الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفاضلة بين الشعر والنثر إشكالات النقد الانطباعي

مستور صابر

2012 / 6 / 17
الادب والفن


يقول أبو سليمان المنطقي """ الكلام ينبعث في أول مبادئه:إما من عفو البديهة وإما من كد الروية ,ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى, وفضيلة كد الروية أنه يكون أشفى, وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل ,وعيب كد الروية أن تكون صورة الحس فيه أقل وعيب المركب منهما بقدر قسطه منهما: الأغلب والأضعف ,وقد يجوز أن تكون صورة العقل في البديهة أوضح ,وأن تكون صورة الحس في الروية ألوح ,إلا أن ذلك من غرائب آثار النفس ونوادر أفعال الطبيعة، والمدار على العمود الذي سلف نعته ورسا أصله".(الإمتاع والمؤانسة أبو حيان التوحيدي)
تضعنا القولة ضمن سياق الحديث عن إشكالية نقدية متجذرة في النقد العربي, يتعلق الأمر بالتمييز بين النثر والشعر من حيث كونهما لب الكلام العربي, ومما لا شك فيه أن الحديث عن هذه الثنائية سيقودنا مباشرة إلى استدعاء مفهوم المفاضلة كمقاربة نقدية تسمح بكشف تجليات هذه الاشكالية ومضمون كلام أبي سليمان في هذه القولة يدور حول العلاقة بين النثر والشعر .
وطبيعة الدراسة التي سنتناولها على ضوء القولة تحتم علينا الوقوف عند حفريات كل من المصطلحين وتبيان خصائص كل منهما ليكتسي كلامنا نوعا من الشرعية .
فطن النقاد القدماء إلى هذه الإشكالية فخصصوا لها حيزا مهما في مصنفاتهم ,وسعوا إلى تبيان الفروق والاختلافات ومميزات كل من المنظوم والمنثور ,وهذا ما نلمسه من قولة أبي سليمان حينما يقول "" الكلام ينبعث في أول مبادئه:إما من عفو البديهة وإما من كد الروية ,ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى, وفضيلة كد الروية أنه يكون أشفى, وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل ,وعيب كد الروية أن تكون صورة الحس فيه أقل وعيب المركب منهما بقدر قسطه منهما: الأغلب والأضعف ,وقد يجوز أن تكون صورة العقل في البديهة أوضح ,وأن تكون صورة الحس في الروية ألوح ,إلا أن ذلك من غرائب آثار النفس ونوادر أفعال الطبيعة، والمدار على العمود الذي سلف نعته ورسا أصله".
إن أبا سليمان هنا يفرق بين الشعر باعتباره عفوا للبديهة الكفيلة لإعطاء الشعر صفاء, وبين النثر الذي أسماه: كد الروية والذي وصفه بكونه أشفى, وساق لكل واحد منهما عيبا فقال إن الأول (عفو البديهة) تكون فيه صورة العقل أقل أما الثاني فتكون صورة الحس فيه أقل ورجح أبو سليمان إمكانية وضوح صورة العقل في الشعر وصورة الحس في النثر ,إلا أن ذلك في نظره مستبعد و المتأمل لقول أبي سليمان سيستشف أنه يعقد مقارنة حيادية بين الشعر والنثر واستواء منزلة كل منهما. والمنطقي يرى أن ما سينتج عن امتزاج النثر والشعر أو ما سماه بالمركب سيكون رائعا خصوصا إذا تخلص من الشوائب يقول أبو سليمان في هذا الصدد " على أنه إن خلص هذا المركب من شوائب التكلف، وشوائن التعسف، كان بليغاً مقبولاً رائعاً حلواً، تحتضنه الصدور، وتختلسه الآذان، وتنتهبه المجالس، ويتنافس فيه المنافس بعد المنافس.والتفاضل الواقع بين البلغاء في النظم والنثر، إنما هو في هذا المركب الذي يسمى تأليفاً ورصفاً" .
إذا نلاحظ من قولة أبي سليمان أن للمنثور والمنظوم خصائصهما الخاصة ,مما يستدعي بالضرورة الوقوف عند حد كل من الشعر والنثر, وهو ما فعله القدماء, حيث نجد أن بن رشيق القيرواني خصص بابا في كتابه العمدة وسمه بباب حد الشعر وبنيته. يقول" الشعر بعد النية أربعة أشياء ,وهي اللفظ والوزن والمعنى والقافية, فهذا هو حد الشعر" والمتأمل لكلام بن رشيق يستشف انه يقوم بتعريف الشعر انطلاقا من محددات داخلية بنيوية يتعلق الأمر بالوزن والقافية, باعتبارهما المحددين اللذين يتميز بهما الشعر عن غيره , أما اللفظ و المعنى فموجودان كذلك في المنثور من النصوص, دون أن ننسى وجود الشرط الأساسي ألا وهو النية والقصد وهما المحددان اللذان اعتمدهما ليفرق بين ما اتزن من القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم, فنراه يردف بعد ذلك بقوله" ..لأن من الكلام موزونا مقفى وليس بشعر لعدم القصد والنية ,كأشياء اتزنت من القرآن ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما لم يطلق عليه أنه شعر ." ففي القران وكلام النبي ما يشبه الشعر في نظمه ولكن لغياب القصد والنية انتفت عنه صفة النظم .وبالتالي يصبح القصد والنية من أهم المحددات التي اعتمد عليها القيرواني لوضع حد للشعر. غير بعيد عن ذلك _ارتباطا مع النص_ نجد أبا سليمان يضيف خصيصة أخرى للشعر تتجلى في كونه "صافي" يغيب عنه العقل الذي يحضر في نظيره النثر. بينما نجد المظفر بن فضل العلوي يقول "أن اشتقاق لفظة الشعر من العلم والادراك والفطنة تقول: ليت شعري هل أصاب صوب السماء منازل أسماء, أي ليت علمي (...)و سمي الشاعر شاعر ا لعلمه وفطنته" وبالتالي ينفي المظفر قضية انتفاء البعد العقلي في الشعر .
صحيح أن النثر مهما احتفى به أصحابه بإتقانه وتجويده لم ينل من أنفس النقاد منزلة الشعر. فقلت العناية بأوابده ,وهذا لا يمنعنا من استنطاق بعض الاقاويل لنقف على كنه هذا التمييز ,فبالعودة إلى تعرف القيرواني لحد الشعر نجده يضع الوزن والقافية واللفظ والمعنى من الخصائص البنيوية للمنظوم ,والملاحظ ان الشعر والنثر يشتركان في كون اللفظ والمعنى مكونين أساسين في تشكيلهما وهذا يحتاج بالضرورة الوقوف كذلك على ماهية هذا المنثور وخصائصه ويعرف الفيروزأبادي النثر بقوله" نَثَرَ الكلام: أكثره ونَثرُكَ الشيءَ بيدك تَرمى به متفرقًا، ورَجُلٌ نَثِر: بيّن النثر كثير الكلام والنَّثرَة: المرّةَ من نَثَرَ: القطعة من النثرِ، خلاف النظم من الكلام." إذا فهو خلاف كله ما هو منظوم يعني أن النثر يصبح كل ما هو غير موزون وغير مقفى ,ويرى أبو حيان التوحيدي أن الشعر لا يختص وحده بالموسيقى والخيال، بل هما قدر مشترك بين الشعر والنثر الفني (النثر الفني المسجوع و النثر المرسل) ، والفرق بين النوعين من الكلام نسبي أما الجوهر فواحد.,إذا هناك تمايزا بين الشعر والنثر من حيث الماهيات والوظائف، إذ يتحدد الشعر بوصفه فنا أو صناعة تستقل بذاتها عن النثر ، ويتميز الشعر بخصائص مثل الإيقاع(الوزن والقافية) بينما يتميز النثر بحضور البعد العقلي .
كان للنقد الانطباعي دوره في تأجيجي الصراع بين المفاضلين للشعر والمفاضلين للنثر فدخل بذلك مجموعة من النقاد في هذه المعمعة, فهذا بن رشيق يصنف كلام العرب إلى نوعان منظوم ومنثور ويضع طبقات لكل واحد منهما ( جيدة, متوسطة ورديئة) ويرى أنه في حالى اتفاقا الشعر والنثر في إحدى الطبقات يبقى الشعر هو الافضل يقول في باب وسمه بباب في فضل الشعر" وكلام العرب نوعان: منظوم ومنثور، ولكل منهما ثلاث طبقات : جيدة ، ومتوسطة ورديئة، فإذا اتفقت الطبقتان في القدر وتساوى في القيمة، ولم يكن لإحداها فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرة في التسمية لان كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة." فهو يفضل النظم لتوفره على خصيصة مميزة تتمثل في الوزن و القافية وقابليته للغناء لأن العرب احتاجت إلى الغناء بمكارم اخلاقها وطيب أعراقها ,و يحتج بعض المنتصرين للنثر بالقرآن الكريم ليبينوا أن النبي ليس بشاعر فيستشهدون بقول الله عز وجل "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" وغير بعيد عن ذلك نجد أبا عبادة الكرخي يمشي في نفس الاتجاه إذ يذهب إلا أنه " من شرف النثر أنّ الكتب القديمة والحديثة النازلة من السماء على ألسنة الرُسل بالتأييد الإلهي كلها منثورة مبسوطة" ويشير في أفضلية النثر على الشعر، أنّ النثرَ أصلُ الكلام، والنظم فرعه، والأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل، لكن لكلِّ واحدٍ منهما زائناتٌ وشائنات". ويركز الكلخي على فكرة واحدة مفادها ان الكتب السماوية نزلت نثرية . ويعلق القيرواني على من احتج بالقران مجيبا اياهم بان الله عز وجل كان له هدف من انزال القران منثورا يتمثل في اعجاز العرب أنذاك عن الاتيان بشيء مثله ليس لأنه أفضل من الشعر وإنما لأن العرب وقتئذ كان تتقن الشعر فاختار الله عز وجل ان يعجزهم في شيء آخر.
والآيات التي كانت مبثوثة في القران كان دليلا يحتج بها المنافحون عن النثر فتراهم يركزون على الآية " الشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، و أنهم يقولون ما لا يفعلون" .
وبخصوص الآية المذكورة يرى القيرواني انه أسيء تأويلها وفهمها لأن الله عز وجل كان يقصد الشعراء اللذين كانوا يتعرضون للرسول صلى الله عليه وسلم بالهجاء .
وهناك بعض الضبابية في ما يخص اَراء بن رشيق فلربما كلامه هذا جاء ردا على جهة معينة وليس نقدا وإنما انتقادا فالقيرواني نفسه يقول " ولم أهجم بهذا الرد وأورد هذه الحجة لولا أن السيد أبقاه الله قد جمع النوعين وحاز الفضيلتين ,فهما نقطتان من بحره ونوارتان من زهره".
ورأيه هذا يبين ان حكمه حكم انيا نابع من تصفية حسابات شخصية مع جهات معينة وهو حكم نقدي انطباعي . وفي نفس سياق نجد المرزوقي كذلك يؤكد على أفضلية النثر على الشعر لكون الاعجاز القرآني وقع فالنثر دون النظم يقول المرزوقي " إن ملوك العرب قبل الاسلام كانوا يتبجحون بالخطابة والافتتان فيها وكانوا يأنفون من الاشتهار بقرض الشعر ,ويصده ملوكهم دناءة والثاني أنهم اتخذوا الشعر مكسبة وتجارة والثالث ان الاعجاز القرآني والحديث النبوي وقعا في النثر دون النظم" ويوافقه القلقشندي ذلك من خلال تأكيده على مسالة كون كتاب الله عز وجل نزل نثرا وليسا قريضا ويشير في كتاب صناعة الإنشا إلى أن النثر أرفع درجة وأعلى مرتبة و أشرف مقاما وأحسن نظاما". ويردف قائلا "وناهيك , أن الله تعالى أنزل به كتابه العزيز ونوره المبين ولم ينزله على صفة نظم الشعر "
وهذا التعالبي مثلا يبني حكمه على أن طبقات الكتاب كانت ولا تزال مرتفعة عن طبقات الشعراء يقول " فإن الكتاب وهم ألسنة الملوك إنما يتراسلون في جباية خراج ,أو سد ثغر, أو عمارة بلاد ,أو إصلاح فساد, أو تحريض على جهاد أو احتجاج على فئة أو دعاء إلى ألفة ,أو نهي عن فرقة, أو تهنئة بعطلة, أو تعزية في رزية, أو ما شاكلها من حلائل الخطوب, ومعاظم الشؤون ,التي يحتاجون فيها إلى ان يكونوا فيها ذوي آداب كثيرة ومعارف مقننة". والثعالبي يلمح إلى أن النثر خصوصا و"الكتابة" عموما متصلة بالأغراض الكبرى ,ومن أسباب تقديم النثر على الشعر حسب الثعالبي هو أن الشعر تصون عنه الأنبياء وترفع عنه الملوك.
بالفعل ساعد النقد النابع من تصورات شخصية في تعميق اشكالية التمييز بين الشعر والنثر فضاربت الآراء بين مفاضل لهذا ومفاضل لذاك. وكان بين ذلك من التزم موقف الوسط بين النثر والشعر وقال بالمساواة بين النثر والشعر من أمثال أبي حيان يقول إن" خير الكلام ما قامت صورته بين نظم كانه نثر ونثر كانه نظم يطمع مشهوده بالسمع ,ويمتنع مقصوده على الطبع" . ونحى القرطاجني منحاه في اطار تشبيهه لبناء النثر ببناء الشعر .
قد تبدو محاولة التفريق بين الشعر والنثر نوعا من العبث خصوصا وأن هاذين المجالين مترابطين فيما بينهما. فقد حفظ لنا التاريخ أسماء وأدباء جمعوا في إبداعهم بين النثر والشعر فذاك الامام الفقيه ابن حزم الأندلسي في كتابه المشهور "طوق الحمامة", يجمع ما بين روعة السرد وأنقة الشعر وذاك بديع الزمان الهمذاني والحريري في المقامات يمتطيان اللغة الشعرية والنثرية الحرون التي تتأبى إلا لمن امتلك مفاتيح الأدب والبلاغة. الأدب العربي يتشكل بالأساس من مكونين لا غنى للواحد عن الأخر ليصبح بذلك أمر المفاضلة بينهما من النقاشات البيزنطية التي لا طائل يرجى من ورائها .ولربما تجاوز هذا الاشكال يمكن أن يتأتى عن طريق الانصراف عن مبدا المفاضلة وبدل ذلك النظر إلى الخطاب في حد داته لفهمه وتذوقه من الداخل عبر التلمس اليات بنائه ولعل هذا ما تقدمه نظرية النظم للجرجاني والنظم عنده لا يعني الضرورة شعرا إنما تآلف الكلمات في الخطاب ككل ,ونظرية النظم تساعدنا على الانفلات من فخ الثنائيات (اللفظ والمعنى, الصدف والكذب...)ومحاولة بناء نظرية نقدية متينة.
الاحالات:
المصادر
8 القرآن الكريم سورة يس الآية 29
11سورة الشعراء الآية 6
1 التوحيدي أبو حيان ,الامتاع والمؤانسة ,الجزء الثاني 132
2التوحيدي أبو حيان ,الامتاع والمؤانسة ,الجزء الثاني 132
3ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر و آدابه، ص 108
4 نفسه ص 108
5 المظفر بن الفضل العلوي نضرة الاغريض في نصرة الفريض,ص 8
6القاموس المحيط للفيروز آبادي 2/138 دار الفكر بيروت
7بن رشيق القيرواني, العمدة,
9 التوحيدي أبو حيان ,الامتاع والمؤانسة, الجزء الثاني ص 139
10 نفسه ص 139
12نفسه ص 6
13 المرزوقي ,شرح ديوان الحماسة الجزء الأول ص 18
14 القلقشندي, صبح الأعشى في صناعة الانشا
15مبارك زكي, النثر الفني في القرن الرابع, ص 19
16أبو حيان التوحيدي, الامتاع والمؤانسة, الجزء الثاني ص 139








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان