الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نساء ورجال نتاج الفساد

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2012 / 6 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


جلس تحت الشمسية يشرب القهوة ويقرأ الجورنال، تشمم رائحة الحبهان والبن المحوج فاسترخى قليلا، خلع نظارة القراءة، سئم متابعة الأخبار، لم يعد جزءاً من القوى المتصارعة، خرج من مولد السياسة بلا حمص، امتدت نظراته الواهنة إلى البحر والسماء، فى المياه الزرقاء رآهما، الرأسان السوداوان، يرتفعان وينخفضان مع الأمواج، أحدهما مربع حليق، رأس حفيده الطبيب، الرأس الآخر شعره ناعم طويل، مربوط كذيل الحصان.

الحفيد جسده نحيف ممشوق كالرمح، يشق الموج كسمكة القرش، هى مثل السمكة البياض، ذراعاها قصيرتان ممتلئتان، تسبحان بنعومة تحت الماء.

لم يكن لعينيه الكليلتين اختراق سطح البحر، ورؤية التلامس فى العمق.

فى ميدان التحرير بعد سقوط مبارك، كان يمشى فى المظاهرة حين سقط من الإعياء، حمله الشباب إلى المستشفى، تناول أدوية الضغط والقلب، وثلاثة ممنوعات لا يقربها بأمر الطبيب : السجائر، الملح فى الطعام، والفياجرا قبل النوم، قال حفيده : السن لا يمكن مقاومتها يا جدى تنهد: السن والحب أيضا، جفونه تغضنت سقطت رموشهما، انطفأت عيناه واصفر بياضهما، عروق متعرجة زرقاء نفرت فى يديه، شفتاه لم يعد فيهما لحم، كأنما مصنوعتان من السلك

قال الحفيد: أنا قاومت الحب يا جدى: لم يكن الحب يا ابن ابنى -: وكيف عرفت يا جدى؟ - أنت من عائلة، وهى لم تكن شيئا، رد الحفيد: كانت خريجة الجامعة بتفوق، الرعاع دخلوا الجامعات بعد هوجة العسكر فى يوليو ٥٢ - اندهش الحفيد: ألم تؤيد ثورة ٥٢ يا جدى؟ وأصبحت وزيرا؟ ورئيس مؤسسة؟ ثم أسست شركتك الخاصة؟

الشرفة تطل على البحر، يجلس جده يشرب القهوة ويقرأ الصحف، شيئان يدمنهما لا يقاومهما: القهوة والصحف، لم يتذكر الفياجرا.

أصبح يصنع القهوة لنفسه، فطورهما أيضا يصنعه، ثم يوقظ زوجته العروس، كانت تصحو قبله، تصنع له القهوة، والأومليت، والباتيه فى الفرن، تطبخ ما يحبه، صينية البطاطس فى الفرن بفخدة الخروف، تهمس فى أذنه، أنت حبى الأول والأخير، تقرأ مقالاته بشهية وتشهق: أنت كاتب عظيم، تكتبها على الكمبيوتر ثم ترسلها بالإيميل للنشر.

تخرج فى كلية الصيدلة وتخصص فى الكيماويات، ينشر مقالاته فى الصحف، كما رأى زملاءه فى السياسة يفعلون، أحب فتاة فقيرة فى شبابه، ثم تركها، كما رآهم يفعلون، تزوج ابنة رئيس المؤسسة، وأنجب الأولاد والأحفاد، كما رآهم يفعلون.

هى من العشوائيات الجديدة، ماتت أمها بعد أن طلقها أبوها، طردتها زوجة أبيها من البيت، اشتغلت خادمة، وعاملة نظافة، تعلمت الكمبيوتر

اتخذها مسؤول كبير سكرتيرة وعشيقة ستة شهور ثم مات بسكتة قلبية، تعرفت على ممثل مسرح، عاشت معه ثلاث سنوات ثم تزوج المخرجة، عادت تشتغل عاملة نظافة ثم ممثلة كومبارس، أصبحت عشيقة لممثل بالسينما حتى هاجر إلى كندا، تدربت على العشق عدة سنوات، بدت العشيقات فى نظرها أعلى شأنا من الزوجات، تخصصت فى اصطياد الفنانين الأثرياء، وكبار رجال السياسة، المتحمسين لتحرير النساء والفقراء، أصبحت فى النهار سكرتيرة مكتب، وفى الليل خادمة سرير، بلغت الأربعين من العمر، طاردتها كلمة عانس، قررت أن يكون لها زوج مثل الأخريات، وقع فى شركها طبيب معروف، كاد يتزوجها، لولا أن ضبطته زوجته وهددته بالخلع، خاف من الفضيحة فقطع علاقته بها، التقت أخيرا بالزوج المثالى، رئيس مؤسسة بالمعاش، لديه رصيد فى البنك، وشركة خاصة، أبناؤه وأحفاده تخرجوا وتزوجوا، تسلمت زوجته وسام الأم المثالية، أفنت عمرها تخدم الأسرة والزوج، ذهبت للحج مرتين، ولفت رأسها بالحجاب عيناه الكليلتان تتابعان الفتيات من تحت الشمسية، أجسادهن لدنة، سيقاهن ممشوقة، يتملكه الحنين للحب المشبوب فى عهد الشباب، كانت ترتدى بنطلون جينز ضيقاً، فخذاها مشدودتان تهبطان إلى ساقين ممشوقتين، عيناها ناعستان يقظتان، أنوثة خانعة متحفزة صعبة المنال، يتصور الرجل أنها قلعة حصينة، إن غزاها يصبح البطل الأول والأخير.

كان يحلم بالبطولة منذ الطفولة، يحملونه على الأعناق يهتفون للزعيم، مثل النحاس باشا وسعد زغلول، خيبت السياسة آماله، لم يحظ إلا بمنصب رئيس مؤسسة الكيماويات، وبضع مقالات، جمعها فى كتاب.

أصبحت تتمشى إلى جواره على الساحل، يظن الناس أنها حفيدته، يقول لهم إنها زوجته، رافعا رأسه بزهو، وتطرق هى فى خزى. عاد الحفيد من البحر ذات يوم، رأى جده عاريا فى الفراش، ملامح وجهه رمادية متجمدة، عيناه مفتوحتان جاحظتان فى دهشة، هى واقفة إلى جواره تلف جسمها بالبشكير. مد الحفيد يده وأغلق جفون جده، غطاه بالملاءة البيضاء من الرأس إلى القدمين، همس فى أذنها : السن والحب ليس لهما دواء؟

انكفأت فوق صدره العريض تكتم الضحك، تنشج ببكاء عالى الصوت، تدفن نهديها بين ضلوعه القوية، تشم رائحة البحر، كانت الأم المثالية الحائزة على الوسام قد ماتت، وصلتها ورقة طلاقها بالبريد فرقدت ولم تنهض، لم تأخذ إلا الكفن الأبيض، أما الزوجة العروس فقد أخذت الشاليه على البحر، ونصيبها الشرعى من رصيد البنك وشركة الكيماويات.

الأرملة الشابة أصبحت ترتدى المايوه الأسود، حدادا على زوجها الميت، تلف شعرها بحجاب من الترتر، تتمشى على الساحل تتمايل، يمسك يدها الحفيد الطبيب، يسير منتشيا منفوشا كالديك، تبربش بعينيها الناعستين من بين الرموش، تفحص العجائز الجالسين تحت الشماسى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هكذا مصر و نظامها
عماد عبد الملك بولس ( 2012 / 6 / 26 - 08:00 )
لكأنك - سيدتي - تروين حكاية مصر !!!!! التي أهينت بعد عز و سيادة، في ردهات السلاطين المتعاقبين علي بيتها المعمور المغري، و هي بصباها الخالد و شبابها المتجدد و مرض العنقاء يسقمها بخلود غير اختياري !!!! بعد أن فقدت ثروتها الفكرية، اقتنصها جوعها إلي خدمة السادة المتعاقبين الآسرين الغاصبين

غير أن ثروتهم يغتصبها آخر في الواقع!!!!! و كل إرثها سيضيع مؤكدا، في فراش غاصب آخر حتي تدرك أن صباها و شبابها هما الثروة، و أن الفكر هو حصنها، و أنها لن تنجو إلا إذا قررت أنها ليست عانسا بل خالدة!!!! و أن داءها - الخلود - يلزمها بأشياء أخري نحو أبنائها الذين ضاعوا بين الغاصبين

ستعود كإيزيس الوفية لتلملم أشلاء أوزوريس المغدور بحبه و بنبله و لتلد له حورس آخر يهزم ست مرة أخيرة

لن تهان بعد أو تتقلب في فراش غير فراش عريسها بعد

ستعود و سنعود


2 - شكر ودعوة لقراءة عمل روائي بالفرنسية إن أمكن ذلك
الحايل عبد الفتاح ( 2012 / 6 / 27 - 17:34 )
أولا أشكرك سيدتي الأستاذة نوال السعداوي على عطائك جرأة مواقفك. فأنت تشفين غليلي حين أشعر بالقمع الفكري الذي نتعرض له بالدول العربية الرجعية.
ربما قد أختلف معك في بعض النقاط الفلسفية ( التي تنبني عليها أفكار أخرى) لكننا ( في نظري) لا نختلف في المضمون ألا وهو احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التعبير كمخرج للعالم العربي.
فقد سبق لي أن قرات لعدة إنتاجاتك الفكرية المحترمة وأرى في بعضها انسجاما مع فكري ككاتب حر لا انتمي لأي فصيلة سياسية.
هذا وأود أنني أود أن أتواصل معك مباشرة أو عبر وسيلة من وسائل التواصل لأقترح عليك بعض كتاباتي باللغة الفرنسية أو العربية لتعطيننا رأيك فيها.
فأنا رجل قانون ( محام من المغرب-الرباط) ولي أعمال أود أن تكون سندا لكسر القيود الفكرية المتسلطة على الفكر العربي-الإسلامي
وإذا سمحت لك ظروفك فانا مستعد لاستقبالك بالمغرب لندوة أمام هيئة المحامين وغيرهم بالمغرب...
تحياتي الخالصة سيدتي الحترمة.
.


3 - الفساد الثقافي
عبد الله اغونان ( 2012 / 6 / 27 - 18:36 )
من الفساد الثقافي النزعة النسوانجية التي تتصف بها بعض النساء اذ حاول العقلاء الحد من النوعة الذكوريةفاذا بالنزعة النسوية تطغى لتنحاز الى المرأة فقط لانها امرأة تطالب بالكوتا والمناطفة والمناصب السياسية فقط لكونها امراة ويتواصل الصراع بين الاتجاهات النسوية نفسها علمانية واسلامية وفلولية
الكتابة ليس وسيلة سياسية هناك وسائل دمقراطية تمكن المحنكة من بنات حواء من الوصول
فالتسلكها عنجدارة واستحقاق

اخر الافلام

.. تحدي الثقة بين شيرين بيوتي و جلال عمارة ???? | Trust Me


.. حملة بايدن تعلن جمع 264 مليون دولار من المانحين في الربع الث




.. إسرائيل ترسل مدير الموساد فقط للدوحة بعد أن كانت أعلنت عزمها


.. بريطانيا.. كير ستارمر: التغيير يتطلب وقتا لكن عملية التغيير




.. تفاؤل حذر بشأن إحراز تقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحماس للت