الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا تجنبت ثورة يناير كلمة الاشتراكية ؟

مهدي بندق

2012 / 6 / 15
مواضيع وابحاث سياسية



تعتمد النظرية العلمية لقراءة التاريخ على فهم الظروف الموضوعية التي جرت الأحداث في ظلها، وهي ظروف لم يصنعها أحد بالذات، بل هي إنتاج للواقع الجغرافي، ودرجة نمو قوى وأنماط وعلاقات الإنتاج، ومن تفاعل البشر ثقافياً مع هذه الظروف إيجاباً أو سلباً تولد الأحداث الكبرى ويتضح مغزاها.
في ضوء هذه النظرية يمكن القول بأن ثورة يناير يمكن فهمها – حسبُ - بالرجوع إلى أوائل القرن 18 حين أدخل محمد علي زراعة القطن في مصر[وكان عملا ً ثوريا ًيوازي اكتشاف البخار في أوربا] حيث ترتب على تغيير نمط المحاصيل الزراعية المخصصة للغذاء إلى إنتاج المحاصيل القابلة للتصنيع، أن شيدت المحالج ثم مصانع الغزل والنسيج بجانب الصناعات التكميلية، ثم صناعة السلاح حيث احتاج الوالي لجيش عصري قوي يعزز محاولته للسيطرة على الأسواق القريبة لزوم تصدير الإنتاج الكثيف الناشئ، ومن هنا جاءت الفتوحات العسكرية لبلاد الشام والسودان والحجاز بل وأجزاء من أوروبا وصولا إلى مشارف عاصمة الدولة العثمانية ذاتها. والحال أن نظاما ًجديدا للتعليم المدني كان ضروريا ًأن يحل محل التعليم الديني التقليدي والذي كان ملائما ًلمتطلبات النمط الإنتاجي الراكد الجامد: نمط الإنتاج الآسيوي، ذلك النمط المسئول عن وقف نمو طبقة البورجوازية الصناعية وقمع ثقافتها المستهدفة إحداث التغيير في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إذن لقد ُولدت البورجوازية المصرية – بثقافتها الحداثية الصناعية - على يد الوالي القادم من أوروبا، وبالطبع ما كان لأوروبا أن تسكت على هذا المنافس الخطير المهدد لمصالحها الإستراتيجية فكان أن وجهت ضربتها للأسطول المصري عام 1927 مجبرة الوالي على قبول معاهدة لندن 1840 لتدخل مصر بها دور الانكماش. وما تكاد تعاود الكرة بالثورة العرابية حتى تجهضها بريطانيا باحتلال البلاد 1882. لكن طبقة ملاك الأرض الزراعية وحليفتها طبقة الرأسمالية الجديدة ما لبثت حتى استعادت بعض قوتها إبان انشغال بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، فسيطرت على سوق الإنتاج والاستهلاك المحلي، وخوفا ًمن عودة بريطانيا بعد فراغها من الحرب – متحالفة ً مع سلطة القصر رأس ِالإقطاع - إلى تدمير الصناعة الوطنية المجددة؛ راحت البورجوازية المصرية تعد لثورة هدفها إجلاء المحتل وتحجيم سلطة القصر.
هكذا اشتعلت ثورة 1919 بزعامة حزب الوفد قائد الطبقات والطوائف الشعبية، لتظفر مصر باستقلال نسبي وبدستور ملائم وبحياة حزبية لبرالية معقولة. غير أن الثورة هذه عجزت طوال العقود التالية عن تصفية الإقطاع بثقافته التراتبية لأسباب هيكلية في بنية البورجوازية المصرية، أهمها تشابك مصالح الرأسماليين بمصالح الإقطاع، فكان ضروريا ًأن تتقدم شريحة من الطبقة الوسطى لإنجاز هذا الدور التاريخي شريطة أن تكون مزودة ًبالقوة. كانت هذه الشريحة هي ضباط الجيش [الكولونيلات وليس الجنرالات] من ذوي الأصول الشعبية الذين التحقوا بالكلية الحربية بعد توقيع معاهدة الاستقلال 1936 فيما احتاجت حكومة الوفد إلى مضاعفة أعداد الضباط الوطنيين حماية للأمن القومي تحسباً لنشوب حرب عالمية كانت نذرها تلوح في الآفاق.
تلك كانت مقدمات ظهور الجناح العسكري الوطني من الطبقة الوسطي، فطلاب الكلية الحربية الذين صاروا عام 1952 عقداء ومقدمين لم يتلكئوا عن الإطاحة بالنظام الملكي وتصفية الإقطاع، فنالوا بذلك تأييد الطبقات الشعبية دون تحفظ. بيد أن الحكام الجدد، ولأسباب هيكلية أيضا ً(كونهم عسكرتاريا مبدأها السمع والطاعة لا ترحب بالديمقراطية) ما لبثوا حتى أطاحوا بكل الانجازات اللبرالية التي سبق تحقيقها عبر ثورة 19، فألغيت الأحزاب، وُقيد حق التفكير والتعبير، وُفرضت الرقابة على الصحف والإذاعة، وُفتحت المعتقلات للمعارضين، فوضعوا بذلك – ولو عن غير قصد - حجر الأساس للفساد الذي لم يزل ينمو حتى صار عملاق َ التجريف التنموي في العهد المباركي، في ظله ظهر ما أسميه بـ "الاقتصاد الريعي للفساد" تحتكر بموجبه الرأسمالية ُ الطفيلية ُ معظمَ الناتج القومي، فكان ضروريا ًللطبقة الوسطى بكل شرائحها الصناعية والزراعية بقيادة شبيبتها من العاملين في ميدان الإنتاج المعرفي الحديث أن تفجر الثورة الثالثة مطيحة بالحكم الدكتاتوري وقاعدته الريعية الفاسدة.
والخلاصة أن تجربتي محمد علي وجمال عبد الناصر بحسبان سعي كلتيهما للحاق بالثورة الصناعية الحديثة التي تنقل المجتمع المصري من مجتمع زراعي إلى فضاء المجتمعات الصناعية، إنما كان من شأنه الوصول بالمجتمع لنوع من الليبرالية السياسية - وهو ما نجحت فيه جزئيا ثورة 1919 - بيد أن إخفاق تجربتيْ الوالي والبكباشي قد حدث جراء وصولهما متأخرتين، إذ كانت الدول الغربية الكبرى (مركز النظام الرأسمالي) قد أحكمت سيطرتها على الأسواق العالمية، بما سمح لها أن تحدد شروط النمو لكل دولة من دول الأطراف، وما من شك في أن المركز المهيمن لم يكن يرى في طموحات محمد علي وعبد الناصر إلا تهديدا لمصالحه، ومن هنا جرى إجهاض التجربتين من خلال إنزال الهزيمة العسكرية بهما.
لعل مطالب ثورة يناير جاءت متواضعة قياسا ًلتجربتيْ الباشا والبكباشي، حتى أنها لم تفكر لحظة في إزاحة طبقة البورجوازية عن مركز الصدارة ! ولهذا بالضبط سوف يقدر لها النجاح، فلقد تبنت نموذج مجتمع ما بعد البورجوازية (المصطلح صكه كاتب هذه السطور وقد اعتمده تقرير التنمية الإنسانية العربية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للعام 2004 في الإطار 7-1 ص158) وجوهره "عناصر ومنظمات المجتمع المدني، وأحزاب بغير وصاية، وصحافة لا تطالها المصادرة، ونقابات مستقلة عن الحكومة، وأندية وجمعيات ثقافية ومذاهب لا ُتُجرم، وتيارات فكرية وفنية وأدبية لا تخضع لإرهاب معنوي، وسينما ومسرح يلبيان الحاجات المعنوية للشعب دون رقابة بطريركية، ودستور لا تناقض مواده ميثاق حقوق الإنسان. كل هذا برعاية دولة عصرية لا تمايز بين عقيدة وأخرى، أو رجل وامرأة. دولة عصرية تفصل بينها وبين الدين كممارسة سلطوية، ولكن لا تفصل بينه وبين المجتمع كنبض من نبضاته، وتشوّف من تشوفات الروح فيه".
حقاً إن إخفاق الثورات الشعبية في إسقاط البورجوازية مسألة لا تنكر ، فها هو صاحب كتاب "نهاية التاريخ وخاتم البشر" يخرج لسانه للاشتراكيين مؤكدا ًعلى بقاء الرأسمالية أبد الدهر. والحال أن التاريخ هو الذي يخرج لسانه لفوكوياما قائلا: من مكمنه يؤتى الحذرُ، فالبورجوازية لها ما بعدها : مجتمع مدني متقدم ينهي الصراع بين الطبقات عن طريق الإصلاحات المستدامة والثقافة رفيعة المستوى (المناهضة للجمود) جنبا ًإلى جنب الوعي بضرورة التضامن والتكافل بين الأمم والشعوب في حضن الأمم المتحدة التي ُتعد جنينا ًلدولة الأرض الموحدة. وهذه هي الثقافة التي لا غرو تقود إلى اشتراكية العصر القادم والتي ينبغي في ضوئها قراءة ثورة يناير المصرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كبد الحقيقة
محمد البدري ( 2012 / 6 / 16 - 09:24 )
شكرا للدكتور مهدي بندق وهو اليساري العنيد والمثقف ذو الثقل المعرفي والشاعر ايضا. مقالك يثبت ان النظريات العلمية تحمل في روحها ما هو اكثر اهمية مما ياتي منها ضمن نصوصها وقوانينها في لحظة محددة تاريخيا ومكانيا. انه التطور المستدام والكفيل بالتحولات البطيئة من تحقيق الاهداف الكبري. في لحظات الغفلة الاجتماعية والتهورات السياسية والبلاهات الثقافية تشطح طبقات في غيها واستغلالها وتخرج لنا مجتمعات فسادا من اعماقها لا يستحق الا الثورة عليه الا ان التصحيح لعودة المسارات لصالح كل القوي المشاركة هو الاقرب لحقيقة الصراعات المستدامة ببطئ والتطور البطئ ايضا، وتلك هي المشكلة الاكبر (انه البطئ الشديد) الذي يمكن اعتباره خصوصية ثقافية مشرقية والتي تحتاج الي ثورة بالمعني الحقيقي العنيف للثورة. مع كل التحية والتقدير.


2 - فكان أن وجهت ضربتها للأسطول المصري عام 1927
كاتب المقال ( 2012 / 6 / 21 - 14:13 )
أعتذر عن الخطأ الرقمي غير المقصود أعلاه فالصواب - طبعا - عام1827

اخر الافلام

.. طبيب يدعو لإنقاذ فلسطين بحفل التخرج في كندا


.. اللواء الركن محمد الصمادي: في الطائرة الرئاسية يتم اختيار ال




.. صور مباشرة من المسيرة التركية فوق موقع سقوط مروحية #الرئيس_ا


.. لمحة عن حياة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي




.. بالخريطة.. تعرف على طبيعة المنطقة الجغرافية التي سقطت فيها ط