الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمرّد الروح على قفصها الطيني .. مواجهات كازانتزاكي

عيسى الصباغ

2012 / 6 / 24
الادب والفن



الشعراء ، الشعراء الحقيقيون ، هم أولئك الذين يلمسون روح الأرض بأصابعهم ، ويملؤون صدورهم بالعواصف . هل قال أحد قبلي هذه الكلمات ، لا اعتقد ، فهي من موحيات كازانتزاكي وكتاباته الرائعة .
كازانتزاكي شاعر أوّلا ، وشاعر أخيرا ، وما بين أولّه وأخيره تدفّقت أعماله الخالدة . وهو راءٍ أيضا بمعنى آخر هو الذي رأى كلّ شيء . حينما كان طالبا في كلية الحقوق – جامعة أثينا – وكان ذالك في عام 1901 ، كتب الى أحد أصدقائه قائلا :(أحاول طرد الشعراء من مكتبي ، والشعر من قلبي ، فليذهبْ هوغو لسافيني ، ولامرتين لجيرنغ ، والشعر للواقع ، ومع ذلك ففي اللحظة التي أكتب اليك فيها أتمعن فيما كتب دانتي ومانزوني ، بينما مكتبي مزيّن بهوغو وسومولوس ) . الشعر قدره ، وقد ولد ليكون شاعرا . على نحو مبدع وظّف شعره في رواياته ، فليس صعبا أن تحسّ الأرواح المعذّبة ، المكافحة تخطف بين سطورها ، ولا يطول بك الأمر أن تجد نفسك تسعى خلف فراشاته الملوّنة ،وطيوره المغرّدة . انظر كيف يصف أمّه في (تقرير الى غريكو) :( امتزجت أمّي في ذاكرتي بالأكاسيا والكناري بشكل خالد لا يقبل الانفصال ، وأنا لا استطيع أن أشمّ رائحة الأكاسيا أو أسمع صوت الكناري دون أن أحسّ أمّي تنهض من قبرها في أعماقي ، وتتحد بالأريج والزقزقة ) . هذه رؤية صوفية أو قل إنها معنى سامٍ من معاني وحدة الوجود . إنه يرى الأشياء متّحدة ، ومتداخلة بعضها ببعض ، وبوضوح أعمّ ، كان يرى الذوات والظواهر والأشياء يتجلّى بعضها في بعض . هذا الأمر يذكّرنا بالراهب الذي كان يشير الى الطير محلّقا في فضائه ، فيقول : هذا أخي . هذا الموقف الذي وقفه كازانتزاكي ، والموقف هنا استعمله بالمعنى نفسه الذي استعمله النفّري في مواقفه ، وهو المرتبة أيضا في الكتاب المهم (مراتب الوجود ) لصدر الدين القونوي تلميذ المتصوف الأشهر ابن عربي ، أعود فأقول إن الموقف الذي وقفه الشاعر اليوناني ، والمرتبة التي صعد اليها ، إنما هي حقيقة تجاربه وخبراته وكفاحه في الحياة . لِمَ لا وهو القائل في تقريره : ( أيها القارئ ستجد في هذه الصفحات الأثر الأحمر الذي خلفته قطرات من دمي ، الأثر الذي يشير الى رحلتي بين الناس والعواطف والأفكار ) . وطوال رحلته في عالمنا كان ينزف ويئنّ ويتوجع ، ويدوّن نزفه وأنينه ، وحينما اقول كان ينزف ويئنّ لا أعني الفعلين بمعناهما المعجمي أو الرومانسي ،بل كان ينزف ويئنّ بشمولية كونية كاملة . دعني أوضّح هذه الشمولية الكونية ، فهي مهمّة الى حدّ بعيد ، وهي نقطة ارتكاز الشعر الحقيقي ومع ذلك تبدو هنا غامضة . هل سمعتَ صراخ الشجرة وأنت تهوي على جذعها بفأسك الحاد اللاصف ؟ هل أحسستَ بلوعة الحجر واشمئزازه فيما أنت ترميه في بركة للقذارة ؟ لماذا تصرخ بالسائق أن يتوقف حينما يخطف من أمام سيارته قطّ مشرّد أو كلب سائب ؟ هذه هي الروح الكونية العالية ، والتجانس الرفيع بين الموجودات . لذلك قال للأطباء قُبيل وفاته : ( أوَتعلمون ؟ الشعراء لا يموتون أبدا ، على كلّ حال تقريبا أبدا ) و(تقريبا ) هذه من متطلبات الخطاب البشري ، فالشاعر هو الذي رأى حقيقة الموت والحياة وامتدّ بصره الى ما بعد هاتين الظاهرتين المرتبطتين بالوجود ، تذكّر الآية القرآنية في سورة (ق) :(لقد كنتَ في غفلةٍ عن هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليومَ حديد ) . من قال إن الموت نهاية الحياة ؟ إنه شكل من أشكالها ، تحوّل في مظهرها . لا أذكر من قال هذه العبارة الأخيرة ، ولكن هناك جانب في الحياة هو التحوّلات البايولوجية والكيمياوية ، والموت تحوّل . لقد أوصى كازانتزاكي أن يُكتب على شاهدة قبره هذه العبارة : ( لا آمل في شيء ،لا أخشى شيئا ، أنا حر ) . إذن الموت تحرّر وعتق . لا يقول الشعراء هذا تسويغا للأمر أو أخذه على وجه المجاز أو ليُبدي نوعا من المكابرة والتحدّي . بل إنها الحقيقة كلّ الحقيقة تلك التي يؤمن بها الشاعر . العالم أو الكون دفقات من الحياة لا تتوقّف . أليس هو تجليا للمبدع الأول ، للخالق ، لله ، فكيف يموت الله ؟ من هذه الحقيقة تنبثق مواقفه الفكرية والسياسية كافةً . كان يرى في كلّ إنسان مسيحا قادرا على قهر الإغراءات ، وإذلال الغوايات صعودا الى الروح السامية ، النبيلة التي يتساوى في فيئها البشر جميعا . ويخيّل لي أنه كان يؤمن بأن الشيوعية هي واحدة من تمثلات تلك الروح التي لا يمكن للإنسان أن يصل إليها إلا بأن يسلك طريق الجلجلة ، طريق الآلام . اسمعْ ما يقول : ( إن كلّ لحظة من حياة المسيح هي صراع وانتصار ، لقد قهر الفتنة القاهرة لرغبات الإنسان البسيط ، قهر الإغراءات ، وعمل دون هوادة على إحالة اللحم الى روح. ) . ليس فيما يقول تحوّل بايولوجي أو إحالة كيمياوية ، هذا جانب أشرنا اليه فيما سلف ، لكنه الآن في مرحلة أسمى إنه يتحدّث عن صراع الإنسان وأوجاعه ، إخفاقاته وانتصاراته . هل قلت إخفاقات ! لا اعتقد أن هذه الكلمة موجودة في قاموس كازانتزاكي ، الإخفاق وجه آخر للانتصار ( مثلما الموت وجه آخر للحياة ) إنه شوط في مسيرة الإنسان ، مشوار لابد منه للوصول أيّ وصول . اصغِ اليه مرة أخرى كيف يصف الروح الإنسانية المنتصرة : ( إن روح البشرية زخم وكبرياء ، صرخة وسط الصمت الجبان الذي لا يحتمل ، رمح يقف منتصبا لا ينحني ويمنع السماء من أن تسقط على رؤوسنا ) . هذه رؤية دينية ، عفوا دعني أصوّب عبارتي ، إنها صياغة جديدة للدين ، إعادة ترتيب البيت الديني على وفق منظور نابع من الروح الكلية من الله الذي أدفأ مخلوقاته بحلوله فيها ، من ظهوره الماثل في أصغرها وأكثرها تواضعا وصولا الى التجليات العظيمة التي تخطف الأبصار ، وتجعل الارواح في ارتعاش مهيب . هذا المنظور الجديد للدين ، وهذه الرؤية الثورية ، تعدّ رفضا للأشكال التقليدية المتوارثة للدين ، إذ تشكّلت عبر التاريخ ، وارتبطت بمصالح الحكام والنبلاء وكبار رجال الدين ، وقد أوقعت العداوة بينه وبين الكنيسة ، فاتهمته بالإساءة الى الدين استنادا الى فقرات وردت في روايته ( الكابتن ميخاليس ) التي ترجمت للعربية تحت عنوان (الأخوة الأعداء ) ، فوجّه الى كهنة الكنيسة رسالة جاء فيها : ( أيها الآباء المقدّسون لقد أعطيتموني لعنة ،وأنا أعطيكم أمنية ، إذ أتمنى أن يكون ضميركم ناصعا مثل ضميري ، وأن تكونوا أخلاقيين ومتديّنين بالقدر الذي عليه أنا من الأخلاق والتديّن ) . لاحظ الكلمة الأخيرة في هذا التصريح (والتدين) . إنه يتمتّع بقدر عالٍ من التدين ، ولكن ليس ذلك التدين المعروف لدى رجال الدين وأتباعهم من البسطاء ، إنه دين نابع من الأصل ، من المُنشىء الأول ،وليس بغريب أن يكون الشعر وسيلته وطريقته للوصول الي ذلك المُنشىء . في رحلته الى جبل آتوس – يذكر ذلك في تقريره الى غريكو – اصطحب معه صديقه الشاعر اليوناني الكبير أنغيلوس سيكليانوس ، وقد كان آنذاك شابا صغيرا في مقتبل العمر كصديقه كازانتزاكي ولم يكن قد حاز على شهرته الواسعة التي حصل عليها فيما بعد ، وقد وصفه كازانتزاكي في تلك الرحلة بأنه شاعر من فصيلة الصقور ، بصفقة واحدة من جناحه يصل الى الأعالي ، وكلاهما آنذاك تنخر روحه الحيرة . وعند صعودهما جبل آتوس حيث صوامع الرهبان المعتكفين شاهدا شجرة لوز . وقف الشاعر أمامها وقد غرس الشكّ مخالبه في روحه المعذبة وأنشد :

قلت للشجرة
حدّثيني يا أخت عن الله
فأزهرت ...
شجرة اللوز .

هذا ما أسميه التوحّد ، ويسميه الفلاسفة الإلهيون : الوحدة المطلقة . يقول العفيف التلمساني وهو أحد المتصوفة المسلمين : ( إذا انكشف المحجوب فما ثمة غير ولا سوى ) ما من شيء غير الله ولا أحد سواه . هذا ما يراه المتصوفون وهم عنوان آخر للشعراء الرائين . وكتنويع بنيوي على مقولة التلمساني ، يقول كازانتزاكي في مشهد مؤثر يقتلع الروح من ارتباطاتها المادية : ( ذات ليلة بينما كنت أعبر الحيّ التركيّ سمعتُ امرأة تغنّي موالا شرقيا بصوت مليء بعاطفة حزينة متشنّجة ، كان الصوت عميقا وأجشّ وكئيبا ينطلق من حنايا المرأة ، ويملأ الليل باليأس والسوداوية الحزينة ، وحين أحسستُ أنه من المستحيل عليّ أن أتابع السير ، وقفت أنصت ورأسي مائل الى الجدار ، لم استطع أن التقط أنفاسي ، ولما لم تعدْ روحي المختنقة قادرة على التلاؤم مع قفصها الطينيّ تدلّت من قمة رأسي ، وراحت تتردّد في أن تطير أم لا ، لم يكن الصدر الأنثوي للمرأة التي تغنّي مترعا بالحبّ أو الغبطة ، بل كان مترعا بالصرخة ، بأمر موجّه الينا لكي نحطّم قضبان سجوننا المؤلّفة من الأخلاق والخجل والأمل ، وأن نسلّم أنفسنا وأن نهدر أنفسنا أو نتوحّد مع العاشق الرهيب المُغوي الذي يكمن منتظرا في الظلام والذي نسمّيه الله ) . أما أن يكون كازانتزاكي قد ضاقت عليه العبارة حينما قال : ( يكمن منتظرا في الظلام ) أو أنه يعني تلك البقعة الكامنة في قلب النور والتي تبدو لأعيننا الفانية المحدودة معتمة ، في حين أن الأنوار تنبعث منها . وفي كلّ الأحوال إن الانتظار ينطوي على دعوة للقاء مع العاشق الأبدي الذي يغوينا بالاتحاد معه . لاحظ معي فقد سمعتَه يتحدّث عن (صرخة) . تلك هي تمرّد الروح ، وتحرّر العاطفة من القفص الطينيّ الذي وجدنا أنفسنا مسجونين فيه ، وسوف تتكرّر تلك الصرخة كثيرا في سائر أعماله الروائية والشعرية والفلسفية . إليك مثلا آخر ، يقول في تقريره : ( إنها رحلة الإنسان يحمل قلبه في فمه وهو يصعد جبل مصيره الوعر القاسي . فروحي كلّها صرخة وأعمالي تعقيب على هذه الصرخة ) . الشعراء الحقيقيون المكتوون بحرائق الوجود يصرخون لا يكتبون ، لذلك تلامس قصائدهم شغاف القلوب ، وتهزّ أرواحنا من الأعماق ، وفي كثير من الأحيان ترعبنا . نحن مطمئنون لوجودنا الترابي الفاني العاري ، وحين تفاجئنا القصيدة خلال مسيرتنا الواهمة نرتعش ونهتزّ ونتفطّر كما يتفطّر الطين تحت الشواظ الحارقة للشمس . في عام 1907 منحت جامعة أثينا الجائزة الأولى لكازانتزاكي على مسرحيته (طلوع النهار) ، وقد عقّب الأستاذ الذي سلّمه الجائزة قائلا : ( إننا نتوّج الشاعر لكننا نطرد من هذا الهيكل العفيف الشاب الذي تجاسر على كتابة أشياء كهذه ) . هل يريد هذا الأستاذ أن يكرّر ما فعله إفلاطون حينما طرد الشعراء من جمهوريته ؟ لايمكنني أن أفهم هذا التقريض والهجاء في الوقت ذاته ، والذي صدر عن الأستاذ الجامعي المتّشح بالوقار ، إلا على نحو أشار فيه الى شيئين : الشاعر بكيانه الروحي المضيء ، الحارق ، والشاب بهيئته الطينية المعتمة ، يبدو أن الأمر قد التبس عليه ، فلن يستطع استيعاب اندماج الضوء بالعتمة ، تجانس الإله والإنسان ، الروح المحبوسة في القفص الطيني ،بهره النور الأخاذ ، وخذله الجسد المعتم ، إنها ثنائية غير متصوّرة ، لا يكاد يتحمّلها العقل البشري المجبول على المألوف ، أو الذي دُرّب على ما هو تقليدي وعرفي . هذا جانب من كازانتزاكي الشاعر الذي نعاه صديقه الشاعر الفرنسي ألان بوسكيه إذ قال : ( إنه لوجه من أرقى وجوه الأدب وأنبلها قد دخل لتوّه والى الأبد في ذاكرة بشر هذا الزمان ) . وبعد سنتين مرتا على وفاته ، كتب ألبير كامو الى زوجته : ( بغيابه يختفي واحد من أواخر فنانينا الكبار ، وأنا من ألئك الذي يستشعرون ، وسيواصلون الاستشعار ، الفراغ الذي خلّفه ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يا للروعة
سعد سامي نادر ( 2012 / 6 / 24 - 18:27 )
يا حبيبي عيسى، أنت ما زلت بذات الجمال الذي تفارقنا فيه غصباً، بل أكثر . حراً، جريئاً، واثقاً كما عهدتك. حريتك هي مفتاح تراكم الخبرة والمعرفة في حسن انتقاءاتك التي تلامس القلب وروحنا المكروبة بالمرارة واليأس..
نص جميل كروحك المحلقة دوماً..تحياتي


2 - ابو أنس أم ابو سامر
د. عيسى الصباغ ( 2012 / 6 / 24 - 22:27 )
نعم تحليل موفق لأنك الوحيد الذي كنت أحس لديه خطفات روحية كنت اجدك اكثر من شيوعي ، وهذه الـ (أكثر) ليست فضلة وإنما هي معادل إنساني مكافح ومقاوم لآلية الجسد ، وتحجّر الفكر . هل تتذكر تلك اللوحة الرائعة التي يبدو فيها الإنسان يكافح بعناد مفعم باللوعة والعذاب والالم لكي يتحرّر من كتلته الحجرية المنحوت فيها ، هل تتذكر؟هكذا كنت اراك،وقريب منك هزار يغرّد . بانسجام مع أنين الحجر المندحر إذن أنت أبو أنس ولكني سأصوّب غلطي.. اسمع هذه الأبيات :يا سامر الحيّ هل تعنيك شكوانا.. رقّ الحديد وما رقّوا لبلوانا.. السامر الحلو قد مرّ الزمان به ..فمزّق الشمل سمّارا وندمانا.. قد هان من عهدها ما كنت أحسبه ... هوى الأحبة في بغداد لا هانا. هذه الابيات لبدوي الجبل.

اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس