصريح لدخول إسرائيل. لكن هذا الصوت اللي سمعوا اسا دب الخوف بقلبو. وين بدو يروح يسأل؟؟ معوش تصريح يفوت إسرائيل!!
لم يخبر والدته، لكن والدته بإحساس الأمومة شعرت أن هناك شيئاً مزعجاً فأخذت تسأله: مالك زي الحية المقطوعة رأسها.. رايح جاي.. رايح جاي..؟! لم يخبرها، خرج من البيت، اخذ يعدد أسماء بعض أبناء قريته الذين يعملون في إسرائيل، أكثرهم يعملون في مناطق بعيدة عن عمل أخيه، لكن سيجرب. وقف أمام احد البيوت، أطلت صاحبة البيت، سألها عن رقم هاتف زوجها لأنه يريد أن يسأله عن أخيه، نظرت إليه بتمعن, وقالت: أنت أخوك اللي وقع في الجورة، هز برأسه، رددت أمامه رقم هاتف زوجها، اتصل به... رد.. - انا عرفات اخو محمود... صمت الآخر ذلك الصمت المحزم بشريط من الدموع المكبوتة. ثم انفجر بقوة زلزال يدمر كل شيء.. الله يرحموا ويخلي اولادوا... انعقد لسانه، جف حلقه، نبت شوك مدبب في صرخته, التي عجزت عن الانطلاق فحفرت في داخله متاهة لزجة تنزلق عليها آهات خافتة". دار حول نفسه، ألقى بجسده على الأرض، وانطلقت صرخة مدوية، عالية "يا خيا" وين رحت وتركتني؟!. تجمع سكان الحارة، جاءت إحدى النساء بإبريق ماء وطلبت من احد الرجال أن يسقيه. رفض أن يشرب، استند على كتف احدهم، قام، تصاعدت الهمهمة: الواحد بروح يشتغل وروحوا على كفو .. قالها احدهم لكي يخفف من الموقف الحزين. حاول البعض عناقه، لم يشعر بمشاعر الراحة لأن العناق كان كجزء من مسرحية تمثل بصورة دائمة، وتذكر مشاعره حين كان يسمع عن استشهاد بعض الشباب، يغضب ويركض لحمل النعش إثناء الجنازة. كان خلال الحمل أحيانا يفكر بعمله ويقوم بعمليات حسابية كم اخذ وكم تبقى له عند المقاول, حتى انه في إحدى الجنازات تذكر زوجته وهي بملابس النوم, لكن سرعان ما خجل وغرق في الاحمرار خوفاً من اكتشاف تفكيره الجنسي, فقام وصرخ بصوت عال: يا شهيد ارتاح ارتاح إحنا بنكمل كفاح. مشى ومشى وراءه بعض الرجال والصبية. عشرات النساء مررن من جانبه، خطوات النساء أسرع من خطوات الرجال. كان دائماً يتشاءم من رؤية مجموعة من النساء مهرولات بصمت وخطوات متعثرة لاهثة، فقد كان يدرك أن وراء هذه الهرولة هناك وفاة. ماذا سيقول لزوجة أخيه؟! ماذا سيقول لأمه؟! لم يتوقع يوماً أن يقف هذا الموقف, يعرف أمه جيداً. عندما سترى هؤلاء الناس ستعرف أن احد أولادها قد مات. ارتاح لهذا التخيل، لا يهمه زوجة أخيه، ستلطم وتمزق ثيابها وتصرخ ثم لا يعرف. المصيبة الآن كيف سيأتون بأخيه من إسرائيل. ما أن وصل إلى البيت حتى وجد أهالي الحارة والحارة المجارة في بيتهم، صرخت أمه بأعلى صوتها - عرفات وين أخوك محمود؟- اقشعر بدنه، أيقن أن أخيه مات، صوت أمه أكد أن شقيقه خلاص. حقيقة لطمت وجهه، كأنه أفاق من غيبوبة عدم التصديق, فبكى بصوت مجروح يسيل من أطرافه وجع الفراق. في خيمة العزاء تركوه لأحزانه ودموعه التي تتسلل خفية. الشباب يقومون بالواجب، هكذا قالوا له، لكن بعد مرور عدة ساعات جاء من يقول له أن الشرطة الإسرائيلية أخذت جثة أخيه للتشريح في "أبو كبير", وبكرا يوم السبت لا يفتح أبو كبير، إنشاء الله تكون الجنازة يوم الأحد.
لم يعرف النوم وأيضا أفراد عائلته، أمه لخصت نار الانتظار بأنها تشوي أعماقها، أمسكت بيده وطلبت منه أن يضعها على بطنها عند رحمها. قالت له: هون النار، من هناك طالعة ياما بدي أشوف أخوك بلكي بطفي النار. يوم الأحد صباحاً، ابلغوه أن الجثمان سيصل الساعة العاشرة، وها هي الساعة تصل إلى الواحدة والجثمان لم يصل بعد، الجندية الواقفة أمام بوابة الحاجز تطل من بين القضبان، تضحك مع جندي يحاول مغازلتها ويمسك خصلة من شعرها، يشدها فتتأوه وتقع بين أحضانه. تقوم من بين أحضانه عندما تقف سيارة, أمام الحاجز، تدلي رأسها داخل نافذة السيارة، تنظر داخلها بعيون يقظة، تطلب بطاقات الهوية. عندما تعرف أنهم يهود من المستوطنات تبتسم، تعتذر بسرعة، تفتح لهم الحاجز للإنطلاق. حاول التقدم لسؤال الجندي، امسك الجندي بندقيته وصوبها نحوه، سأله من بعيد عن موعد وصول الجثمان، لم يرد عليه، أدار ظهره ومضى تجاه الجندية. بعض الذين كانوا معه طلبوا أن يرجعوا للبلدة لأن عليهم الكثير من الإشغال والأعمال, وسيعدون عندما يصل الجثمان إلى الحاجز. فالهواتف والسيارات موجود ة، دقائق وسيكونون هنا, الذين ينتظرون معه الآن يعدون على الأصابع اليد الواحدة.. لا يهم المهم أن يحضر الجثمان ويتخلص من مصيبة الانتظار. الساعة الخامسة ... قالت لهم الجندية بصوت خافت الجثمان بالطريق!! شعر بفرح يتسلل إلى قلبه المشحون بالهم، رغم أن الموقف يتطلب الأسى والحيرة في كيفية مواجهة موت أخ بعيداً عن بيته وأسرته. اخذ يعد مربعات بوابة الحاجز الحديدية، كلما عدها اخطأ في العد لا يعرف هل عدد المربعات خمسون أم ستون أم سبعون؟؟ أف.. لقد زهق وتعب من الانتظار القاسي. وصل الجثمان, سيارة الإسعاف وقفت أمام الحاجز، هرع إلى السيارة مع الذين ينتظرون معه. منعهم السائق من التقدم. ترجل من السيارة واقفلها، دخل إلى مكتب صغير. بعد لحظات خرج جندي آخر لم يره طوال الوقت وكان ممسكاً بورقة. سأل بلغة عربية مكسرة عن احد أقارب الميت تقدموا جميعهم قال: - انا بدي واخد- تقدم شقيقه وهو يرتجف. اليوم الجثمان راح يظل هون ممنوع يطلع من المكتب، تعالوا بكره، صرخ وحاول الاحتجاج لكن الجندي أسكته بنظراته، تعال بكره بدنا نفتش الجثة كمان مرة!! يا خواجا واحد ميت وكان بالمشرحة شو راح تلاقوا معاه، واحد محشور بكيس بلاستيك اسود شو راح تلاقوا معاه يا عالم ... لم يهتم الجندي لإحتجاجه، أدار ظهره للصراخ المغموس بالبكاء. في اليوم التالي ذهب لوحده مع جاره، لأن جميع الأقارب والأصدقاء ذهبوا لأعمالهم. لم ير ذلك الجندي من قبل تقدم منه سأله عن الجثة وهل انتهوا من تفتيشها، وابتسم ابتسامة ساخرة: إنشاء الله ما وجدتوا قنابل وأحزمة ناسفة!! فأجابه الجندي باستغراب، أي جثة؟؟ البارحة اجت سيارة الإسعاف وفيها جثة اخوي! لم يفهم الجندي سؤاله زم شفتيه باستخفاف وأدار ظهره. قرر أن يذهب إلى المكتب لعل هناك من يجيب على تساؤلاته، اقترب.... قرع الباب.. لا احد يجيب.. فتحه.. صدمته الرفوف المعلقة، ذهول ورعب وجنون يمر عبر جدران مثقلة بالجثث، رفوف عليها جثث. اخذ يصرخ: اخوي.. اخوي.. جميع الجثث تشبه بعضها البعض.. ذات الملامح وتقاسيم الوجوه، انه لا يستطيع معرفة ملامح شقيقه، وبينما هو يبحث بين الجثث المتشابهة الموضوعة على الرفوف، دخل عليه الجندي المناوب واخذ يصرخ عليه بأعلى صوته: أخوك مش عنا وبعدين مين أخوك؟ اخوي اللي مات في إسرائيل ومبارح انا كنت هون وجابوا الجثة وقالولي تعال بكره حتى استلمها. انا ما بعرف... انتظر بره.... وأغلق باب المكتب. وقف لوحده، لا احد معه، بوابة حديدية نصفها مغلق ونصفها مفتوح وسيارات تقف وتفتش ثم تدخل وسيارات تفتش ثم تخرج. جلس على الحجر واخذ يعد مربعات البوابة..!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي