الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نعيم الشطري..وديعا

رحمن خضير عباس

2012 / 6 / 25
الادب والفن



منذ ان تفتحت عينا الطفل نعيم , وجد نفسه يتقمط بالكتب ويلتحف بها , ويتخذ منها بيتا لجسده الغض . من حروفها يتغذى ومن اوراقها يكتسي . في شبابه افتتح مكتبة صغيرة في الشطرة . هي اشبه بالكشك منها الى المكتبة. ولكنها حافلة بمئات الكتب ذات الأتجاهات التقدمية والماركسية . كان ذالك في السنة الأولى من العهد الجمهوري . استقطبت تلك المكتبة شبيبة المدينة ومثقفيها . وكان يطلقون عليها مكتبة نعيم العصفوري , وذالك للتفريق بينها وبين مكتبة حميد ناصر وهو رجل فاضل ومثقف استطاع من خلال مكتبته ان يسهم في اغناء واشاعة الثقافة في الشطرة . وكان اهل المدينة يسمونه حميد ابو الجرايد . حينما كنت طفلا في الأبتدائية , ذهبت مع اخي الى مكتبة العصفوري ابحث عن كتاب صغير . قال لي نعيم سأختار لك بنفسي قصة , قضيت تلك الليلة بقرائتها وهي تحملني الى افاق اكبر من خيالي الصغير .. نسيت اسم الكتاب في غمرة السنين ولكنني لم انس مضامينه الأنسانية الرائعة ..حينما جاء البعثيون في انقلاب 1963. كانت مكتبة العصفوري احدى اهدافهم , فاغلقوها , واعتقل نعيم كغيره من ابناء المدينة .ومنذ تلك اللحظة السوداء اختفت تلك المكتبة الى الأبد .
لكن نعيم لم يستطع ان يتخلى عن عشقه الأبدي الى الكتب . هجر الشطرة الى بغداد وافتتح مكتبة اخرى في شارع المتنبي . اصبحت وسيلته للعيش وسبيله الى التعايش مع المثقفين والأدباء والشعراء والكتبيين والوراقين واساتذة الجامعات وطلابها . ولأنه اصبح علما من اعلام ذالك الشارع . اطلق على نفسه نعيم الشطري وكأنه يتقمص مدينته ويحملها معه في دروب حياته المتعثرة .
حينما اشتد الحصار على العراقيين في التسعينات , كان للكتاب دور في انقاذ اصحابه وقراءه , الذين جعلوه مادة للمقايضة بما يسد الرمق , ويستر ماء الوجه . كان اكثرهم يتوجه الى نعيم لمساعدته على بيع كتابه , لذالك حفلت ذاكرته بعشرات القصص المأساوية لأناس كانوا يبيعون كتبهم بعيون دامية وكأنهم يبيعون اطفالهم . لذالك فقد ابتدع فكرة المزاد كل يوم جمعة . كما ابتكر طرائق طريفة في الترويج للكتاب وكأنه يستلهم مقامات بديع الزمان الهمداني وحلقاته الحكائية . حلقة نعيم الشطري جديرة بالفرجة في زمن عزّ فيه الفرح وانتشرت سحب الحزن والألم واليأس , لكن نعيم جعل من حلقاته المزادية فسحة لفرح موقت . كان قادرا على انتاج النكتة وبثها بين عيون اصدقاءه المتعبين . كانت السخرية الخفيفة وسيلته للأحتجاج على عالم وقح .
حينما التقيت به بعد عقود تجمدت كلماته وسقطت سمّاعة التلفون من يده . احتضنّا بعضنا , ضحكنا والدموع مطر يلوث مآقينا . سألني عن البلاد التي تأويني . وعن قدرتي على ان ابقى واقفا , واسئلة اخرى
ينهال عليّ بها وكأنه يواسيني .. كان نعيم كتلة من الفرح والعطف والمودة , رغم انه يعاني من حزن معتق غير منظور , وكأنه قد اعدّ نفسه كبش سعادة للناس .حينما امتدت يد الأرهاب لنسف شارع المتنبي , والتي تعني خنق الحضارة والثقافة ..كان ركام التدمير يتعالى وكنا نظن بأن جسد نعيم الشطري قد تشظى مشبعا بالغبار والبارود . لاسيما ان الجميع يعلم بأن مكتبته في وسط الدمار . لكن نعيم كان عصيّا على الموت . بعد عدة اسابيع اعاد للمتنبي تألقه الجميل واستمر في مزاده .
مرت سنين ونعيم في دابه الرائع , وهو يعانق هموم الأنسان العراقي . لكن جسده لم يتحمل هذه الروح المتألقة .. شاخ الجسد ولم يستطع ان يتحمل امراضا لابد منها . وهكذا يستسلم نعيم لموت أليف اختطفه من احبته واصدقاءه. اختطفه هذا الموت من شارع المتنبي . كيف يمكن لنا – نحن الأصدقاء – ان نرى مكتبة الشطري بدون نعيم ؟
اوتاوة /كندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وداعا ابا ربيع
خالد حسين سلطان ( 2012 / 6 / 27 - 23:19 )
المجد والخلود للفقيد نعيم الشطري

اخر الافلام

.. إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا


.. شكلت لوحات فنية.. عرض مُبهر بالطائرات من دون طيار في كوريا ا




.. إعلان نشره رئيس شركة أبل يثير غضب فنانين وكتاب والشركة: آسفو


.. متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا




.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر